فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

{يا أيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} أي جماعة كافرة {فاثبتوا} لقتالهم ولا تنهزموا {واذكروا الله كَثِيرًا} أي ادعو الله بالنصر عليهم والظفر بهم، وقال قتادة: أمر الله بذكره أثقل ما يكونون عند الضراب بالسيوف {لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} تنجحون بالنصر والظفر. اهـ.

.قال ابن عطية:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}
هذا أمر بما فيه داعية النصر وسبب العز، وهي وصية من الله متوجهة بحسب التقييد التي في آية الضعف، ويجري مع معنى الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا».
قال القاضي أبو محمد: وهكذا ينبغي أن يكون المسلم في ولاية الإمارة والقضاء لا يطلب ولا يتمنى، فإن ابتلي صبر على إقامة الحق، و{الفئة} الجماعة أصلها فئوة وهي من فأوت أي جمعت، ثم أمر الله تعالى بإكثار ذكره هنالك إذ هو عصمة المستنجد ووزر المستعين، قال قتادة: افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيوف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ذكر خفي لأن رفع الأصوات في موطن القتال رديء مكروه إذا كان إلغاطًا، فأما إن كان من الجمع عند الحملة فحسن فاتٌّ في عضد العدو، وقال قيس بن عباد: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند ثلاث: عند قراءة القرآن وعند الجنازة والقتال، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اطلبوا إجابة الدعاء عند القتال وإقامة الصلاة ونزول الغيث». وقال ابن عباس يكره التلثم عند القتال.
قال القاضي أبو محمد: ولهذا والله أعلم يتسنن المرابطون بطرحه عند القتال على ضنانتهم به و{تفلحون} تنالون بغيتكم وتبلغون آمالكم، وهذا مثل قول لبيد: [الرجز]
أفلح بما شئت فقد يبلغ بالضْ ** ضعف وقد يخدع الأريب

. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} أي جماعة {فاثبتوا} أمر بالثبات عند قتال الكفار، كما في الآية قبلها النّهيُ عن الفرار عنهم، فالتقى الأمر والنهي على سواء.
وهذا تأكيد على الوقوف للعدوّ والتجلُّد له.
قوله تعالى: {واذكروا الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} للعلماء في هذا الذكر ثلاثة أقوال: الأول اذكروا الله عند جزع قلوبكم؛ فإن ذكره يُعين على الثبات في الشدائد.
الثاني اثبتوا بقلوبكم، واذكروه بألسنتكم؛ فإن القلب لا يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان؛ فأمر بالذكر حتى يثبت القلب على اليقين، ويثبت اللسان على الذكر، ويقول ما قاله أصحاب طالوت: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين}.
وهذه الحالة لا تكون إلا عن قوة المعرفة، واتقاد البصيرة، وهي الشجاعة المحمودة في الناس.
الثالث اذكروا ما عندكم من وعد الله لكم في ابتياعه أنفسكم ومُثامنته لكم.
قلت: والأظهر أنه ذكرُ اللسان الموافقُ للجَنان.
قال محمد بن كعب القُرَظِيّ: لو رُخصّ لأحد في ترك الذكر لرُخّص لزكريا؛ يقول الله عز وجل: {أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا}.
ولَرُخّص للرجل يكون في الحرب؛ يقول الله عز وجل: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيرًا}.
وقال قتادة: افترض الله جل وعز ذكره على عباده، أشغلَ ما يكونون عند الضّراب بالسيوف.
وحكم هذا الذكر أن يكون خفيًا؛ لأن رفع الصوت في مواطن القتال رديء مكروه إذا كان الذاكر واحدًا.
فأما إذا كان من الجميع عند الحملة فحسن؛ لأنه يَفُتّ في أعضاد العدوّ.
وروى أبو داود عن قيس بن عُباد قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال.
وروى أبو بُرْدة عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.
قال ابن عباس: يكره التلثمّ عند القتال.
قال ابن عطية: وبهذا والله أعلم استنّ المرابطون بطَرْحه عند القتال على صيانتهم به. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} يعني جماعة كافرة {فاثبتوا} يعني لقتالهم وهو أن يوطنوا أنفسهم على لقاء العدو وقتاله ولا يحدثوها بالتوالي {واذكروا الله كثيرًا} يعني كونوا ذاكرين الله عند لقاء عدوكم ذكرًا كثيرًا بقلوبكم وألسنتكم أمر الله عباده المؤمنين وأولياءه الصالحين بأن يذكروه في أشد الأحوال وذلك عند لقاء العدو وقتاله، وفيه تنبيه على أن الإنسان لا يجوز أن يخلو قلبه ولسانه عن ذكر الله.
وقيل: المراد من هذا الذكر هو الدعاء بالنصر على العدو وذلك لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى فأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يسألوه النصر على العدو عند اللقاء ثم قال تعالى: {لعلكم تفلحون} يعني: وكونوا على رجاء الفلاح والنصر والظفرة.
فإن قلت: ظاهر الآية يوجب الثبات على كل حال وذلك يوهم أنها ناسخة لآية التحرف والتحيز.
قلت المراد من الثبات هو الثبات عند المحاربة والمقاتلة في الجملة وآية التحرف والتحيز لا تقدح في حصول هذا الثبات في المحاربة بل ربما كان الثبات لا يحصل إلا بذلك التحرف والتحيز ثم قال تعالى مؤكدًا لذلك: {وأطيعوا الله ورسوله}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون} أي فئة كافرة حذف الوصف لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار واللقاء اسم للقتال غالب وأمرهم تعالى بالثبات وهو مقيد بآية الضعف وفي الحديث: «لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا» وأمرهم بذكره تعالى كثيرًا في هذا الموطن العظيم من مصابرة العدو والتلاحم بالرماح وبالسيوف وهي حالة يقع فيها الذهول عن كل شيء فأمروا بذكر الله إذ هو تعالى الذي يفزع إليه عند الشدائد ويستأنس بذكره ويستنصر بدعائه ومن كان كثير التعلق بالله ذكره في كل موطن حتى في المواضع التي يذهل فيها عن كل شيء ويغيب فيها الحسّ {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} وحكى لي بعض الشجعان أنه حالة التحام القتال تأخذ الشجاع هزة وتعتريه مثل السكر لهول الملتقى فأمر المؤمنين بذكر الله في هذه الحالة العظيمة وقد نظم الشعراء هذا المعنى فذكروا أنهم في أشقّ الأوقات عليهم وأشدّها لم ينسوا مَحبوبَهم وأكثروا في ذلك فقال بعضهم:
ذكرت سليمى وحرّ الوغى ** كقلبي ساعة فارقتها

وأبصرت بين القنا قدّها ** وقد ملن نحوي فعانقتها

قال قتادة: افترض الله ذكره أشغل ما يكون العبد عند الضراب والسيوف، وقال الزمخشري: فيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر الله أشغل ما يكون قلبًا وأكثر ما يكون همًّا وأن يكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزّعة عن غيره، وذكر أن الثبات وذكر الله سببا الفلاح وهو الظفر بالعدو في الدنيا والفوز في الآخرة بالثواب، والظاهر أن الذكر المأمور به هو باللسان فأمر بالثبات بالجنان وبالذكر باللسان والظاهر أن لا يعين ذكر، وقيل هو قول المجاهدين: الله أكبر الله أكبر عند لقاء الكفار، وقيل الدعاء عليهم: اللهم اخذلهم اللهم دمرهم وشبهه، وقيل دعاء المؤمنين لأنفسهم بالنصر والظفر والتثبيت كما فعل قوم طالوت فقالوا {ربنا أفرغ علينا صبرًا وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} وقيل: حم لا ينصرون وكان هذا شعار المؤمنين عند اللقاء، وقال محمد بن كعب: لو رخص ترك الذكر لرخص في الحرب ولذكرنا حيث أمر بالصمت ثم قيل له: واذكر ربك كثيرًا، وحكم هذا الذكر أن يكون خفيًا إلا إن كان من الجميع وقت الحملة فحسن رفع الصوت به لأنه يفت في أعضاد الكفار وفي سنن أبي داود كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال وعند الجنازة، وقال ابن عباس: يكره التلثم عند القتال. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}
صُدِّر الخطابُ بحرفي النداء والتنبيه إظهارًا لكمال الاعتناءِ بمضمون ما بعده {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} أي حاربتم جماعةً من الكفرة وإنما لم يوصَفوا بالكفر لظهور أن المؤمنين لا يحارِبون إلا الكفَرة، واللقاءُ مما غلبَ في القتال {فاثبتوا} أي للقائهم في مواطن الحربِ {واذكروا الله كَثِيرًا} أي في تضاعيف القتالِ مستمدّين منه متسعينين به مستظهِرين بذكره مترقّبين لنصره {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي تفوزون بمرامكم وتظفَرون بمُرادكم من النُّصرة والمَثوبةِ، وفيه تنبيهٌ على أن العبدَ ينبغي أن لا يشغَلَه شيءٌ عن ذكر الله تعالى وأن يلتجِيءَ عند الشدائد ويُقبلَ إليه بكليته فارغَ البال واثقًا بأن لطفَه لا ينفكّ عنه في حال من الأحوال. اهـ.

.قال الألوسي:

{يا أيها الذين ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} أي حاربتم جماعة من الكفرة ولم يصفها سبحانه لظهور أن المؤمنين لا يحاربون إلا الكفار، وقيل: ليشمل بإطلاقه البغاة ولا ينافيه خصوص سبب النزول، ومنهم من زعم أن الانقطاع معتبر في معنى الفئة لأنها من فأوت أي قطعت والمنقطع عن المؤمنين إما كفار أو بغاة، وبنى على ذلك أنه لا ينبغي أن يقال: لم توصف لظهور إلخ وليس بشيء كما لا يخفى، واللقاء قد غلب في القتال كالنزال.
وتصدير الخطاب بحرفي النداء والتنبيه إظهارًا لكمال الاعتناء بمضمون ما بعده {فاثبتوا} للقائهم {وَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ} والظاهر أن المراد إلا وأو على ما مر {واذكروا الله كَثِيرًا} أي في تضاعيف القتال، وفسر بعضهم هذا الذكر بالتكبير، وبعضهم بالدعاء ورووا أدعية كثيرة في القتال منها اللهم أنت ربنا وربهم نواصينا ونواصيهم بيدك فاقتلهم واهزمهم، وقيل: المراد بذكره سبحانه إخطاره بالقلب وتوقع نصره، وقيل: المراد اذكروا ما وعدكم الله تعالى من النصر على الأعداء في الدنيا والثواب في الآخرة ليدعوكم ذلك إلى الثبات في القتال {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي تفوزون بمرامكم من النصر والمثوبة، والأولى حمل الذكر على ما يعم التكبير والدعاء وغير ذلك من أنواع الذكر، وفي الآية تنبيه على أن العبد ينبغي أنه لا يشغله شيء عن ذكر مولاه سبحانه، وذكره جل شأنه في مثل ذلك الموطن من أقوى أدلة محبته جل شأنه، ألا ترى من أحب مخلوقًا مثله كيف يقول:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل ** مني وبيض الهند تشرب من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها ** برقت كبارق ثغرك المتبسم

. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}
لمّا عرّفهم الله بنعمه ودلائل عنايته، وكشف لهم عن سرّ من أسرار نصره إيّاهم، وكيف خذل أعداءهم، وصرفهم عن أذاهم، فاستتبَّ لهم النصر مع قلتهم وكثرة أعدائهم، أقبل في هذه الآية على أن يأمرهم بما يهيءّ لهم النصر في المواقع كلّها، ويستدعي عناية الله بهم وتأييدَه إيّاهم، فجمع لهم في هذه الآية ما به قِوام النصر في الحروب.
وهذه الجمل معترضة بين جملة: {وإذ يريكموهم} [الأنفال: 44] وجملة: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم} [الأنفال: 48].
وافتتحت هذه الوصايا بالنداء اهتمامًا بها، وجُعل طريق تعريف المنادى طريق الموصولية لما تؤذن به الصلة من الاستعداد لامتثال ما يأمرهم به الله تعالى، لأنّ ذلك أخصّ صفاتهم تلقاءَ أوامر الله تعالى، كما قال تعالى: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} [النور: 51].
واللقاء: أصله مصادفة الشخص ومواجهته، باجتماع في مكان واحد، كما تقدّم عند قوله تعالى: {فتلقى آدم من ربه كلمات} [البقرة: 37] وقوله: {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه} في سورة [البقرة: 223].
وقد غلب إطلاقه على لقاء خاصّ وهو لقاء القتال، فيرادف القتال والنزال.
وقد تقدم اللقاء قريبًا في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا} [الأنفال: 15] وبهذا المعنى تعيّن أنّ المراد بالفئة: فئة خاصّة وهي فئة العدوّ، يعني المشركين.
و{الفئة} الجماعة من الناس، وقد تقدّم اشتقاقها عند قوله تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة} في سورة [البقرة: 249].
وذكِر الله، المأمور به هنا: هو ذكره باللسان، لأنّه يتضمّن ذكر القلب، وزيادة فإنّه إذا ذكر بلسانه فقد ذكر بقلبه وبلسانه، وسَمِع الذكرَ بسمعه، وذكَّر مَن يليه بذلك الذّكر، ففيه فوائد زائدة على ذكر القلب المجرّد، وقرينة إرادة ذكر اللسان ظاهرُ وصفهِ بكثير لأنّ الذكر بالقلب يوصف بالقوة، والمقصود تذكر أنّه الناصر.
وهذان أمران أمروا بهما وهما يَخصّان المجاهد في نفسه، ولذلك قال: {لعلكم تفلحون}.
فهما لإصلاح الأفراد. اهـ.