فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومحصّل هذا أنّ مَضمون الجزاء مستمرُّ الحصول في جميع الأحوال في فرض المتكلم، فيأتي بجملة الشرط متضمنّةً الحالةَ التي هي عند السامع مظنةُ أن يحصلُ فيها نقيضُ مضمون الجواب.
ومن هذا قول طفيل في الثناء على بني جعفر بن كِلاب:
أبَوْا أنْ يمَلُّونا ولَوْ أنَّ أمَّنا ** تلاَقِي الذي لاَقَوْه منا لَمَلَّتِ

أي فكيف بغيرِ أمِّنا.
وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا عند قوله تعالى: {ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} في هذه السورة [23]، وكنا أحلنا عليه وعلى ما في هذه الآية عند قوله تعالى: {ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة} الآية في سورة [الأنعام: 111].
والمعنى: لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، أي في وقت ما تواعدتم عليه، لأن غالب أحوال المتواعِدَين أن لا يستوي وفاؤهما بما تواعدا عليه في وقت الوفاء به، أي في وقت واحدٍ، لأنّ التوقيت كان في تلك الأزمان تقريبًا يقدّرونه بأجزاء النهار كالضحى والعَصر والغروب، لا ينضبط بالدرج والدقائق الفلَكية، والمعنى: فبالأحرى وأنتم لم تتواعدوا وقد أتيتم سواء في اتّحاد وقت حلولكم في العُدوتين فاعلموا أنّ ذلك تيسير بقدر الله لأنّه قدر ذلك لتعلموا أنّ نصركم من عنده على نحو قوله: {وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى} [الأنفال: 17].
وهذا غير ما يقال، في تقارب حصول حالٍ لأناس: كأنهم كانوا على ميعاد كما قال الأسود بن يَعفر يرثي هلاك أحلافه وأنصاره:
جَرَتِ الرياحُ على محلّ ديارهم ** فكأنهم كانوا على مِيعاد

فإنّ ذلك تشبيه للحصول المتعاقب.
وضمير {اختلفتم} على الوجوه كلّها شامل للفريقين: المخاطبِين والغائبِين، على تغليب المخاطبين، كما هو الشأن في الضمائر مثله.
وقد ظهر موقع الاستدراك في قوله: {ولكن ليقضى الله أمرًا كان مفعولا} إذ التقدير: ولكن لم تتواعدوا وجئتم على غيرِ اتّعاد ليقضي اللَّهَ أي ليحقّق ويُنجز ما أراده من نصركم على المشركين.
ولمّا كان تعليل الاستدراك المفادِ بلكِنْ قد وقع بفعلٍ مسند إلى الله كان مفيدًا أنّ مجيئهم إلى العُدوتين على غير تواعد كان بتقدير من الله عِنايةً بالمسلمين.
ومعنى {أمرًا} هنا الشيء العظيم، فتنكيره للتعظيم، أو يجعل بمعنى الشأن وهم لا يطلقون (الأمر) بهذا المعنى إلاّ على شيءٍ مهمّ، ولعلّ سبب ذلك أنه ما سمّي (أمرًا) لا باعتبار أنّه ممّا يؤمر بفعله أو بعمله كقوله تعالى: {وكان أمرًا مقضيًا} [مريم: 21] وقوله: {وكان أمر الله قدرًا مقدورًا} [الأحزاب: 38].
و{كان} تدلّ على تحقّق ثبوت معنى خبرها لاسمها من الماضي مثل {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} [الروم: 47] أي ثبت له استحقاق الحَقية علينا من قديم الزمن.
وكذلك قوله: {وكان أمرًا مقضيًا} [مريم: 21].
فمعنى {كان مفعولا} أنّه ثبت له في علم الله أنّه يُفعل.
فاشتق له صيغة مفعول من فَعَل للدلالة على أنّه حين قدرت مفعوليته فقد صار كأنّه فُعل، فوصف لذلك باسم المفعول الذي شأنه أن يطلق على من اتّصف بتسلط الفعل في الحال لا في الاستقبال.
فحاصل المعنى: لينجز الله ويوقع حدثًا عظيمًا متّصفًا منذ القدم بأنّه محقّق الوقوع عند إبّانه، أي حقيقًا بأن يُفعل حتّى كأنّه قد فعل لأنّه لا يمنعه ما يحفّ به من الموانع المعتادة.
وجملة: {ليهلك من هلك عن بينة} في موضع بدل الاشتمال من جملة: {ليقضي الله أمرًا كان مفعولا} لأنّ الأمر هو نصر المسلمين وقهر المشركين وذلك قد اشتمل على إهلاك المهزومين وإحياء المنصورين وحَفّه من الأحوال الدالّة على عناية الله بالمسلمين وإهانته المشركين ما فيه بيّنه للفريقين تقطع عذر الهالكين، وتقتضي شكرَ الأحياء.
ودخول لام التعليل على فعل {يهلك} تأكيد للام الداخلة على ل {يقضي} في الجملة المبدل منها.
ولو لم تدخل اللام لقيل: يَهْلِكُ مرفوعًا.
والهلاك: الموت والاضمحلال، ولذلك قوبل بالحياة.
والهَلاك والحياة مستعاران لمعنى ذهاب الشوكة، ولمعنى نهوض الأمة وقوتها، لأنّ حقيقة الهلاك الموت، وهو أشد الضرّ فلذلك يشبَّه بالهلاك كلّ ما كان ضُرًّا شديدًا، قال تعالى: {يهلكون أنفسهم} [التوبة: 42]، وبضدّه الحياة هي أنفع شيء في طبع الإنسان فلذلك يشبه بها ما كان مرغوبًا، قال تعالى: {لينذر من كان حيًا} [يس: 70] وقد جمع التشبيهين قوله تعالى: {أو من كان ميتًا فأحييناه} [الأنعام: 122].
فإن الكفار كانوا في عزّة ومنعة، وكان المسلمون في قِلّة، فلما قضى الله بالنصر للمسلمين يوم بدر أخفق أمر المشركين ووهنوا، وصار أمر المسلمين إلى جدّة ونهوض، وكان كلّ ذلك، عن بينة، أي عن حجّة ظاهرة تدلّ على تأييد الله قومًا وخذلِه آخرين بدون ريببٍ.
ومن البعيد حمل {يهلك} و{يحيى} على الحقيقة لأنّه وإن تحمَّله المعنى في قوله: {ليهلك من هلك} فلا يتحمّله في قوله: {ويحيى ممن حي} لأنّ حياة الأحياء ثابتة لهم من قبل يوم بدر.
ودلّ معنى المجاوزة الذي في {عن} على أنّ المعنى، أن يكون الهلاك والحياة صادرين عن بيّنة وبارزين منها.
وقرأ نافع والبَزّي عن ابن كثير وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف {حَييَ} بإظهار الياءَيْن، وقرأه البقية: {حَيَّ} بإدغام إحدى الياءين في الأخرى على قياس الإدغام وهما وجهان فصيحان.
و{عن} للمجاوزة المجازية، وهي بمعنى (بعد)، أي: بعد بيّنة يتبيّن بها سبب الأمرين: هلاك من هلك، وحياة من حيي.
وقوله: {وإن الله لسميع عليم} تذييل يشير إلى أنّ الله سميع دعاء المسلمين طلب النصر، وسميع ما جرى بينهم من الحوار في شأن الخروج إلى بدر ومن مودّتهم أن تكون غير ذات الشوكة هي إحدى الطائفتين التي يلاقونها، وغير ذلك، وعليم بما يجول في خواطرهم من غير الأمور المسموعة وبما يصلح بهم ويبني عليه مجد مستقبلهم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى}
ساعة تسمع {إذ} تعرف أنها ظرفٌ، ومعناها: اذكر هذا الوقت، اذكر إذ أنتم بالعدوة الدنيا، والعدوة شاطيء الوادي وجانبه. وهي جبل مرتفع؛ لأن الجبال إن كان بينها فضاء نسمي هذا الفضاء واديًا، فيكون الوادي هو الفضاء بين جبلين، ويكون المكان العالي الذي على يمين الوادي وعلى شماله عدوة.
وقوله تعالى: {بِالْعُدْوَةِ الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى} [الأنفال: 42].
توضيح وبيان لجغرافية المعركة، وأهل الإسلام كانوا من ناحية المدينة، وقال تعالى: {الدنيا} تأنيث الأدنى أي الأقرب، فالمسلمون كانوا قريبين من المدينة. وكان الكفار قادمين من مكة، ونزلوا في المكان الأبعد.
فقوله تعالى: {أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا} [الأنفال: 42].
أي في مكان قريب، وموقع غزوة بدر- كما نعلم- قريب من المدينة، أما كفار قريش فقد جاءوا من مكة. وبذلك جاءوا من مكان بعيد عن المدينة لذلك سماه الحق تبارك وتعالى هنا: {بالعدوة القصوى} أي في المكان البعيد عن مكة، ويتابع المولى سبحانه وتعالى قوله: {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ}
والركب هو العير أي الجمال التي تحمل التجارة، وكان المسلمون قد خرجوا ليأخذوها. ولما عرف أبو سفيان بذلك غيّر سير القافلة واتجه إلى ساحل البحر، ويتكلم الحق سبحانه وتعالى عن سلوك أبي سفيان حينما أمر أن تسير القوافل بجانب ساحل البحر. وساحل البحر- كما هو معلوم- يكون دائمًا أسفل من أي أرض يابسة. ويُتخذ سطح البحر إلى الآن مقياسًا للارتفاعات والانخفاضات بالنسبة للمقاييس البشرية، فيقال: هذا ارتفاعه مائة متر أو مائتا متر أو أكثر أو أقل بالنسبة لمستوى سطح البحر. وساحل البحر بالنسبة لسطح البحر متساو، أما الأرض والجبال والوديان فهي تختلف في العلو والانخفاض فلا تصلح مقياسًا للارتفاعات والانخفاضات، بينما سطح البحر مستطرق استطراقًا سليمًا، بحيث لا توجد في سطح الماء بقعة عالية وأخرى منخفضة.
وهكذا يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى أن أسفل ما في الأرض هو ساحل البحر وقد اتخذ الناس سطح البحر مقياسًا للارتفاعات.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد ولكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42].
أي لو أن المؤمنين اتفقوا مع الكفار على موعد ومكان، لجاء بعضهم متأخرًا عن الموعد أو منحرفًا عن المكان، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي حدد موعد المعركة ومكانها بدقة تامة فتم اللقاء في الموعد والمكان المحددين ليتم الأمر كما قدره الله سبحانه وتعالى، والأمر هو معركة بدر، وليلقى المؤمنون الكافرين، لينتصروا عليهم.
{لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].
وهل يعني قول الحق {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ} أن الهلاك هنا هو الموت؟ لقد مات أيضًا بعض المؤمنين واستشهدوا.
وقول الحق: {ويحيى مَنْ حَيَّ} وهل الحياة هنا تعني مجرد البقاء على قيد الدنيا؟. لقد عاش أيضًا من الكفار كثير رغم أنهم خاضوا معركة بدر. إذن فليس معنى الهلاك هنا الموت، وليس معنى الحياة النجاة، ولكن قول الحق {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} تنطبق على الكفار سواء الذين ماتوا أو الذين نجوا؛ لأن الهلاك هنا هلاك معنوي، فمن قتل من الكفارهلك. ومن نجا هلك أيضًا؛ لأنه بقتاله المؤمنين قد أورد نفسه مورد التهلكة بالعذاب الذي ينتظره في الآخرة، إلا إذا أدركته رحمة الله وآمن قبل أن يأتي أجله. والذين حيوا هم المؤمنون، والمراد- إذن- ليكفر من كفر، ويؤمن من آمن عن يقين.
ولقد قلنا من قبل: إنَّ الحق سبحانه وتعالى أطلق الحياة على معان متعددة، فهناك الحياة التي فيها الحركة والحس، وهذه تتحقق ساعة أن تدخل الروح الجسد ليكون للإنسان حياة. وهذه الحياة هي للمؤمن والكافر. ولكن الحياة بهذا الشكل؛ حياة منتهية إلى موت غير موقوت ننتظره في أي لحظة. ولكن الحياة المطلوبة لله هي الحياة التي لا يأتي فيه موت. ولا يكون فيها تعب وشقاء، تلك هي الحياة الآخرة، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
أي أنها الحياة الحقيقية. إذن فالذي يؤمن إيمانًا حقيقيا يعطيه الله تعالى حياة الخلود في الجنة. ولذلك نستمع جميعًا إلى قول الحق تبارك وتعالى: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 42].
ومنا من يتساءل: كيف يخاطب الله الناس وهم أحياء ويقول لهم: {إذا دعاكم لما يحييكم}؟ ونقول: إن الحق سبحانه وتعالى يريد لنا بالإيمان حياة خالدة في الجنة. ثم يختم الحق سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}
ومعنى سميع وعليم أنه سبحانه وتعالى مدرك لكل الأشياء والخواطر، فما بالسمع يسمعه، وما بالعين يراه، وما في الصدر يعلمه، وما هو في أي حس من أحاسيس الإنسان هو عليم به؛ لأنه أحاط بكل شيء علما.
ووسائل الإدراك العلمي في الإنسان هي السمع والبصر والذوق واللمس والشم، هذه هي الحواس التي تعطي العلم للإنسان الذي لم يكن يعلم شيئًا.
وهو سبحانه وتعالى القائل: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
أي أن هذه الحواس هي التي تعطي الإنسان ما لم يكن قد علمه، وكلما علم شيئًا، فليقل: الحمد لله.
ويعلمنا الله سبحانه وتعالى كيف يتم قدره فيقول: {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ...}. اهـ.