فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (46):

قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)}

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

{وأطيعوا الله} أي الذي له الغنى المطلق فلا يقبل إلا الخالص والكمال الأكمل فلا يفعل إلا ما يريد {ورسوله} أي في الإقدام والإحجام لجهلكم بالعواقب، وتلك الطاعة أمارة إخلاصكم في الذكر {ولا تنازعوا} بأن يريد كل واحد نزع مال صاحبه من رأي وغيره وإثبات ما له، وأشار إلى عظيم ضرر التنازع ببيان ثمرته المرة فقال؛ {فتفشلوا} أي تضعفوا؛ قال في القاموس: فشل كفرح، فهو فشل، كسل وضعف وتراخي وجبن- انتهى.
والمادة راجعة إلى الفيشلة وهي الحشفة، ومن لازمها الرخاوة وينشأ عن الرخاوة الجبن مع الصلف والخفة والطيش.
ولما كان الفشل ربما كان معه الظفر لفشل في العدو أكثر منه أو غير ذلك، عطف ما يلزمه غالبًا بالواو دون الفاء فقال: {وتذهب ريحكم} أي غلبتكم وقوتكم، وأصله أن الريح إذا كانت في الحرب من جهة صف كانت في وجوه أعدائهم فمنعتهم بما يريدون فخذلوا فصارت كأنها قوة من أتت من عنده، فصارت يكنى بها عنها؛ ثم ختم هذه الأسباب بالجامع لشملها الناظم لمقاصد أهلها فقال؛ {واصبروا} أي على ما يكون من تلك المشاق فإنكم إن تكونوا تألمون فإن أعداءكم كذلك، وأنتم ترجون من الله ما لا يرجون؛ ثم علله بما يكون النصر في الحقيقة فقال: {إن الله} أي الميحط بصفات الكمال {مع الصابرين} أي لأنهم لا يصبرون إلا اعتمادًا عليه، ومن كان معه عز، وهذه الجملة فيها- كما قال الإمام شمس الدين محمد بن قيم الجوزية في آخر كتاب الفروسية المحمدية- تدبير الحروب أحسن جمع على أتم وجه، فأمر فيها بخمسة أشياء ما اجتمعت قط في فئة إلا انتصرت وإن قلت في جنب عدوها، وخامسها ملاك ذلك وقوامه وأساسه وهو الصبر، فعلى هذه الدعائم الخمس تبنى قبة النصر، ومتى زالت أو بعضها زال من النصر بحسبه، وإذا اجمتعت قوى بعضها بعضًا وصار لها أثر عظيم، لما اجتمعت في الصحابة- رضى الله عنهم- م لم تقم لهم أمة من الأمم، ففتحوا البلاد شرقًا وغربًا ودانت لهم العباد سلمًا وحربًا، ولما تفرقت فيمن بعدهم وضعفت آل الأمر قليلًا قليلًا إلى ما ترى- فلا قوة إلا بالله، والجامع لذلك كله طاعة الله ورسوله فإنها موجبة لتأييد المطيع بقوة من هو في طاعته، وذلك سر قول أبي الدرداء- رضى الله عنهم- الذي رواه البخاري في باب عمل صالح قبل القتال: إنما تقاتلون الناس بأعمالكم؛ وهو شرع قديم، قال في أثناء السفر الخامس من التوارة: وإن أنتم سمعتم قول الله ربكم وتحفظتم وعملتم بكل هذه الوصية التي آمركم بها اليوم يبارك عليكم الله ربكم كما قال لكم، وترزقون إن تقرضوا شعوبًا كثيرة ولا تقرضون، وتسلطون على شعوب كثيرة ولا يتسلطون عليكم. اهـ.

.قال الفخر:

ثم قال تعالى مؤكدًا لذلك: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في سائر ما يأمر به، لأن الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات.
ثم قال: {وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
بين تعالى أن النزاع يوجب أمرين: أحدهما: أنه يوجب حصول الفشل والضعف.
والثاني: قوله: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وفيه قولان: الأول: المراد بالريح الدولة، شبهت الدولة وقت نفاذها وتمشية أمرها بالريح وهبوبها.
يقال: هبت رياح فلان، إذا دانت له الدولة ونفد أمره.
الثاني: أنه لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها الله، وفي الحديث: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» والقول الأول أقوى، لأنه تعالى جعل تنازعهم مؤثرًا في ذهاب الريح، ومعلوم أن اختلافهم لا يؤثر في هبوب الصبا.
قال مجاهد: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} أي نصرتكم، وذهبت ريح أصحاب محمد حين تنازعوا يوم أحد.
المسألة الثانية:
احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: القول بالقياس يفضي إلى المنازعة، والمنازعة محرمة، فهذه الآية توجب أن يكون العمل بالقياس حرامًا، بيان الملازمة المشاهدة، فإنا نرى أن الدنيا صارت مملوءة من الاختلافات بسبب القياسات، وبيان أن المنازعة محرمة.
قوله: {وَلاَ تنازعوا} وأيضًا القائلون بأن النص لا يجوز تخصيصه بالقياس تمسكوا بهذه الآية.
وقالوا: قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} صريح في وجوب طاعة الله ورسوله في كل ما نص عليه، ثم أتبعه بأن قال: {وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ} ومعلوم أن من تمسك بالقياس المخصص بالنص فقد ترك طاعة الله وطاعة رسوله.
وتمسك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل، وكل ذلك حرام، ومثبتو القياس أجابوا عن الأول؛ بأنه ليس كل قياس يوجب المنازعة.
ثم قال تعالى: {واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين} والمقصود أن كمال أمر الجهاد مبني على الصبر، فأمرهم بالصبر.
كما قال في آية أخرى: {اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} [آل عمران: 200] وبين أنه تعالى مع الصابرين، ولا شبهة أن المراد بهذه المعية النصرة والمعونة. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

.المسألة الأولى: قَوْلُهُ: {إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}:

ظَاهِرٌ فِي اللِّقَاءِ، ظَاهِرٌ فِي الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ، مُجْمَلٌ فِي الْفِئَتَيْنِ الَّتِي تُلْقَى مِنَّا وَاَلَّتِي تَكُونُ مِنْ مُخَالِفِينَا، بَيَّنَ هَذَا الْإِجْمَالَ الَّتِي بَعْدَهَا فِي تَعْدِيدِ الْمُقَاتِلِينَ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ هَاهُنَا بِالثَّبَاتِ عِنْدَ قِتَالِهِمْ، كَمَا نَهَى فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا عَنْ الْفِرَارِ عَنْهُمْ؛ فَالْتَقَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى شَفَا مِنْ الْحُكْمِ بِالْوُقُوفِ لِلْعَدُوِّ وَالتَّجَلُّدِ لَهُ.
وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلْبَرَاءِ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا عُمَارَةَ؟ قَالَ: لَا، وَاَللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانٌ مِنْ النَّاسِ، فَلَقِيَتْهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ، وَرَسُولُ اللَّهِ عَلَى بَغْلَتِهِ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَإِنَّ الْفِئَتَيْنِ لَمُوَلِّيَتَانِ، وَمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةُ رَجُلٍ.
وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ.

.المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ}:

فِيهِ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ: الْأَوَّلُ: اُذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ جَزَعِ قُلُوبِكُمْ؛ فَإِنَّ ذِكْرَهُ يُثَبِّتُ.
الثَّانِي: اُثْبُتُوا بِقُلُوبِكُمْ وَاذْكُرُوهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَسْكُنُ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَيَضْطَرِبُ اللِّسَانُ؛ فَأَمَرَ بِذِكْرِ اللَّهِ حَتَّى يَثْبُتَ الْقَلْبُ عَلَى الْيَقِينِ، وَيَثْبُتَ اللِّسَانُ عَلَى الذِّكْرِ.
الثَّالِثُ: اُذْكُرُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ لَكُمْ فِي ابْتِيَاعِهِ أَنْفُسَكُمْ مِنْكُمْ وَمُثَامَنَتِهِ لَكُمْ.
وَكُلُّهَا مُرَادٌ، وَأَقْوَاهَا وَأَوْسَطُهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ، وَنَفَاذِ الْقَرِيحَةِ، وَاتِّقَادِ الْبَصِيرَةِ، وَهِيَ الشُّجَاعَةُ الْمَحْمُودَةُ فِي النَّاسِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ أَقْوَى مِنْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ أَشْجَعَ الْخَلِيقَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْضَاهُمْ عَزِيمَةً، وَأَنْفَذَهُمْ قَرِيحَةً، وَأَنْوَرَهُمْ بَصِيرَةً، وَأَصْدَقَهُمْ فِرَاسَةً، وَأَصَحَّهُمْ رَأْيًا، وَأَثْبَتَهُمْ جَأْشًا، وَأَصْفَاهُمْ إيمَانًا، وَأَشْرَحَهُمْ صَدْرًا، وَأَسْلَمَهُمْ قَلْبًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ظُهُورُ ذَلِكَ الْمَقَامِ فِي مَقَامَاتٍ سِتَّةٍ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ، وَلَمْ تَكُنْ مُصِيبَةٌ أَعْظَمُ مِنْهَا، وَلَا تَكُونُ أَبَدًا عَنْهَا تَفَرَّعَتْ مَصَائِبُنَا، وَمِنْ أَجْلِهَا فَسَدَتْ أَحْوَالُنَا، فَاخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ؛ فَأَمَّا عَلِيٌّ فَاسْتَخْفَى.
وَأَمَّا عُثْمَانُ فَبُهِتَ.
وَأَمَّا عُمَرُ فَاخْتَلَطَ، وَقَالَ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا وَاعَدَهُ اللَّهُ كَمَا وَاعَدَ مُوسَى، وَلَيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللَّهِ فَلَيُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَ أُنَاسٍ وَأَرْجُلَهُمْ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ غَائِبًا بِمَنْزِلِهِ بِالسُّنْحِ، فَجَاءَ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، وَهُوَ مَيِّتٌ مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْك فَقَدْ مُتَّهَا.
وَخَرَجَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ؛ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}.
الْمَقَامُ الثَّانِي: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ أَيْنَ يُدْفَنُ؛ فَقَالَ الْقَوْمُ: يُدْفَنُ بِمَكَّةَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بِالْمَدِينَةِ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا دُفِنَ قَطُّ نَبِيٌّ إلَّا حَيْثُ يَمُوتُ».
الْمَقَامُ الثَّالِثُ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَقُولُ لَهُ: لَوْ مِتَّ أَلَمْ تَكُنْ ابْنَتُك تَرِثُك؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَتْ لَهُ: فَأَعْطِنِي مِيرَاثِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ.
فَتَذَكَّرَ ذَلِكَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ، وَعَلِمَهُ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةَ وَسَعْدٌ وَسَعِيدٌ، وَأَقَرَّ بِهِ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ.
الْمَقَامُ الرَّابِعُ: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّ الْعَرَبُ، وَانْقَاضَ الْإِسْلَامُ، وَتَزَلْزَلَتْ الْأَفْئِدَةُ، وَمَاجَ النَّاسُ؛ فَارْتَاعَ الصَّحَابَةُ؛ فَقَالَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ لِأَبِي بَكْرٍ: خُذْ مِنْهُمْ الصَّلَاةَ، وَدَعْ الزَّكَاةَ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الدَّيْنُ، وَيَسْكُنَ جَأْشُ الْمُسْلِمِينَ.
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ.
الْمَقَامُ الْخَامِسُ: قَالَتْ الصَّحَابَةُ لَهُ: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ؛ أَبْقِ جَيْشَ أُسَامَةَ؛ فَإِنَّ مَنْ حَوْلَك قَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ، وَاَللَّهِ لَوْ لَعِبْت الْكِلَابُ بِخَلَاخِيلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا رَدَدْت جَيْشًا أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالُوا لَهُ: فَمَعَ مَنْ تُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: وَحْدِي حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي.
الْمَقَامُ السَّادِسُ: وَهُوَ ضَنْكُ الْحَالِ وَمَأْزِقُ الِاخْتِلَالِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ اضْطَرَبَ الْأَمْرُ، وَمَاجَ النَّاسُ، وَمَرَجَ قَوْلُهُمْ، وَتَشَوَّفُوا إلَى رَأْسٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ تَدْبِيرُهُمْ، وَاجْتَمَعَتْ الْأَنْصَارُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَلَهُمْ الْهِجْرَةُ، وَفِيهِمْ الدَّوْحَةُ، وَالْمُهَاجِرُونَ عَلَيْهِمْ نُزُلٌ، وَانْتَدَبَ الشَّيْطَانُ لِيَزِيغَ قُلُوبَ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، فَسَوَّلَ لِلْأَنْصَارِ أَنْ يَعْقِدُوا لِرَجُلٍ مِنْهُمْ الْأَمْرَ؛ فَجَاءَ الْمُهَاجِرُونَ.
فَاجْتُمِعُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ، وَقَالُوا: نُرْسِلُ إلَيْهِمْ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا، أَلَا نَأْتِيهِمْ فِي مَوْضِعِهِمْ، فَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ، فَصَرَمَ وَتَقَدَّمَ وَاتَّبَعَتْهُ الْمُهَاجِرُونَ حَتَّى جَاءَ الْأَنْصَارَ فِي مَكَانِهِمْ، وَتَقَاوَلُوا، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ فِي كَلَامِهَا: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَتَصَدَّرَ أَبُو بَكْرٍ بِحَقِّهِ، وَتَكَلَّمَ عَلَى مُقْتَضَى الدِّينِ وَوَفْقِهِ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؛ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا رَهْطُ رَسُولِ اللَّهِ وَعِتْرَتُهُ الْأَدْنَوْنَ، وَأَصْلُ الْعَرَبِ، وَقُطْبُ النَّاسِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ.
وَقَدْ سَمَّانَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الصَّادِقِينَ حِينَ قَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ}.
وَسَمَّاكُمْ الْمُفْلِحِينَ، فَقَالَ: {وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}.
وَأَمَرَكُمْ اللَّهُ أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا حَيْثُ كُنَّا، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.
وَقَالَ لَكُمْ النَّبِيُّ: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ».
وَقَالَ لَنَا فِي آخَرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: «أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا أَنْ تَقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ؛ وَلَوْ كَانَ لَكُمْ فِي الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا رَأَيْتُمْ أَثَرَةً، وَلَا وَصَّى بِكُمْ».
فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِ، وَوَعَوْهُ مِنْ قَوْلِهِ تَذَّكَّرُوا الْحَقَّ؛ فَانْقَادُوا لَهُ، وَالْتَزَمُوا حُكْمَهُ؛ فَبَادَرَ عُمَرُ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ، وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؛ اُمْدُدْ يَدَك أُبَايِعْك.
فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَا سَمِعْت مِنْك تَهَّةً فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَهَا، أَتُبَايِعُنِي وَأَبُو بَكْرٍ فِيكُمْ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اُمْدُدْ يَدَك أُبَايِعْك يَا أَبَا بَكْرٍ.
فَمَدَّ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ وَبَايَعَهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَصَارَ الْحَقُّ فِي نِصَابِهِ، وَدَخَلَ الدِّينُ مِنْ بَابِهِ.
وَلَوْ هُدُوا لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ الْأَدَبِيَّةِ التَّارِيخِيَّةِ لَمَا كَانُوا عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ جَائِرِينَ وَبِحَقِيقَتِهِ جَاهِلِينَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلَاهُمْ بِقِرَاءَةِ كُتُبٍ مِنْ الْأَدَبِ وَالتَّارِيخِ قَدْ تَوَلَّاهَا جُهَّالٌ وَضُلَّالٌ، فَقَالُوا: فَعَلَ عَلِيٌّ.
وَقَالَ عَلِيٌّ، وَلَا يَقَعُ عَلِيٌّ مِنْ أَبِي بَكْرٍ إلَّا نُقْطَةً مِنْ بَحْرٍ، أَوْ لُقَطَةً فِي قَفْرٍ، لَقَدْ اسْتَقَامَ الدِّينُ وَعَلِيٌّ عَنْهُ فِي حِجْرٍ، وَقَدْ كَانَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدَ رِجَالِهِ، وَفَارِسًا مِنْ فُرْسَانِهِ، وَوَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَقَرِيبًا مِنْ أَقْرِبَائِهِ، فَلَمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِرَسُولِهِ، وَانْفَرَدَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَقُمْ بِالْأَمْرِ وَلَا قَعَدَ، وَذَلِكَ أَمْرٌ قَضَاهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ، وَقَدَّرَهُ بِالصِّدْقِ، وَأَنْفَذَهُ بِالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ، وَمَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ أَحَدًا ثَبَتَ عَلَى الدَّيْنِ، وَقَرَّرَ وُلَاتَهُ فِي الْأَقْطَارِ، وَأَنْفَذَ الْجُيُوشَ إلَى الْأَمْصَارِ، وَقَاتَلَ عَلَى الْحَقِّ، وَقُدِّمَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ خَيْرِ الْخَلْقِ الصِّدِّيقُ؛ فَمَهَّدَ الدَّيْنَ، وَاسْتَتَبَّ بِهِ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.