فصل: المسألة الثانية: في {فأحياكم}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الثانية: في {فأحياكم}:

اعلم! أن أعجبَ معجزات القدرة وادقّها الحياةُ.. وكذا هي أعظم كل النعم وأظهر كل البراهين على المبدأ والمعاد.
أما وجه أدقيتها وغموضها فهو أن ادنى أنواع الحياة حياة النبات، وأن أوّل درجاتها تنبه العقدة الحياتية في الحبة. وهذا التنبه مع شدة ظهوره وعمومه والألفة به من زمان آدم إلى الآن قد بقي مستورًا عن نظر حكمة البشر.
وأما وجه كونها أعظم النعم فهو: أن الجسم الذي لاحياة فيه ليس له مناسبة إلاّ مع مكانه المشخص وما به يختلط فيكون يتيمًا منفردًا ولو كان جبلا. لكن إذا رأيت جسما ولو صغيرًا كالنحل مثلا وقع فيه الحياة حصل له دفعةً مناسباتٌ مع عموم الكائنات وتجارة مع الأنواع حتى يحقّ له أن يقول: مكاني الكائنات وهي كملكي.
إذ إذا انتقل إلى الحياة الحيوانية تراه يجول بحواسه ويتصرّف بها في أطراف الكائنات فيحصل بينه وبين أنواعها اختصاص ومبادلة ومحبة.. ولاسيما إذا ترفع إلى طبقة الإنسان ية تراه بنور العقل يجول في عوالم. فكما يتصرّف في العالم الجسماني يجول في العالم الروحاني، ويطوف في العالم المثالي. وكما يسافر هو إلى تلك العوالم؛ كذلك تسافر هي إليه بالتمثل في مرآة روحه حتى يستحق أن يقول: أن العالم مخلوق لأجلي بفضل الله تعالى.
فتتنوع حياته وتنبسط إلى الحياة المادية والمعنوية والجسمانية والروحانية التي يشتمل كل منها على طبقات. فحق أن يقال: كما أن الضياء سبب لظهور الألوان والأجسام؛ كذا أن الحياة كشافة لكافة الموجودات وسبب لظهورها، وأن الحياة هي التي تصيّر ذرّة كعالم. وأن الحياة هي الوسيلة لإِحسان مجموع العالم لذي حياة برأسه مع عدم المزاحمة والانقسام إلاّ في أقل قليل بين البشر.
وأما وجه كونها أظهر الدلائل على الصانع وكذا على الحشر:
فاعلم! أن انتقال بعض ذرات جامدة وانقلابها دفعة إلى هيئة ووضعية تخالف الوضعية الأولى- بلا توسط سبب معقول- برهان أيّ برهان. حتى أن الحياة لكونها أشرف الحقائق وأنزهها، لا خسّة فيها بوجهٍ ولا رَيْن عليها، لا في جهة الملك ولا في جهة الملكوت، فكلا وجهيها لطيفان، حتى أن حياة أخس حيوان جزئي أيضًا عالية. ولهذا السر لم يتوسط بينها وبين يد القدرة سبب ظاهريّ؛ إذ مباشرتها لا تنافي عزة القدرة، مع أن وضع الأسباب الظاهرية- كما مر- لمحافظة عزة القدرة في مباشرة الأمور الخسيسة في ظاهر النظر.
وأما وجه كونها أظهر الدلائل على المبدأ والمعاد فقد سمعت آنفا، فلنلخص لك وهو أن من نظر في هذه الحياة وتدرج بنظره إلى الأطوار المترتبة إلى أبسط صور الجسم يرى أجزاء منتثرة في عالم الذرات. ثم يبصرها قد تلبس في عالم العناصر صورًا أخرى. ثم يصادفها في عالم المواليد في وضعية أخرى.. ثم يلاقيها في نطفة ثم في علقة ثم في مضغة. ثم يراها دفعة بانقلاب عجيب قد لبست صورة ويرى في هذه الانقلابات حركات منتظمة على دساتير معينة يتراءى منها: أن كل ذرة كانت معينة في أول الأطوار كأنها موظفة للذهاب إلى الموضع المناسب من جسد الحي، فيتفطن الذهن إنها بقصد تُساق وبحكمة تُرسل، وكانت الحياة الثانية في نظره أهون وأسهل وأمكن بدرجات فيقنع بها قلبه بالطريق الأَولى. فهذه الجملة كالدليل للاحقتها والكل معا برهان على الانكار المستفاد من {كيف}.

.المسألة الثالثة: في {ثم يميتكم}:

اعلم! أن آية: {خلق الموت والحياة} تدل على أن الموت ليس إعدامًا وعدمًا صرفًا، بل تصرف، وتبديل موضع، واطلاق للروح من المحبس. وكذا أن ما وجد في نوع البشر إلى الآن من امارات غير معدودة، ونَجَمَ من إشارات غير محدودة؛ القت إلى الأذهان قناعة وحدسا بأن الإِنسان بعد الموت يبقى بجهة، وأن الباقي منه هو الروح. فوجود هذه الخاصة الذاتية في فرد يكون دليلا على وجودها في تمام النوع للذاتية. ومن هنا تكون الموجبة الشخصية مستلزمة للموجبة الكلية، فحينئذ يكون الموت معجزة القدرة كالحياة. لا أنه عدمٌ علتُه عدمُ شرائط الحياة.
فإن قلت: كيف يكون الموت نعمة حتى نُظِّم في سلك النِعَم؟
قيل لك: أما:
أوّلا: فلأنه مقدمة للسعادة الأبدية، ولمقدمة الشيء حكم الشيء حُسنا وقبحًا؛ إذ مايتوقف عليه الواجب واجب وما ينجر إلى الحرام حرام.
وثانيا: فلأن الموت عند أهل التحقيق من المتصوِّفين نجاة للشخص بخروجه عن نظير المحبس المشحون بالحيوانات المضرّة إلى صحراء واسعة.
وثالثا: فلأنه باعتبار نوع البشر نعمة عظمى؛ إذ لولاها لوقع النوع في سفالات مدهشة.
ورابعا: فلأنه باعتبار بعض الأشخاص نعمة مطلوبة إذ بسبب العجز والضعف لا يتحمل تكاليف الحياة وضغط البليات وعدم شفقة العناصر، فالموت باب فوزه.

.المسألة الرابعة: في {ثم يحييكم}:

اعلم! أن باشارة آية: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَاَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} وكذا برمز تعقيب هذه بثم إليه ترجعون مع النظر إلى ايجاز القرآن، إيماء إلى حياة القبركما تدل على حياة الحشر.
فإن قلت: إذا اُحرق انسان واُعطي رماده للهواء كيف يتصور فيه الحياة القبرية؟
قيل لك: أن البنية ليست شرطا للحياة عند أهل السنة والجماعة فيمكن تعلق الروح ببعض الذرات.
فإن قلت: كيف يتصور عذاب القبر مع أنه لو وضعت بيضة على صدر جنازة بأيام لا يحس فيها أدنى حركة فكيف الحياة والعذاب؟
قيل لك: أن العالم المثاليّ قد بُرهن عليه في موقعه، حتى أن وجوده قطعي عند المحققين الإلهيين. وخاصةُ ذلك العالم تحويلُ المعاني أجسامًا والأعراضُ جواهرَ والمتغيرات ثابتةً. والعيون الناظرة من عالم الشهادة إليه، الرؤيا الصادقة والكشف الصادق والأجسام الشفافة فانها تلوِّح بوجوده. ثم أن عالم البرزخ اثبتُ حقيقةً من عالم المثال الذي هو تمثاله. وظل هذا العالم عالم الرؤيا، وظل هذا عالم الخيال، ونظير هذا الاجسام الشفافة كالمرآة. فإذ تفهمت هذا فانظر في عالم الرؤيا وتأمل في شخص نام عندك وهو ساكن وساكت مع أنه في عالمه يقاتل ويضارب فيصير مجروحا أو تلدغه الحية فيتألم. ولو أمكن لك أن تدخل في رؤياه وتقول له: يا هذا! لا تعجز ولا تغضب فإن هذا ليس حقيقة وحلفتَ له ألف يمين لما يصدقك. ويقول لك: هذا ألمي يوجعني وهذا جرحي! أما ترى هذا وبيده السيف، وأما ترى الحية تهجم عليّ؛ إذ تجسم معنى وجع الكتف أو نزلة الرأس في صورة سيف جارح، إذ النتيجة واحدة. أو تصوَّر معنى الخيانة الموجعة لقلبه في لباس الحية إذ الألم واحد. فيا هذا! إذ ترى ذاك في ظل عالم المثال أفلا تصدقه في عالم البرزخ الذي هو أثبت حقيقة بدرجات وأبعد منا؟ أما {يحييكم} بالنظر إلى الحياة الأخروية. فاعلم! أن تلك الحياة نتيجة لكل العالم. ولولاها لم تكن الحقيقة ثابتة ولانقلبت الحقائقُ- كالنعمة- نقمةً. وقس!.. ولقد لخصنا دلائلها في تفسير {وبالآخرة هم يوقنون}.

.المسألة الخامسة: في {ثم إليه ترجعون} آخر العقد من تلك السلسلة:

اعلم! أن الخالق جلّت قدرته مزج الاضداد في عالم الكون والفساد لِحِكَم دقيقة ووضع أسبابا ظاهرية ووسائط اظهارًا لعزته فترتبت سلسلة العلل والمعلولات. ثم لما تصفّت الكائنات وتميزت وتحزبت في الحشر ارتفعت الأسباب واُسقطت الوسائط فارتفع الحجاب وكُشف الغطاء فيرى كلٌّ صانعَه ويعرف مالكه الحقيقي.
تذييل لخلاصة نظم الجمل: اعلم! أنه تعالى لما أنكر كفرهم الواقع بطريق الاستفهام الاستخباريّ في {كيف} ودعا الناس إلى التعجب منه؛ برهن عليه بما بعد الواو الحالية أي باراءة أربعة انقلابات عظيمة كلها وكل منها شاهد على وجوب الإيمان. ثم أن كل انقلاب منها مشتمل على أطوار ومراتب، ومقدمة ومُعدّة للانقلاب الذي يليه فمن الطور الأول من الانقلاب الأول إلى الطور الآخر من الانقلاب الآخر يتجدد أصلُ جسد الحي دائما فيلقى قشرًا ويلبس الأكمل ثم يخلعه ويلبس صورة أعلى ثم يلقيها أيضًا فيلبس صورة أحسن وهلم جرا!.. فهو دائمًا في استبدال صورة بأخرى كاملة إلى أن يصل إلى أعلى الأعالي فيستقر بتقرر السعادة الأبدية، وكلها بنظام معيّن وقانون منتظم. فأشار إلى أول الانقلابات بقوله: {وكنتم أمواتا} وهذا مشتمل على أطوار آخر الأطوار ينتج مآل {فأحياكم} الدال على الانقلاب الثاني الذي هو أعجب حقائق العالم المشتمل على أطوار آخرها تنتهي بانقلاب {ثم يميتكم} المشتمل أيضًا على أطواره البرزخي التي تتم بانقلاب {ثم يحييكم} المشتمل على أطواره القبرية ثم الحشرية المختومة بقوله: {ثم إليه ترجعون}. فمن أمعن في هذه الانقلابات كيف يتجاسر على الانكار؟
ولنشرع في نظم هيئات جملة جملة:
أما الجملة الأولى أعني {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا} فالاستفهام فيها لتوجيه ذهنهم إلى قباحتهم ليروا بأنفسهم فينصفوا فيقرّوا.
و{كيف} إشارة إلى الاستدلال على عدم الكفر بانكار الحال اللازم. والخطاب في {تكفرون} إيماء كما مر إلى شدة الغضب ولم يقل لا تؤمنون إشارة إلى شدّة تمردهم إذ يتركون الإيمان الذي عليه الدلائل ويقبلون الكفر الذي على بطلانه البراهين. وواو الحالية في {وكنتم} تشير إلى مقدر، إذ الجملتان ماضيتان. والأُخريان مستقبلتان كلاهما لايوافق قاعدة مقارنة الحال لعامل ذي الحال، فإذا التقدير والحال انكم تعلمون.
فإن قلت: أنهم وأن علموا بالموت والحياة الأُولى لكنهم لايعلمون انهما من الله، وكذلك لايقرون بالحياة الثانية ولايصدقون بالرجوع إليه تعالى؟
قيل لك: من البلاغة تنزيل الجاهل منزلة العالم عند ظهور دلائل ازالة الجهل. فلما كان التفكر في أطوار الموت الأول والحياة الأُولى ملجأ إلى الاقرار بالصانع وكان العلم بها مقنعا للذهن بوقوع الحياة الثانية؛ كانوا كأنهم عالمون بهذه السلسلة. والخطاب في {كنتم} إشارة إلى أن لهم في عالم الذرات أيضًا وجودًا وتعينا. لا أن الذرات كيفما اتفقت صارت أجسادَهم المعينة بالتصادف. وإيثار {أمواتا} على جماد أو ذرات إيماء إلى مآل {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}.
وأما جملة {فأحياكم}:
فإن قلت: الفاء للتعقيب والاتصال مع تخلل تلك الأطوار وتوسط مسافة طويلة إلى الحياة؟
قيل لك: الفاء للإشارة إلى منشأ دليل الصانع وهو أن انقلابها من الجمادية إلى الحيوانية دفعةً من غير توسط سبب معقول يُلجئ الذهن إلى الاقرار بالصانع. وكذا أن الأطوار في حالة الموات ناقصة غير ثابتة شأنها التعقيب. وإيثار {أحياكم} على صرتم أحياء للتصريح، أي صرتم أحياء ولايمكن ذلك بغير قدرة الصانع. فانتج أن الله تعالى هو الذي أحيا.
وأما جملة {ثم يميتكم} بدل تموتون فإشارة كما مر إلى أن الموت تصرف عظيم للقدرة بمقياس القدر. ألا ترى أن من استوفى عمره الطبيعيّ ثم انتهى إلى الأجل اقلُّ قليل. فيتيقظ الذهن إلى أن الموت ليس نتيجة طبيعية. فالموت انحلال الجسد لا فناء الروح بل اطلاقه.
وأما جملة {ثم يحييكم} فثم إشارة إلى توسط عالم البرزخ ذي العجائب.
وأما جملة {ثم إليه ترجعون} فثم إشارة إلى توسط الغطاء العظيم. وترجعون إشارة إلى كشف الغطاء وطرد الأسباب واسقاط الوسائط.
فإن قلت: الرجوع إلى الله تعالى يقتضي أن يكون المجئ منه اوّلا، ومن هنا توهمَ بعضٌ الاتصالَ واشتبه بعض أهل التصوف.
قيل لك: أن في الدنيا وجودًا وبقاء وكذا في الآخرة وجود وبقاء. فالوجود في الدنيا يصدر من يد القدرة بلا واسطة وأما البقاء المحفوف بالتحليل والتركيب والتصرف والتحول في عالم الكون والفساد فيتداخل بينه العلل وتتوسط الأسباب للحكمة المذكورة سابقا. وأما في الآخرة فالوجود وكذا البقاء بلوازمه وتركيباته يظهر بالذات من يد القدرة ويعرف كلُّ شيء مالكَه الحقيقي. فإذا تأملت في هذا علمت معنى الرجوع. اهـ.

.بحوث مهمة:

قال في الأمثل:

.1- التناسخ أو عودة الأرواح:

الآية المذكورة أعلاه من الآيات التي ترفض بوضوح فكرة التناسخ، فالمعتقدون بالتناسخ يؤمنون بأن الإِنسان يعود بعد الموت ثانية إلى هذه الحياة، بعد أن تحلّ روحه في جسم آخر ونطفة أخرى، ويحيا في هذه الدنيا حياة أخرى، وقد تتكرر هذه العودة مرات، وتكرر هذه الحياة يسمى بالتناسخ أو عودة الأرواح.
الآية تصرح بعدم وجود أكثر من حياة واحدة بعد الموت، هي حياة البعث والنشور. وبعبارة أخرى توضح الآية أن للإنسان حياتين ومماتين لا أكثر، وكان الإنسان ميتًا يوم كان جزءًا من الطبيعة غير الحيّة، ثم أحياه الله يوم ولد، ثم يميته، ثم يعيده. ولو كان التناسخ صحيحًا لكان للإِنسان أكثر من مماتين وحياتين.
هذا المفهوم مذكور في آيات أخرى أيضًا، سنشير إليه في موضعه (196).
فكرة التناسخ إذن مرفوضة قرآنيًا، كما أنّه مرفرضة عقليًا، وهي نوع من الرجعية والانتكاس في قانون التكامل (197).
جدير بالذكر أنّ هذه الآية لا تشير إلى الحياة البرزخية الحياة بين الموت والنشور كما توهم البعض، بل إلى الحياة بعد الموت في هذه الدنيا إحياء الإِنسان بعد تكونه من مواد طبيعيّة ميتة، ثم الموت بعد هذه الحياة الدنيوية، ثم الحياة الأخرى، واستمرار المسيرة التكاملية نحو الله.

.2- السّماوات السّبع:

كلمة سماء تشير إلى جهة عليا، ولها مفهوم واسع ذو مصاديق مختلفة. ولذلك كان لها استعمالات عديدة في القرآن الكريم:
1- أطلقت أحيانًا على الجهة العليا المجاورة للأرض كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَكَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَة طَيِّبَة أصلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}.
2- وعنى بها القرآن تارة المنطقة البعيدة عن سطح الأرض: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا}.
3- عبّر القرآن بها في موضع آخر عن الغلاف الجوي المحيط بالأرض: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا}. لأن هذا الغلاف يقي الكرة الأرضية من الصخور السماوية النيازك التي تتجه إلى الأرض لي ونهارًا بفعل جاذبية الأرض، لكن اصطدام هذه الصخور بجوّ الأرض يؤدي إلى اشتعالها ومن ثم تحوّلها إلى رماد.
4- وأراد القرآن بالسماء في موضع آخر الكرات العليا: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ}.
نعود الآن إلى السماوات السبع لنرى ما المقصود من هذا العدد. تعددت آراء المفسرين والعلماء المسلمين في ذلك.
1- منهم من قال إنها السّيارات السّبع في اصطلاح الفلكيين القدماء: أي عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل والقمر والشمس.
2- ومنهم من قال إن المقصود بها هو الطبقات المتراكمة للغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية.
3- ومنهم من قال إن العدد سبعة لا يراد به هذا العدد المعروف، بل يراد به الكثرة، أي أن معنى السماوات السبع هو السماوات والكرات الكثيرة في الكون.
ولهذا نظير في كلام العرب وفي القرآن، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَة أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ}.
وواضح أن المقصود بالسبعة في هذه الآية ليس العدد المعروف، لأن علم الله لا ينتهي حتى ولو أن البحر يمده من بعده الآلاف المؤلفة من الأبحر.
4- الأصح في رأينا أن المقصود بالسماوات السبع، هو وجود سبع سماوات بهذا العدد. وتكرر هذه العبارة في آيات الذكر الحكيم يدل على أن العدد المذكور في هذا الآيات لا يعني الكثرة، بل يعني العدد الخاص بالذات.
ويستفاد من آيات أخرى أن كل الكرات والسيّارات المشهودة هي جزء من السماء الأولى، وثمة ستة عوالم أخرى خارجة عن نطاق رؤيتنا ووسائلنا العلمية اليوم. وهذه العوالم السبعة هي التي عبّر عنها القرآن بالسماوات السبع.
يقول تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابيحَ}.
ويقول أيضًا: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَة الْكَوَاكِبِ}.
ويتضح من هاتين الآيتين أن ما نراه وما يتكون منه عالم الأفلاك هو جزء من السماء الأولى، وما وراء هذه السماء ست سماوات أخرى ليس لدينا اليوم معلومات عن تفاصيلها.
نحن نرى اليوم أنه كلما تقدمت العلوم الناقصة للبشر اكتشفت عجائب ومجاهيل عظيمة. علم الفلك تقدّم إلى مرحلة بعيدة جدًا في الرصد عن طريق التلسكوبات، ثم توقفت قدرة الرؤية إلى أكثر من ذلك.
أبعد ما اكتشفته دوائر الأرصاد الفلكي العالمية حتى الآن مسافة في الكون تعادل ألف مليون مليار سنة ضوئية. والراصدون يعترفون أن أقصى ما اكتشفوه هو بداية الكون لا نهايته. وما يدريك أن العلم سيكتشف في المستقبل سماوات وعوامل أخرى!
من الأفضل أن نسمع هذا الحديث عن لسان مرصد عالمي كبير.