فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

{وإذا يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلًا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرًا كان}.
هذه الرؤية هي يقظة لا منام وقلل الكفار في أعين المؤمنين تحقيرًا لهم ولئلا يجبنوا عن لقائهم.
قال ابن مسعود: لقد قلّلوا في أعيننا حتى قلت لرجل: إلى جنبي أتراهم سبعين، قال: أراهم مائة وهذا من عبد الله لكونه لم يسمع ما أعلم به الرسول صلى الله عليه وسلم من عددهم وقلّل المؤمنون في أعين الكفار حتى قال قائل منهم: إنما هم أكلة جزور وذلك قبل الالتقاء وذلك ليجترئوا على المؤمنين فتقع الحرب ويلتحم القتال، إذ لو كثروا قبل اللقاء لأحجموا وتحيّلوا في الخلاص أو استعدوا واستنصروا ولما التحم القتال كثر الله المؤمنين في أعين الكفار فبهتوا وهابوا وفلت شوكتهم ورأوا ما لم يكن في حسابهم كما قال: {يرونهم مثليهم رأي العين} وعظم الاحتجاج عليهم استيضاح الآية البينة من قلتهم أولًا وكثرتهم رخرًا ورؤية كل من الطائفتين يكون بأن ستر الله بعضها عن بعض أو بأن أحدث في أعينهم ما يستقلّون به الكثير هذا إذا كانت الرؤية حقيقة وأما إذا كانت بمعنى التّخمين والحذر الذي يستعمله الناس فيمكن ذلك، وعلى التقديرين لا يندرج الرسول في خطاب {وإذ يريكموهم} لأنه لا يجوز على أن يرى الكثير قليلًا لا حقيقة ولا تخمينًا على أنه يحتمل أن يكون من باب تقليل القدر والمهابة والنجدة لا من باب تقليل العدد ألا ترى قولهم المرء كثيرًا بأخيه وإلى قول الشاعر:
أروح وأغتدي سفهًا ** أكثر من أقلّ به

فهذا من باب التقليل والتكثير في المنزلة والقدر، لا من باب تقليل العدد {ليقضي} أي فعل ذلك ليقضي والمفعول في الآيتين هو القصة بأسرها، وقيل هما المعنيين من معاني القصة أريد بالأوّل الوعد بالنصرة يوم بدر وبالثاني الاستمرار عليها وتقدم تفسير {وإلى الله ترجع الأمور} واختلاف القراء في {ترجع} في سورة البقرة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا} منصوبٌ بمضمر خوطب به الكلُّ بطريق التلوينِ والتعميم معطوفٌ على المضمر السابقِ، والضميرانِ مفعولا يُري وقليلًا حالٌ من الثاني وإنما قللهم في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن إلى جنبه: أتراهم سبعين فقال: أراهم مائة تثبيتًا لهم وتصديقًا لرؤيا الرسولِ صلى الله عليه وسلم {وَيُقَلّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ} حتى قال أبو جهل: إنما أصحابُ محمد أكلةُ جَزور. قللهم في أعينهم قبل التحامِ القتالِ ليجترئوا عليهم ولا يستعدّوا لهم ثم كثّرهم حتى رأوْهم مثليهم لِتُفاجِئَهم الكثرةُ فيُبهَتوا ويهابوا، وهذه من عظائم آياتِ تلك الوقعةِ فإن البصرَ قد يرى الكثيرَ قليلًا والقليلَ كثيرًا لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الوجهِ ولا إلى هذا الحد وإنما ذلك بصد الله تعالى الأبصارَ عن إبصار بعضٍ دون بعض مع التساوي في الشرائط {لّيَقْضِيَ الله أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} كُرر لاختلاف الفعل المعلَّلِ به أو لأن المرادَ بالأمر ثَمةَ الالتقاءُ على الوجه المذكور وهاهنا إعزازُ الإسلام وأهلِه وإذلالُ الكفر وحِزبه {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} كلُّها يصرِفها كيفما يريد لا رادَّ لأمره ولا مُعقّبَ لحُكمه وهو الحكيم المجيد. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا}
مقدر بمضمر خوطب به الكل بطريق التلوين والتعميم معطوف على ما قبل، والضميران مفعولا يرى وقليلًا حال من الثاني، وإنما قللهم سبحانه في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إلى من بجنبه: أتراهم سبعين؟ فقال: أراهم مائة تثبيتًا لهم وتصديقًا لرسول عليه الصلاة والسلام {وَيُقَلّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ} حتى قال أبو جهل: إنما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أكلة جزور، وكان هذا التقليل في ابتداء الأمر قبل التحام القتال ليجترؤا عليهم ويتركوا الاستعداد والاستمداد ثم كثرهم سبحانه حتى رأوهم مثليهم لتفاجئهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا.
{لِيَقْضِىَ الله أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} كرر لاختلاف الفعل المعلل به إذ هو في الأول اجتماعهم بلا ميعاد وهنا تقليلهم ثم تكثيرهم، أو لأن المراد بالأمر ثم الالتقاء على الوجه المحكي، وههنا إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه، هذا وذكر غير واحد أن ما وقع في هذه الواقعة من عظائم الآيات فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلًا والقليل كثيرًا لكن لا على ذلك الوجه ولا إلى ذلك الحد وإنما يتصور ذلك بصد الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي في الشرائط.
واعترض بأن ما ذكر من التعليل مناسب لتقليل الكثير لا لتكثير القليل، وأجيب بأن تكثير القليل من جانب المؤمنين بكون الملائكة عليهم السلام ومن جانب الكفرة حقيقة فلا يحتاج إلى توجيه فيهما وإنما المحتاج إليه تقليل الكثير، وذكر في الكشاف طريقين لإبصار الكثير قليلًا أن يستر الله تعالى بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير كما خلق في عيون الحول ما يستكثرون به القليل فيرون الواحد اثنين، وعليه فيمكن أن يقال: إن رؤيتهم للمؤمنين مثليهم من قبيل رؤية الأحول بل هي أعظم على تقدير أن يراد مثلي أنفسهم وحينئذٍ لا يحتاج إلى حديث رؤية الملائكة مع المؤمنين، وفي الانتصاف أن في ذلك دليلًا بينًا على أنه تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة أو قرب أو ارتفاع حجب أو غير ذلك، إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلًا لما أمكن أن يستتر عنهم البعض وقد أدركوا البعض، والسبب الموجب مشترك فعلى هذا يجوز أن يخلق الله تعالى الإدراك مع انتفاء هذه الأسباب ويجوز أن لا يخلقه مع اجتماعها فلا ربط إذن بين الرؤية وبينها في مقدور الله تعالى، وهي رادة على القدرية المنكرين لرؤيته تعالى لفقد شرطها وهو التجسم ونحوه، وحسبهم هذه الآية في بطلان زعمهم لكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، ثم إن رؤياه عليه الصلاة والسلام كانت في قول على طرز رؤية أصحابه رضي الله تعالى عنهم المشركين، وذكر بعض المحققين أنها كانت في مقام التعبير فلا يلزم أن تكون على خلاف الواقع، والقلة معبرة بالمغلوبية، والواقعة من الرؤية منها ما يقع بعينه ومنها ما يعبر ويؤول، وتحقيق الكلام فيها يقتضي بسطًا فتيقظ واستمع لما يتلى فنقول:
اعلم أن النفس الناطقة الإنسانية سلطان القوى البدنية وهي الآت لها وظاهر أن القوة الجسمانية تكل بكثرة العمل كالسيف الذي يكل بكثرة القطع فالنفس إذا استعملت القوى الظاهرة استعمالًا كثيرًا بحيث يعرض لها الكلال تعطلها لتستريح وتقوى كما أن الفارس إذا أكثر ركوب فرسه يرسله ليستريح ويرعى.
وهذا التعطل الحاصل باسترخاء الأعصاب الدماغية المتصلة بالآت الإدراك هو النوم وما يتراءى هناك هو الرؤيا إلا أن المتكلمين والحكماء المشائين والمتألهين من الإشراقيين والصوفية اختلفوا في حقيقتها إلى مذاهب، فذهب المعتزلة وجمهور أهل السنة من المتكلمين إلى أن الرؤيا خيالات باطلة، ووجه ذلك عند المعتزلة فقد شرائط الإدراك حالة النوم من المقابلة وانبثاث الشعاع وتوسط الشغاف والبنية المخصوصة إلى غير ذلك من الشرائط المعتبرة في الإدراك عندهم وعند الجماعة، وهم لم يشترطوا شيئًا من ذلك أن الإدراك حالة النوم خلاف العادة وأن النوم ضد الإدراك فلا يجامعه فلا تكون الرؤيا إدراكًا حقيقة، وقال الأستاذ أبو إسحاق: إن الرؤيا إدراك حق إذ لا فرق بين ما يجده النائم من نفسه من إبصار وسمع وذوق وغيرها من الإدراكات وما يجده اليقظان من إدراكاته فلو جاز التشكيك فيما يجده النائم لجاز التشكيك فيما يجده اليقظان ولزم السفسطة والقدح في الأمور المعلومة حقيقتها بالبديهة، ولم يخالف في كون النوم ضدًا للإدراك لكنه زعم أن الإدراكات تقوم بجزء من أجزاء الإنسان غير ما يقوم به النوم من أجزائه فلا يلزم اجتماع الضدين في محل.
وذهب المشاءون إلى أن المدرك في النوم يوجد في الحس المشترك الذي هو لوح المحسوسات ومجمعها فإن الحواس الظاهرة إذا أخذت صور المحسوسات الخارجية وأدتها إلى الحس المشترك صارت تلك الصور مشاهدة هناك ثم إن القوة المتخيلة التي من شأنها تركيب الصور إذا ركبت صورة فربما انطبعت تلك الصورة في الحس المشترك وصارت مشاهدة على حسب مشاهدة الصورة الخارجية فإن مدار المشاهدة الانطباع في الحس المشترك سواء انحدرت إليه من الخارج أو من الداخل، ثم إن القوة المتخيلة من شأنها التصوير دائمًا لا تسكن نومًا ولا يقظة فلو خليت وطباعها لما فترت عن رسم الصور في الحس المشترك إلا أنه يصرفها عن ذلك أمران.
أحدهما توارد الصور من الخارج على الحس المشترك إذ بعد انتقاشه بهذه الصورة لا يسع أن ينتقش بالصورة التي تركبها المتخيلة.
وثانيهما تسلط العقل أو الوهم عليها بالضبط عندما يستعملانها في مدركاتهما، ولا شك في انقطاع هذين الصارفين عند النوم فيتسع لانتقاش الصور من الداخل فيكون ما يدركه النائم صورًا مرتسمة في الحس المشترك وموجودة فيه وهو الرؤيا إلا أن منها ما هو صادق ومنها ما هو كاذب.
أما الأولى فهي التي ترد تلك الصور فيها على الحس المشترك من النفس الناطقة، وبيانه أنه صور جميع الحوادث ما كان وما يكون مرتسمة في المبادئ العالية التي يعبر عنها أرباب الشرع بالملائكة ومنطبعة بالنفوس المجردة الفلكية واتصال النفس المجردة بالمجرد لعلة الجنسية أشد من اتصالها بالقوى الجسمانية فمن شأنها أن تتصل بذلك وتنتق بما فيه إلا أن اشتغالها بالحواس الظاهرة والباطنة واستغراقها بتدبير بدنها يمنعانها عن ذلك الاتصال والانتقاش لأن اشتغال النفس ببعض أفاعيلها يمنعها من الاشتغال بغيره، فإن الذي لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى الواحد القهار، ولا يمكن إزالة العائق بالكلية إلا أنه يسكن اشتغالها بالإدراكات الحسية حالة النوم إذ في اليقظة ينتشر الروح إلى ظاهر البدن بواسطة الشرايين وينصب إلى الحواس الظاهرة حالة الانتشار ويحصل بها الإدراك فتشتغل النفس بتلك الإدراكات، وأما في النوم الذي هو أخ الموت فينحبس الروح إلى الباطن ويرجع عن الحواس الظاهرة بعد انصبابه إليها فتتعطل فيحصل للنفس أدنى فراغ فتتصل بتلك المبادئ اتصالًا روحانيًا معنويًا وتنتقش ببعض ما فيها مما استعدت هي له كالمرايا إذا حوذي بعضها ببعض فانتقش في بعضها ما يتسع له مما انتقش في البعض الآخر فتدرك النفس مما ارتسم في تلك المبادئ ما يناسبها من أحوالها وأحوال ما يقارنها من الأقارب والأهل والولد والإقليم والبلد ماضيه وآتيه إلا أن هذا الإدراك لعدم تأديه من طرف الحس كلي فتحاكيه القوة المتخيلة التي جبلت محاكية لما يرد عليها بصور جزئية مثالية خيالية مناسبة إياه فتحاكي ما هو خير بالنسبة إليها في صورة جميلة وما هو شر كذلك في صورة قبيحة هائلة على مراتب مختلفة ووجوه متعددة ومن ثمة قد ترى ذاتها بصفة جميلة صورية ومعنوية من الجمال والعلم والكرم والشجاعة وغير ذلك من الصفات المحمودة، وقد ترى ذاتها متصفة بأضداد ما ذكر، وقد ترى تلك الصفات في صورة ما غلبت الصفات عليه، بل قد ترى أنها نفسها صارت نوعًا آخر لغلبة صفاته عليها، ومتى غلبت عليها الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة ترى صورًا جميلة وأضخاصًا حميدة كذوي الجمال والعلماء والأولياء والملائكة، بل قد ترى أنها صارت عالمًا أو ملكًا مثلاف، ومتى غلبت عليها الصفات الذميمة ترى صورًا هائلة كصورة غولية أو سبعية، وكذا رؤية حال من يقاربه من الأهل والولد والإقليم مثلًا فإنها تراها باعتبار اختلاف المراتب والمناسبات على ما هي عليه في المضي أو الحال أو الاستقبال حتى لو اهتمت بمصالح الناس رأتها ولو كانت منجذبة الهمة إلى المعقولات لاحت لها أشياء منها، فمتى لم يكن اختلاف بين تلك الصورة وبين ما هي مأخوذة منه إلا بالكلية والجزئية كانت الرؤية غير محتاجة إلى التعبير، والتجاوز عنها إلى ما يناسبها بوجه من المماثلة أو الضدية التي يقتضيها نحو الألف والخلق والأسباب السماوية وغير ذلك من وجوه خفية لا يطلع عليها إلا الأفراد من أئمة التعبير، وإن كانت مخالفة لها لقصور يقع في المتخيلة إما لذاتها أو لعروض دهشة وحيرة لها مما ترى أو لغير ذلك كانت محتاجة إلى التعبير، وهو أن يرجع المعبر القهقرى مجردًا لما يراه النائم عن تلك الصور التي صورتها المتخيلة إلى أن ينتهي بمرتبة أو مراتب إلى ما تلقته النفس من تلك المبادئ فيكون هو الواقع، وقد يتفق سيما إذا كان الرائي كثير الاهتمام بالرؤيا أن يعبر رؤياه في النوم الذي رآها فيه أو غيره، فهو إما بتذكره لما كانت الرؤيا حكاية عنه، وإما بتصوير المتخيلة حكاية رؤياه بحكاية أخرى، وحينئذٍ يحتاج إلى تعبيرين.