فصل: قال الشوكاني في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيتين:

{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}
لما أمر الله سبحانه بالقتال بقوله: {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 38] وكانت المقاتلة مظنة حصول الغنيمة، ذكر حكم الغنيمة.
والغنيمة قد قدّمنا أن أصلها إصابة الغنم من العدوّ، ثم استعملت في كل ما يصاب منهم، وقد تستعمل في كل ما ينال بسعي.
ومنه قول الشاعر:
وقد طوّفت في الآفاق حتى ** رضيت من الغنيمة بالإياب

ومنه قول الآخر:
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه ** أنى توجه والمحروم محروم

وأما معنى الغنيمة في الشرع، فحكى القرطبي الاتفاق على أن المراد بقوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شيء} مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر.
قال: ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع.
وقد ادّعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية بعد قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} [الأنفال: 1] وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين، وأن قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر على ما تقدّم أوّل السورة.
وقيل إنها أعني قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} محكمة غير منسوخة، وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليست مقسومة بين الغانمين، وكذلك لمن بعده من الأئمة، حكاه الماوردي عن كثير من المالكية.
قالوا: وللإمام أن يخرجها عنهم، واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين وكان أبو عبيدة يقول: افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ومنّ على أهلها فردّها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئًا.
وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين.
وممن حكى ذلك ابن المنذر، وابن عبد البر، والداودي، والمازري، والقاضي عياض، وابن العربي، والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة بين الغانمين، وكيفيتها كثيرة جدًا.
قال القرطبي: ولم يقل أحد فيما أعلم أن قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} الآية ناسخ لقوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شيء} الآية، بل قال الجمهور: إن قوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شيء} ناسخ، وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله.
وأما قصة فتح مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها، قال: وأما قصة حنين فقد عوّض الأنصار لما قالوا تعطى الغنائم قريشًا وتتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم نفسه، فقال لهم: «أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم». كما في مسلم وغيره.
وليس لغيره أن يقول هذا القول، بل ذلك خاص به.
قوله: {أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شيء} يشمل كل شيء يصدق عليه اسم الغنيمة.
و{مِن شيء} بيان ل ما الموصولة، وقد خصّص الإجماع من عموم الآية الأسارى، فإن الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف.
وكذلك سلب المقتول إذا نادى به الإمام.
وقيل: كذلك الأرض المغنومة.
وردّ بأنه لا إجماع على الأرض.
قوله: {فَأَنَّ للَّهِ خُمْسَه} قرأ النخعي {فإِنَّ للَّهِ} بكسر إن.
وقرأ الباقون بفتحها على {أن} أنّ وما بعدها مبتدأ وخبره محذوف، والتقدير: فحق أو فواجب أن لله خمسه.
وقد اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس على أقوال ستة:
الأوّل قالت طائفة: يقسم الخمس على ستة فيجعل السدس للكعبة، وهو الذي لله، والثاني لرسول الله، والثالث، لذوي القربى، والرابع لليتامى، والخامس للمساكين، والسادس لابن السبيل.
والقول الثاني: قاله أبو العالية والربيع: إنها تقسم الغنيمة على خمسة، فيعزل منها سهم واحد ويقسم أربعة على الغانمين، ثم يضرب يده في السهم الذي عزله، فما قبضه من شيء جعله للكعبة، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة للرسول ومن بعده الآية.
القول الثالث: روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه قال: إن الخمس لنا، فقيل له: إن الله يقول: {واليتامى والمساكين وابن السبيل} فقال: يتامانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا.
القول الرابع قول الشافعي: إن الخمس يقسم على خمسة، وإن سهم الله وسهم رسوله واحد يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورة في الآية.
القول الخامس قول أبي حنيفة: إنه يقسم الخمس على ثلاثة: اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته، كما ارتفع حكم سهمه، قال: ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر وبناء المساجد وأرزاق القضاة والجند.
وروي نحو هذا عن الشافعي.
القول السادس قول مالك: إنه موكول إلى نظر الإمام واجتهاده، فيأخذ منه بغير تقدير، ويعطى منه الغزاة باجتهاد، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.
قال القرطبي، وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: «ما لي ممّا أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم»، فإنه لم يقسمه أخماسًا ولا أثلاثًا، وإنما ذكر ما في الآية من ذكره على وجه التنبيه عليهم، لأنهم من أهم من يدفع إليه.
قال الزجاج محتجًا لهذا القول: قال الله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل} [البقرة: 215] وجائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك.
قوله: {وَلِذِى القربى} قيل إعادة اللام في ذي القربى دون من بعدهم، لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف العلماء في القربى على أقوال: الأول: أنهم قريش كلها، روي ذلك عن بعض السلف، واستدلّ بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما صعد الصفا جعل يهتف ببطون قريش كلها قائلًا: «يا بني فلان يا بني فلان».
وقال الشافعي، وأحمد، وأبو ثور، ومجاهد، وقتادة، وابن جريج، ومسلم ابن خالد: هم بنو هاشم وبنو المطلب لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد»، وشبك بين أصابعهوهو في الصحيح.
وقيل: هم بنو هاشم خاصة، وبه قال مالك، والثوري، والأوزاعي، وغيرهم، وهو مروي عن علي بن الحسين، ومجاهد.
قوله: {إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله} قال الزجاج عن فرقة: إن المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم آمنتم بالله.
وقالت فرقة أخرى: إن {إِن} متعلقة بقوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم} قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح لأن قوله: {واعلموا} يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم، فعلق {إن} بقوله: {واعلموا} على هذا المعنى، أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لأمر الله في الغنائم، فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة.
وقال في الكشاف: إنه متعلق بمحذوف يدلّ عليه {واعلموا} بمعنى: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرب به، فاقطعوا عنه أطماعكم، واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم المجرّد، ولكن العلم المضمن بالعمل والطاعة لأمر الله، لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر. انتهى..
قوله: {وَمَا أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا} معطوف على الاسم الجليل أي: إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا.
و{يَوْمَ الفرقان} يوم بدر، لأنه فرق بين أهل الحق وأهل الباطل.
و{الجمعان} الفريقان من المسلمين والكافرين {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} ومن قدرته العظيمة نصر الفريق الأقلّ على الفريق الأكثر.
قوله: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، بكسر العين في العدوة في الموضعين.
وقرأ الباقون بالضم فيهما.
و{إِذْ} بدل من يوم الفرقان، ويجوز أن يكون العامل محذوفًا، أي واذكروا إذ أنتم.
والعدوة: جانب الوادي.
والدنيا: تأنيث الأدنى، والقصوى: تأنيث الأقصى، من دنا يدنو، وقصا يقصو، ويقال القصيا، والأصل الواو.
وهي لغة أهل الحجاز، والعدوة الدنيا كانت مما يلي المدينة، والقصوى: كانت مما يلي مكة.
والمعنى: وقت نزولكم بالجانب الأدنى من الوادي إلى جهة المدينة، وعدوّكم بالجانب الأقصى منه مما يلي مكة.
وجملة: {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} في محل نصب على الحال، وانتصاب {أَسْفَلَ} على الظرف، ومحله الرفع على الخبرية، أي والحال أنّ الركب في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه.
وأجاز الأخفش والكسائي والفراء رفع أسفل على معنى أشدّ سفلًا منكم، والركب: جمع راكب، ولا تقول العرب ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل، ولا يقال لمن كان على فرس وغيرها ركب.
وكذا قال ابن فارس، وحكاه ابن السكيت عن أكثر أهل اللغة.
والمراد بالركب هاهنا ركب أبي سفيان، وهي المراد بالعير، فإنهم كانوا في موضع أسفل منهم مما يلي ساحل البحر.
قيل: وفائدة ذكر هذه الحالة التي كانوا عليها من كونهم بالعدوة الدنيا وعدوّهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منهم الدلالة على قوّة شأن العدوّ وشوكته.
وذلك لأن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضًا لا يابس بها.
وأما العدوة الدنيا فكانت رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها.
وكانت العير وراء ظهر العدوّ مع كثرة عددهم، فامتنّ الله على المسلمين بنصرتهم عليهم والحال هذه.
قوله: {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} أي: لو تواعدتم أنتم والمشركون من أهل مكة على أن تلتقوا في هذا الموضع للقتال لخالف بعضكم بعضًا.
فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من المهابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم {ولكن} جمع الله بينكم في هذا الموطن {لّيَقْضِيَ الله أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} أي: حقيقًا بأن يفعل من نصر أوليائه وخذلان أعدائه وإعزاز دينه وإذلال الكفر، فأخرج المسلمين لأخذ العير وغنيمتها عند أنفسهم، وأخرج الكافرين للمدافعة عنها.
ولم يكن في حساب الطائفتين أن يقع هذا الاتفاق على هذه الصفة، واللام في {لّيَقْضِيَ} متعلقة بمحذوف، والتقدير: جمعهم ليقضي.
وجملة: {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويَحيا مَنْ حَىَّ} بدل من الجملة التي قبلها، أي ليموت من يموت عن بينة ويعيش عن بينة لئلا يبقى لأحد على الله حجة.
وقيل الهلاك والحياة مستعاران للكفر والإسلام، أي ليصدر إسلام من أسلم عن وضوح بينة، ويقين بأنه دين الحق، ويصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالجة شبهة.
قرأ نافع وخلف وسهل ويعقوب والبزي وأبو بكر {مِنْ حيي} بياءين على الأصل وقرأ الباقون بياء واحدة على الإدغام، وهي اختيار أبي عبيد لأنها كذلك وقعت في المصحف {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: سميع بكفر الكافرين عليم به، وسميع بإيمان المؤمنين عليم به.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: ثم وضع مقاسم الفيء، فقال: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شيء} بعد الذي كان مضى من بدر {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} إلى آخر الآية.
وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم، عن قيس بن مسلم الجدلي قال: سألت الحسن بن محمد بن عليّ بن أبي طالب ابن الحنفية عن قول الله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شيء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} قال: هذا مفتاح كلام، لله الدنيا والآخرة {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى} فاختلفوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين السهمين.
قال قائل منهم: سهم ذي القربى لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال قائل منهم: سهم ذي القربى لقرابة الخليفة.
وقال قائل منهم: سهم النبي صلى الله عليه وسلم للخليفة من بعده.
واجتمع رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله، فكان ذلك في خلافة أبي بكر وعمر.
وأخرج ابن جرير، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة فضرب ذلك في خمسه، ثم قرأ: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم} الآية، قال قوله: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} مفتاح كلام، لله ما في السموات وما في الأرض، فجعل الله سهم الله والرسول واحدًا {وَلِذِى القربى} فجعل هذين السهمين قوّة في الخيل والسلاح، وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يعطيه غيرهم، وجعل الأربعة الأسهم الباقية: للفرس سهمًا ولراكبه سهمًا، وللراجل سهمًا.