فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

أما قوله: {خَلَقَ} فقد مر تفسيره في قوله: {اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] وأما قوله: {لَكُمْ} فهو يدل على أن المذكور بعد قوله: {خَلَقَ} لأجل انتفاعنا في الدين والدنيا، أما في الدنيا فليصلح أبداننا ولنتقوى به على الطاعات وأما في الدين فللاستدلال بهذه الأشياء والاعتبار بها وجمع بقوله: {مَّا في الأرض جَمِيعًا} جميع المنافع، فمنها ما يتصل بالحيوان والنبات والمعادن والجبال ومنها ما يتصل بضروب الحرف والأمور التي استنبطها العقلاء وبين تعالى أن كل ذلك إنما خلقها كي ينتفع بها كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السموات وَمَا في الأرض} [الجاثية: 13] فكأنه سبحانه وتعالى قال كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم وكيف تكفرون بالله وقد خلق لكم ما في السموات وما في الأرض جميعًا أو يقال كيف تكفرون بقدرة الله على الإعادة وقد أحياكم بعد موتكم ولأنه خلق لكم ما في الأرض جميعًا فكيف يعجز عن إعادتكم ثم إنه تعالى ذكر تفاصيل هذه المنافع في سورة مختلفة كما قال: {أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبًّا} [عبس: 25] وقال في أول سورة أتى أمر الله {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ} [النحل: 5] إلى آخره. اهـ.
قال الفخر:
قال أصحابنا: إنه سبحانه وتعالى لا يفعل فعلًا لغرض لأنه لو كان كذلك كان مستكملًا بذلك الغرض والمستكمل بغيره ناقص بذاته وذلك على الله تعالى محال فإن قيل: فعله تعالى معلل بغرض غير عائد إليه بل إلى غيره، قلنا: عود ذلك الغرض إلى ذلك الغير هل هو أولى لله تعالى من عود ذلك الغرض إليه أو ليس أولى؟ فإن كان أولى فهو تعالى قد انتفع بذلك الفعل فيعود المحذور المذكور وإن كان الثاني لم يكن تحصيل ذلك الغرض المذكور لذلك الغير غرضًا لله تعالى فلا يكون مؤثرًا فيه.
وثانيها: أن من فعل فعلًا لغرض كان عاجزًا عن تحصيل ذلك الغرض إلا بواسطة ذلك الفعل والعجز على الله تعالى محال.
وثالثها: أنه تعالى لو فعل فعلًا لغرض لكان ذلك الغرض إن كان قديمًا لزم قدم الفعل وإن كان محدثًا كان فعله لذلك الغرض لغرض آخر ويلزم التسلسل وهو محال.
ورابعها: أنه تعالى لو كان يفعل لغرض لكان ذلك الغرض هو رعاية مصلحة المكلفين ولو توقفت فاعليته على ذلك لما فعل ما كان مفسدة في حقهم لكنه قد فعل ذلك حيث كلف من علم أنه لا يؤمن ثم إنهم تكلموا في اللام في قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا} وفي قوله: {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فقالوا إنه تعالى لما فعل ما لو فعله غيره لكان فعله لذلك الشيء لأجل الغرض لا جرم أطلق الله عليه لفظ الغرض بسبب هذه المشابهة. اهـ.

.قال أبو حيان:

ولفظة هو من المضمرات وضع للمفرد المذكر الغائب، وهو كلي في الوضع كسائر المضمرات، جرى في النسبة المخصوصة حالة الاستعمال، فما من مفرد مذكر غائب إلا ويصح أن يطلق عليه هو، ولكن إذا أسند لهذا الاسم شيء تعين.
ومشهور لغات العرب تخفيف الواو مفتوحة، وشددتها همدان، وسكنتها أسد وقيس، وحذف الواو مختص بالشعر.
ولهؤلاء المنسوبين إلى علم الحقائق وإلى التصوف كلام غريب بالنسبة لمعقولنا، رأيت أن أذكره هنا ليقع الذكر فيه.
قالوا: أسماء الله تعالى على ثلاثة أقسام: مظهرات، ومضمرات، ومستترات.
فالمظهرات: أسماء ذات، وأسماء صفات، وهذه كلها مشتقة، وأسماء الذات مشتقة وهي كثيرة، وغير المشتق واحد وهو الله.
وقد قيل: إنه مشتق، والذي ينبغي اعتقاده أنه غير مشتق، بل اسم مرتجل دال على الذات.
وأما المضمرات فأربعة: أنا في مثل: {الله لا إله إلا أنا} وأنت في مثل: {لا إله إلا أنت سبحانك} وهو في مثل: {هو الذي خلق لكم} ونحن في مثل: {نحن نقص عليك} قالوا: فإذا تقرر هذا فالله أعظم أسمائه المظهرات الدالة على الذات، ولفظة هو من أعظم أسمائه المظهرات والمضمرات للدلالة على ذاته، لأن أسماءه المشتقة كلها لفظها متضمن جواز الاشتراك لاجتماعهما في الوصف الخاص، ولا يمنع أن يكون أحد الوصفين حقيقة والآخر مجازًا من الاشتراك، وهو اسم من أسماء الله تعالى ينبئ عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة من حيث هو هو.
فلفظة هو توصلك إلى الحق وتقطعك عما سواه، فإنك لابد أن يشرك مع النظر في معرفة ما يدل عليه الاسم المشتق النظر في معرفة المعنى الذي يشتق منه، وهذا الاسم لأجل دلالته على الذات ينقطع معه النظر إلى ما سواه، اختاره الجلة من المقربين مدارًا لذكرهم ومنارًا لكل أمرهم فقالوا: يا هو، لأن لفظة هو إشارة بعين المشار إليه بشرط أن لا يحضر هناك شيء سوى ذلك الواحد، والمقربون لا يخطر في عقولهم وأرواحهم موجود آخر سوى الذي دلت عليه إشارته، وهو اسم مركب من حرفين وهما: الهاء والواو، والهاء أصل والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية، والجمع في هما وهم، والأصل حرف واحد يدل على الواحد الفرد.
انتهى ما نقل عن بعض من عاصرناه في هو بالنسبة إلى الله تعالى مقررًا لما ذكروه ومعتقدًا لما حبروه.
ولهم في لفظة أنا وأنت وهو كلام غريب جدًا بعيد عما تكلم عليها به أهل اللغة والعربية، وحديث هؤلاء المنتمين إلى هذه العلوم لم يفتح لي فيه ببارقة، ولا ألممت فيه إلى الآن بغادية ولا طارقة، نسأل الله تعالى أن ينور بصائرنا بأنوار الهداية، وأن يجنبنا مسالك الغواية، وأن يلهمنا إلى طريق الصواب، وأن يرزقنا اتباع الأمرين النيرين: السنة والكتاب. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا} أي قدَّر خَلْقَهَا لأن الأشياء كلها لم تُخلق في ذلك الوقت، لأن الدواب وغيرها من الثمار التي في الأرض تخلق وقتًا بعد وقت، ولكن معناه قدَّر خلق الأشياء التي في الأرض. اهـ.

.قال الفخر:

احتج أهل الإباحة بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا} على أنه تعالى خلق الكل للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلًا وهو ضعيف لأنه تعالى قابل الكل بالكل، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد، والتعيين يستفاد من دليل منفصل والفقهاء رحمهم الله استدلوا به على أن الأصل في المنافع الإباحة وقد بيناه في أصول الفقه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولكم} متعلق بخلق، واللام فيه، قيل: للسبب، أي لأجلكم ولانتفاعكم، وقدر بعضهم لاعتباركم.
وقيل: للتمليك والإباحة، فيكون التمليك خاصًا، وهو تمليك ما ينتفع الخلق به وتدعو الضرورة إليه.
وقيل: للاختصاص، وهو أعم من التمليك، والأحسن حملها على السبب فيكون مفعولًا من أجله لأنه بما في الأرض يحصل الانتفاع الديني والدنيوي.
فالديني: النظر فيه وفيما فيه من عجائب الصنع ولطائف الخلق الدالة على قدرة الصانع وحكمته ومن التذكير بالآخرة والجزاء، وأما الدنيوي: فظاهر، وهو ما فيه من المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب والمناظر البهية وغير ذلك.
وقد استدل بقوله: {خلق لكم} من ذهب إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة، فلكل أحد أن ينتفع بها، وإذا احتمل أن يكون اللام لغير التمليك والإباحة، لم يكن في ذلك دليل على ما ذهبوا إليه.
وقد ذهب قوم إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر، فلا يقدم على شيء إلا بإذن.
وذهب قوم إلى أن الوقف لنا تعارض عندهم دليل القائلين بالإباحة، ودليل القائلين بالحظر قالوا بالوقف.
وحكى أبو بكر بن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: لم يخل العقل قط من السمع، فلا نازلة إلا وفيها سمع، أو لها تعلق به أثر لها حال تستصحب، وإذا جعلنا اللام للسبب، فليس المعنى أن الله فعل شيئًا لسبب، لكنه لما فعل ما لو فعله غيره لفعله لسبب أطلق عليه لفظ السبب واندرج تحت قوله: {ما في الأرض جميعًا} جميع ما كانت الأرض مستقرًا له من الحيوان والنبات والمعدن والجبال، وجميع ما كان بواسطة من الحرف والأمور المستنبطة. اهـ.

.قال الفخر:

قيل إنها تدل على حرمة أكل الطين لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض، ولقائل أن يقول في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جمعًا للموضعين، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى بعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه. اهـ.

.قال أبو حيان:

واستدل بعضهم بذلك على تحريم الطين، قال: لأنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض.
وقد تقدم قبل هذا الامتنان بجعل الأرض لنا فراشًا، وهنا امتن بخلق ما فيها لنا وانتصب جميعًا على الحال من المخلوق، وهي حال مؤكدة لأن لفظة ما في الأرض عام، ومعنى جميعًا العموم.
فهو مرادف من حيث المعنى للفظة كل كأنه قيل: ما في الأرض كله، ولا تدل على الاجتماع في الزمان، وهذا هو الفارق بين معًا وجميعًا.
وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على مع، ومن زعم أن المعنى بقوله: {ما في الأرض} الأرض وما فيها، فهو بعيد عن مدلول اللفظ، لكنه تفسير معنى من هذا اللفظ، ومن قوله تعالى: {الذي جعل لكم الأرض فراشًا} فانتظم من هذين الأرض وما فيها خلق الله ذلك لنا.
وقال الزمخشري: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء، كما تذكر السماء، ويراد بها الجهات العلوية، جاز ذلك، فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية.
وقال بعض المنسوبين للحقائق: خلق لكم ليعد نعمه عليكم، فتقتضي الشكرمن نفسك لتطلب المزيد منه.
وقال أبو عثمان: وهب لك الكل وسخره لك لتستدل به على سعة جوده وتسكن إلى ما ضمنه لك من جزيل العطاء في المعاد، ولا تستكثر كثير بره على قليل عملك، فإنه قد ابتدأك بعظيم النعم قبل العمل وقبل التوحيد.
وقال ابن عطاء: خلق لكم ليكون الكون كله لك وتكون لله فلا تشتغل بما لك عما أنت له.
وقال بعض البغداديين: أنعم عليك بها، فإن الخلق عبدة النعم لاستيلاء النعم عليهم، فمن ظهر للحضرة أسقط عنه المنعم رؤية النعم.
وقال الثوري: أعلى مقامات أهل الحقائق الانقطاع عن العلائق. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا} يقتضي أنه لا تصح الحاجة على الله تعالى وإلا لكان قد فعل هذه الأشياء لنفسه أيضًا لا لغيره. اهـ.
قال الفخر:
قوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} الاستواء في كلام العرب قد يكون بمعنى الانتصاب وضده الاعوجاج ولما كان ذلك من صفات الأجسام، فالله تعالى يجب أن يكون منزهًا عن ذلك ولأن في الآية ما يدل على فساده لأن قوله: {ثُمَّ استوى} يقتضي التراخي ولو كان المراد من هذا الاستواء العلو بالمكان لكان ذلك العلو حاصلًا أولًا ولو كان حاصلًا أولًا لما كان متأخرًا عن خلق ما في الأرض لكن قوله: {ثُمَّ استوى} يقتضي التراخي، ولما ثبت هذا وجب التأويل وتقريره أن الاستواء هو الاستقامة يقال استوى العود إذا قام واعتدل ثم قيل استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدًا مستويًا من غير أن يلتفت إلى شيء آخر ومنه استعير قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} أي خلق بعد الأرض السماء ولم يجعل بينهما زمانًا ولم يقصد شيئًا آخر بعد خلقه الأرض. اهـ.

.قال أبو حيان:

وفي الاستواء هنا سبعة أقوال:
أحدها: أقبل وعمد إلى خلقها وقصد من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر، وهو استعارة من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل، إذا قصده قصدًا مستويًا من غير أن يلوي على شيء، قال معناه الفراء، واختاره الزمخشري، وبين ما الذي استعير منه.
الثاني: علا وارتفع من غير تكييف ولا تحديد، قاله الربيع بن أنس، والتقدير: علا أمره وسلطانه، واختاره الطبري.
الثالث: أن يكون إلى بمعنى على، أي استوى على السماء، أي تفرد بملكها ولم يجعلها كالأرض ملكًا لخلقه، ومن هذا المعنى قول الشاعر:
فلما علونا واستوينا عليهم ** تركناهم صرعى لنسر وكاسر

ومعنى هذا الاستيلاء كما قال الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ** من غير سيف ودم مهراق

الرابع: أن المعنى تحول أمره إلى السماء واستقر فيها، والاستواء هو الاستقرار، فيكون ذلك على حذف مضاف، أي ثم استوى أمره إلى السماء، أي استقر لأن أوامره وقضاياه تنزل إلى الأرض من السماء، قاله الحسن البصري.
والخامس: أن المعنى استوى بخلقه واختراعه إلى السماء، قاله ابن كيسان، ويؤول المعنى إلى القول الأول.
السادس: أن المعنى كمل صنعه فيها، كما تقول: استوى الأمر، وهذا ينبو اللفظ عن الدلالة عليه.
السابع: أن الضمير في استوى عائد على الدخان، وهذا بعيد جدًّا يبعده قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} واختلاف الضمائر وعوده على غير مذكور، ولا يفسره سياق الكلام.
وهذه التأويلات كلها فرار عما تقرر في العقول من أن الله تعالى يستحيل أن يتصف بالانتقال المعهود في غيره تعالى، وأن يحل فيه حادث أو يحل هو في حادث، وسيأتي الكلام على الاستواء بالنسبة إلى العرش، إن شاء الله تعالى.
ومعنى التسوية: تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهن وتكميله من قولهم: درهم سواء، أي وازن كامل تام، أو جعلهن سواء من قوله: {إذ نسوّيكم بربِّ العالمين} أو تسوية سطوحها بالإملاس.
والضمير في فسوّاهن عائد على السماء على أنها جمع سماوة، أو على أنه اسم جنس فيصدق إطلاقه على الفرد والجمع، ويكون مرادًا به هنا الجمع. اهـ.