فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا} يعني فخرًا وأشرًا.
وقيل: البطر: الطغيان في النعمة وذلك أن النعم إذا كثرت من الله تعالى على العبد فإن صرفها في المفاخرة على الأقران وكاثر بها أبناء الزمان وأنفقها في غير طاعة الرحمن فذلك هو البطر في النعم وإن صرفها في طاعة الله وابتغاء مرضاته فذلك شكرها، وهذا معنى قول الزجاج البطر الطغيان في النعمة وترك شكرها {ورئاء الناس} الرياء إظهار الجميل ليراه الناس مع إبطال القبيح والفرق بين الرياء والنفاق أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر والرياء إظهار الطاعة مع إبطان المعصية {ويصدون عن سبيل الله} يعني ويمنعون الناس عن الدخول في دين الله نزلت هذه الآية في كفار قريش حين خرجوا إلى بدر ولهم فخر وبغي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تجادل وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني به».
قال ابن عباس: إن أبا سفيان لما رأى أنه قد أحرز عيرة أرسل إلى قريش أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورحالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا وكان في بدر موسم من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق في كل عام قال فنقيم عليها ثلاثًا وننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدًا فأمضوا.
زاد غيره قال: فلما وافوا بدرًا سقوا كئوس الحمام عوضًا عن الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم والمعنى لا يكونن أمركم أيها المؤمنون رياء وسمعة ولا لالتماس ما عند الله ولكن أخلصوا لله النية وقاتلوا حسبة في نصر دينكم ومؤازرة نبيكم صلى الله عليه وسلم ولا تعملوا إلا لذلك ولا تطلبوا غيره.
وقوله تعالى: {والله بما يعلمون محيط} فيه وعيد وتهديد يعني أنه تعالى عالم بجميع الأشياء لا يخفى عن علمه شيء لأنه محيط بأعمال العباد كلها فيجازي المحسنين ويعاقب المسيئين. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدُّون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط}.
نزلت في أبي جهل وأصحابه خرجوا النصرة العِير بالقينات والمعازف ووردوا الجحفة فبعث خفاف الكناني وكان صديقًا له بهدايا مع ابنه وقال: إن شئت أمددناك بالرجال وإن شئت بنفسي مع من خفّ من قومي، فقال أبو جهل: إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله طاقة وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة والله، لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرًا فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا القينات فإنّ بدرًا مركز من مراكز العرب وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب مخرجنا فتهابنا آخر الأبد فوردوا بدرًا فسقوا كئوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القينات، فنهى الله المؤمنين أن يكون مثل هؤلاء بطرين طربين مرائين بأعمالهم صادين عن سبيل الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إن قريشًا أقبلت بفخرها وخيلائها تجادل وتكذب رسولك اللهم فاحثها الغداة» وفي قوله: {والله بما يعملون محيط} وعيد وتهديد لمن بقي من الكفار. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم}
بعد ما أُمروا بما أُمروا به من أحاسن الأعمالِ ونُهوا عما يقابلها من قبائحها، والمرادُ بهم أهلُ مكةَ حين خرجوا لحماية العِير {بَطَرًا} أي فخرًا وأشَرًا {وَرِئَاء الناس} ليُئنوا عليهم بالشجاعة والسماحة، وذلك أنهم لما بلغوا جَحفةَ أتاهم رسولُ أبي سفيان وقال: ارجِعوا فقد سلِمت عِيرُكم فأبَوا إلا إظهارَ آثارِ الجلادة فلقُوا ما لقوا حسبما ذُكر في أوائل السورةِ الكريمة فنُهي المؤمنون أن يكونوا أمثالَهم مرائين بطِرين وأُمروا بالتقوى والإخلاص من حيث إن النهيَ عن الشيء مستلِزمٌ للأمر بضده {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} عطفٌ على بطَر إن جُعل مصدرًا في موضع الحال وكذا إن جُعل مفعولًا له لكن على تأويل المصدر {والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فيجازيهم عليه. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم}
بعد أن أمروا بما أمروا من أحاسن الأعمال ونهوا عما يقابلها، والمراد بهم أهل مكة أبو جهل وأصحابه حين خرجوا لحماية العير {بَطَرًا} أي فخرًا وأشرًا {وَرِئَاء الناس} ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة.
روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره أرسل إلى قريش أن أرجعوا فقد سلمت العير فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا ونشرب الخمور وتعزف علينا القينات ونطعم بها من حضرنا من العرب فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا بدل الخمور وناحت عليهم النوائح، بدل القينات وكانت أموالهم غنائم بدلًا عن بذلها، ونصب المصدرين على التعليل، ويجوز أن يكونا في موضع الحال، أي بطرين مرائين، وعلى التقديرين المقصود نهى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم في البطر والرياء وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص إذا قلنا: إن النهي عن الشيء أمر بضده.
{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} عطف على {بَطَرًا} وهو ظاهر على تقدير أنه حال بتأويل اسم الفاعل لأن الجملة تقع حالًا من غير تكلف وأما على تقدير كونه مفعولًا له فيحتاج إلى تكلف لأن الجملة لا تقع مفعولًا له، ومن هنا قيل: الأصل أن يصدوا فلما حذفت أن المصدرية ارتفع الفعل مع القصد إلى معنى المصدرية بدون سابك كقوله:
ألا أيها الزاجري أحضر الوغى ** أي عن أن أحضر وهو شاذ

واختير جعله على هذا استئنافًا؛ ونكتة التعبير بالاسم أولًا والفعل أخيرًا أن البطر والرياء دأبهم بخلاف الصد فءنه تجدد لهم في زمن النبوة {والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فيجازيهم عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ}
جملة: {ولا تكونوا} معطوفة على {ولا تنازعوا} [الأنفال: 46] عطف نهي على نهي.
ويصحّ أن تكون معطوفة على جملة {فاثبتوا} [الأنفال: 45] عطف نهي على أمر، إكمالًا لأسباب النجاح والفوز عند اللقاء، بأن يتلبسوا بما يدنيهم من النصر، وأن يتجنّبوا ما يفسد إخلاصهم في الجهاد.
وجِيء في نهيهم عن البطَر والرئَاء بطريقة النهي عن التشبّه بالمشركين إدماجًا للتشنيع بالمشركين وأحوالِهم، وتَكريهًا للمسلمين تلكَ الأحوالَ، لأنّ الأحوال الذميمة تتّضح مذمتها، وتنكشف مزيد الانكشاف إذا كانت من أحوال قوم مذمومين عند آخرين، وذلك أبلغ في النهي، وأكشف لقبْح المنهي عنه.
ونظيره قوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} [الأنفال: 21] وقد تقدّم آنفًا.
فنهوا عن أن يشبهوا حال المشركين في خروجهم لبَدْر إذْ خرجوا بطَرًا ورئاء الناس، لأنّ حقّ كلّ مسلم أن يريد بكلّ قول وعمل وجه الله، والجهاد من أعظم الأعمال الدينية.
والموصول مراد به جماعة خاصّة، وهم أبو جهل وأصحابه، وقد مضى خبر خروجهم إلى بدر، فإنّهم خرجوا من مكة بقصد حماية غيرهم فلمّا بلغوا الجحفة جاءهم رسول أبي سفيان، وهو كبير العير يخبرهم أنّ العِير قد سلمت، فقال أبو جهل: لا نرجع حتّى نَقدمَ بدرًا نَشْرب بها وتعزف علينا القيان ونطعِم من حضَرَنا من العرب حتّى يتسامع العرب بأنّنا غلبنا محمدًا وأصحابه.
فعبّر عن تجاوزهم الجحفة إلى بدر، بالخروج لأنّه تكملة لخروجهم من مكة.
وانتصب {بطرًا ورئاء الناس} على الحالية، أي بَطِرينَ مرائين، ووصفهم بالمصدر للمبالغة في تمكّن الصفتين منهم لأنّ البطَر والريَاء خلقان من خلقهم.
والبطر إعجاب المرء بما هو فيه من نعمة، والاستكبار والفخر بها، فالمشركون لمّا خرجوا من الجحفة، خرجوا عُجبًا بما هم فيه من القوة والجِدّة.
والرئاء بهمزتين أولاهما أصيلة والأخيرة مبدلة عن الياء لوقوعها متطرفة أثر ألف زائدة.
ووزنه فِعَال مصدر رَاءَىَ فَاعَلَ من الرؤية ويقال: مرَاآة، وصيغة المفاعلة فيه مبالغة، أي بالغ في إراءة الناس عمله محبَّة أن يروه ليفخر عليهم.
و{سبيل الله} الطريق الموصلة إليه، وهو الإسلام، شبّه الدين في إبلاغه إلى رضى الله تعالى، بالسبيل الموصّل إلى بيت سَيِّد الحي ليصفح عن وارده أو يكرمه.
وجيء في {يصدون} بصيغة الفعل المضارع للدلالة على حدوثثِ وتجدّد صدّهم الناسَ عن سبيل الله، وأنّهم حين خرجوا صادّين عن سبيل الله ومكرّرين ذلك ومجدّدينه.
وباعتبار الحدوث كانت الحال مقارنة، وأمّا التجدّد فمستفاد من المضارعية ولا يَجعل الحال مقدَّرة.
وقوله: {والله بما يعملون محيط} تذكير للمسلمين بصريحه، ووعيد للمشركين بالمعنى الكنائي، لأنّ إحاطة العلم بما يعملون مجاز في عدم خفاء شيء من عملهم عن علم الله تعالى، ويلزمه أنّه مجازيهم عن عملهم بما يجازي به العليمُ القدير مَن اعتدى على حُرمه، والجملة حال من ضمير {الذين خرجوا} [الأنفال: 47].
وإسناد الإحاطة إلى اسم الله تعالى مجاز عقلي، لأنّ المحيط هو علم الله تعالى فَإسناد الإحاطة إلى صاحب العلم مجاز. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
والذين خرجوا من ديارهم بطرًا هم الكفار عندما علموا أن أبا سفيان قد نجا بالقافلة ولم يتمكن المسلمون من الاستيلاء عليها، وهم قد خرجوا من مكة ليخلصوا القافلة من أيدي المسلمين، فلما قيل لهم إنَّ القافلة نجت يقيادة أبي سفيان فارجعوا. قالوا: لا يكفينان هذا، بل لابد أن نخرج ونقاتل محمدا ومن معه، وننتصر عليهم وندق الطبول ونذبح الذبائح ليعلم أهل الجزيرة بخبر هزيمة محمد ومن معه فلا يجرؤ احد أن يتعرض لقافلة من قوافلنا.
إذن فهم لم يكتفوا بأن أموالهم قد رجعت إليهم، بل أرادوا أكثر مما يقتضي الموقف، أرادوا أن يخرجوا في مظاهرة ضلالية للمفاخرة والتكبر تُثبت أن لهم قوة.
وكان يكفيهم نجاة القافلة وينتهي الأمر. وكان عليهم أن يرجعوا، ولكنهم أرادوا أن يقوموا بمظاهرة لا لزوم لها.
إذن فالمسألة شماتة، وهذا لون من البطر؛ أن تكون عندك نعمة فلا تقدرها حق قدرها، وتحب أن تعلو عليها. ويقال فلان بطران إذا أحضروا له الإفطار من الفول مثلًا ويقول: إنه يريد المربى والزبد وعسل النحل. وهكذا فعل كفار قريش، فلم يكتفوا بنجاة القافلة، بل استخفوا هذه النعمة فلم يكتفوا بها وطلبوا المزيد.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَرِئَاءَ الناس} أي يريدون بالحرب مع رسول الله والذين آمنوا؛ السمعة بين الناس، وأن يعرف العرب أنهم خرجوا إلى المدينة وقاتلوا محمدًا وصحبه لتكون لهم سمعة وهيبة بين الناس في الجزيرة العربية.
وقوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [الأنفال: 47].
لأن الناس حين يرون الكفار المعاندين لمنهج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد صارت لهم اليد العليا، وهم يرقصون ويغنون لانتصارهم، ويرون المسلمين وهم مختفون خائفون من مواجهة الكفار، فسوف يغري ذلك الناس باتباع منهج الكفر، فكأن الكفار برغبتهم في قتال رسول الله وصحبه إنما يصدون عن سبيل الله. ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى ليوضح: لا تحسبوا أنهم بعيدون عن علمي.
{والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47].
أي أن الله سبحانه وتعالى محيط بكل أعمالهم، لا يغيب عنه عمل واحد مما يفعلونه، هو محيط بهم تمامًا وهم لا يستطيعون أن يفلتوا منه. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)}
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس} يعني المشركين الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه قال: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله تعالى: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا} الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا} قال: أبو جهل وأصحابه يوم بدر.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر خرجوا ولهم بغي وفخر، وقد قيل لهم يومئذ: ارجعوا فقد انطلقت عيركم وقد ظفرتم، فقالوا: لا والله حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا، وذُكِرَ لنا أن نبي الله قال يومئذ: اللهم إن قريشًا قد أقبلت بفخرها وخيلائها لتجادل رسولك، وذكر لنا أنه قال يومئذ: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم...}. اهـ.