فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قَدْ كَانَ وَقْتُ تَغْرِيرِ الشَّيْطَانِ بِالْمُشْرِكِينَ وَإِيهَامِهِمْ أَنَّهُ لَا غَالِبَ لَهُمْ مِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، هُوَ بِعَيْنِهِ وَقْتُ تَعَجُّبِ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ فِي الدِّينِ مِنْ إِقْدَامِ هَذَا الْعَدَدِ الْقَلِيلِ الْفَاقِدِ لِكُلِّ اسْتِعْدَادٍ حِسِّيٍّ مِنْ أَسْبَابِ الْحَرْبِ، عَلَى قِتَالِ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَفُوقُهُ ثَلَاثَةَ أَضْعَافٍ فِي الْعَدَدِ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَنْقُصُهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَاحِدَةٌ، فَذَلِكَ قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ} فَالظَّرْفُ هُنَا مُتَعَلِّقٌ بِـ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ والْمُنَافِقُونَ هُمُ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُسِرُّونَ الْكُفْرَ، ووَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هُمْ ضِعَافُ الْإِيمَانِ تَثُورُ بِهِمُ الشُّكُوكُ وَالشُّبُهَاتُ تَارَةً فَتُزَلْزِلُ اعْتِقَادَهُمْ، وَتَسْكُنُ تَارَةً فَيَكُونُونَ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَلْ يُمَيِّزُ أَهْلَ الْيَقِينِ مِنَ الضُّعَفَاءِ إِلَّا الِامْتِحَانُ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّدَائِدِ؟ لَمْ يَرَ الْمُنَافِقُونَ وَمَنْ هُمْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُمْ مِنْ مَرْضَى الْقُلُوبِ عِلَّةً يُعَلِّلُونَ بِهَا هَذَا الْإِقْدَامَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ إِلَّا الْغُرُورَ بِالدِّينِ، وَلَعَمْرُ الْإِنْصَافِ إِنَّ هَذَا لَأَقْرَبُ تَعْلِيلٍ مَعْقُولٍ لِأَمْثَالِهِمُ الْمَحْرُومِينَ مِنْ كَمَالِ الْإِيمَانِ بِاللهِ، وَالثِّقَةِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ مِمَّا وَرَدَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ مِنْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا مِنَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، فَإِنَّ ضُعَفَاءَهُمْ قَدْ مَحَّصَهُمُ اللهُ بِمَا كَانَ مِنْ جِدَالِهِمْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمُصَارَحَتِهِمْ لَهُ فِي كَرَاهَةِ الْقِتَالِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَبِاقْتِنَاعِهِمْ بِجَوَابِهِ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ- ثُمَّ أَتَمَّ تَمْحِيصَهُمْ بِخَوْضِهِمُ الْمَعْرَكَةَ، فَهُمْ مِنَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ بِأَنَّهُ غَرَّهُمْ دِينُهُمْ، وَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي الْمُؤْمِنِينَ: غَرَّهُمْ دِينُهُمْ وَهُوَ تَبَرُّؤٌ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ؟ فَإِنْ صَحَّ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مَعْدُودِينَ فِي جُمْلَتِهِمْ لَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْغُزَاةِ، وَإِلَّا كَانَ خَطَأً مَرْدُودًا، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ فِي سَنَةِ يَوْمِ بَدْرٍ يُمَيَّزُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ بِنَفْسِهِ، وَالرِّوَايَةُ عَنْهُ فِيهَا كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالشَّعْبِيِّ وَابْنِ إِسْحَاقَ وَمَعْمَرٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فِئَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ قَيْسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ، وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ خَرَجُوا مَعَ قُرَيْشٍ مِنْ مَكَّةَ وَهُمْ عَلَى الِارْتِيَابِ فَحَبَسَهُمُ ارْتِيَابُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى مَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ نَقْلِهِ: وَهَكَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ سَيَّارٍ سَوَاءً.
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ أَيْ: يَكِلُ إِلَيْهِ أَمْرَهُ مُؤْمِنًا إِيمَانَ إِذْعَانٍ وَاطْمِئْنَانٍ بِأَنَّهُ هُوَ حَسْبُهُ وَكَافِيهِ وَنَاصِرُهُ وَمُعِينُهُ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، عَزِيزٌ لَا يَغْلِبُهُ، وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَرَادَهُ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أَيْ: فَهُوَ تَعَالَى بِمُقْتَضَى عِزَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ عِنْدَ إِيمَانِهِمْ بِهِ، وَتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ: يَكْفِيهِمْ مَا أَهَمَّهُمْ، وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهُمْ، وَعَظُمَ اسْتِعْدَادُهُمْ؛ لِأَنَّهُ عَزِيزٌ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، حَكِيمٌ يَضَعُ كُلَّ أَمْرٍ فِي مَوْضِعِهِ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ النِّظَامُ وَالتَّقْدِيرُ فِي سُنَنِهِ، وَمِنْهُ نَصْرُ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، بَلْ كَثِيرًا مَا تَدْخُلُ عِنَايَتُهُ بِالْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْآيَاتِ، وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ (كَمَا حَصَلَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَآيَاتُ اللهِ لَا نِهَايَةَ لَهَا) وَإِنْ أَجْمَعَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ التَّوَكُّلَ لَا يَقْتَضِي تَرْكَ الْأَسْبَابِ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا الْخُرُوجَ عَنِ السُّنَنِ الْعَامَّةِ فِي أَفْعَالِ الرَّبِّ، كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ مُفَصَّلًا مِنْ قَبْلُ.
وَكَمْ لِلَّهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيِّ ** يَدِقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ

وَقَدِ اشْتُهِرَ فِي عِبَادِ الْمِلَّةِ أَفْرَادٌ فِي تَرْكِ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا تَوَكُّلًا عَلَى اللهِ، وَثِقَةً بِهِ، وَاشْتُهِرَ مِنْ تَسْخِيرِهِ تَعَالَى الْأَسْبَابَ لَهُمْ، وَالْعِنَايَةَ بِهِمْ، مَا يَعْسُرُ عَلَى الذَّكِيِّ تَأْوِيلُهُ كُلُّهُ بِالتَّخْرِيجِ عَلَى الْمُصَادَفَاتِ الْمُعْتَادَةِ: كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ الَّذِي كَانَ مَلِكًا فَخَرَجَ مِنْ مُلْكِهِ، وَانْقَطَعَ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ فِي رِزْقِهِ، وَفِي كُلِّ أُمُورِهِ. وَإِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ وَشَقِيقٍ الْبَلْخِيِّ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ أَدْرَكْنَا فِي عَصْرِنَا عَالِمًا أَفْغَانِيًّا مِنْهُمُ اسْمَهُ عَبْدُ الْبَاقِي خَرَجَ مِنْ بِلَادِهِ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْعُلُومِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ إِلَى الْهِنْدِ لِلتَّوَسُّعِ فِي الْفَلْسَفَةِ وَسَائِرِ الْمَعْقُولَاتِ، وَجَدَّ وَاجْتَهَدَ فِيهَا حَتَّى رَأَى فِي مَنَامِهِ مَرَّةً رَجُلَا ذَا هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ مُؤْثِرَةٍ سَأَلَهُ: أَتَدْرِي مَاذَا تَعْمَلُ يَا عَبْدَ الْبَاقِي؟ إِنَّكَ كَمَنْ يَأْخُذُ خَشَبَةً يُحَرِّكُ بِهَا الْكَنِيفَ عَامَّةَ نَهَارِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ حَمَلَتْهُ هَذِهِ الرُّؤْيَا عَلَى التَّفَكُّرِ فِي هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ وَالْفَائِدَةِ مِنْهَا. وَمَا لَبِثَ أَنْ تَرَكَهَا، وَعَزَمَ عَلَى الِانْقِطَاعِ لِعِبَادَةِ اللهِ، وَتَرَكَ الْعَالَمَ كُلَّهُ لِذَلِكَ، فَخَرَجَ مِنَ الْهِنْدِ إِلَى بِلَادِ الْعَرَبِ فَكَانَ يَحُجُّ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَاشِيًا، وَيَعُودُ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ فِي الْغَالِبِ فَيُقِيمُ عِنْدَنَا فِي الْقَلَمُونِ أَيَّامًا، وَفِي طَرَابُلُسَ وَحِمْصَ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْحِجَازِ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ، وَلَمْ يَكُنْ يَحْمِلُ دَرَاهِمَ، وَلَا زَادًا، وَقَدْ يَحْمِلُ كِتَابًا بِيَدِهِ يقرأ هُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ وَهَبَهُ، وَتَلَقَّى عَنْهُ بَعْضُ الْأَذْكِيَاءِ دُرُوسًا فِي التَّوْحِيدِ وَالْأُصُولِ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُولَئِكَ الدَّرَاوِيشِ الْكُسَالَى وَالسَّيَّاحِينَ الدَّجَّالِينَ.
قَالَ صَدِيقُنَا الْعَالِمُ الذَّكِيُّ النَّقَّادَةُ السَّيِّدُ عَبْدُ الْحَمِيدِ الزَّهْرَاوِيُّ: لَوْلَا أَنَّنَا رَأَيْنَا هَذَا الرَّجُلَ بِأَعْيُنِنَا وَاخْتَبَرْنَاهُ فِي هَذِهِ السِّنِينَ الطِّوَالِ بِأَنْفُسِنَا، لَكُنَّا نَظُنُّ أَنَّ مَا يُرْوَى مِنْ أَخْبَارِ كِبَارِ الصَّالِحِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ كَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَالْخَوَاصِّ وَالْبَلْخِيِّ مُبَالَغَاتٌ وَإِغْرَاقَاتٌ مِنْ مُتَرْجِمِيهِمْ.
وَقَدْ حَدَّثَنَا الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ الصُّوفِيُّ الْأَدِيبُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ كَانَ غَلَبَ عَلَيْهِ حَالُ التَّوَكُّلِ، وَحَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِأَنَّهُ صَارَ مُقَدَّمًا لَهُ، فَامْتَحَنَّاهُ بِسَفَرٍ خَرَجَ فِيهِ مِنْ بَلَدِهِ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مَالٌ، فَسَخَّرَ اللهُ لَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الشَّرِيفَةِ مَا كَانَ بِهِ سَفَرُهُ لَائِقًا بِكَرَامَتِهِ، وَحُسْنِ مَظْهَرِهِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ سَخَّرَ لَهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ مِنْ أَغْنِيَاءِ الْمُسَافِرِينَ بِالْبَاخِرَةِ فَتَبَرَّعَ لَهُ بِأُجْرَةِ السَّفَرِ فِيهَا إِلَى حَيْثُ أَرَادَ. وَمِثْلُ هَذَا التَّسْخِيرِ يَقَعُ كَثِيرًا لِرِجَالِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ فِي أَقْوَامِهِمْ وَأَقْطَارِهِمْ، وَنَاهِيكَ مَا كَانَ يَمْتَازُ بِهِ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ مِنْ جَمَالِ الصُّورَةِ، وَمَهَابَةِ الطَّلْعَةِ، وَحُسْنِ الزِّيِّ وَالْوَقَارِ يُزَيِّنُهُ اللُّطْفُ وَالتَّوَاضُعُ، وَلَكِنْ هَلْ يَقْدَمُ مَنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي كَرَامَتِهِ وَإِبَائِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَلَدِهِ، وَرُكُوبِ الْبَحْرِ وَهُوَ لَا يَحْمِلُ دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا لَوْلَا شِدَّةُ الثِّقَةِ بِاللهِ، وَاطْمِئْنَانُ الْقَلْبِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ؟ كَلَّا إِنَّمَا يَقْدَمُ عَلَى مِثْلِ هَذَا مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ مَعْنَى التَّوَكُّلِ أُنَاسٌ مِنَ الشُّطَّارِ اتَّخَذُوا الِاحْتِيَالَ عَلَى اسْتِجْدَاءِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْأُمَرَاءِ بِمَظَاهِرِهِمُ الْخَادِعَةِ وَتَلْبِيسَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ، صِنَاعَةً يُرَوِّجُونَهَا بِالْغُلُوِّ فِي إِطْرَائِهِمْ.
وَمَثَلُ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِالْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ فِي تَسْخِيرِ الْأَسْبَابِ الشَّرِيفَةِ لَهُمْ مَا وَقَعَ لِشَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ أَيَّامَ كَانَ مَنْفِيًّا فِي بَيْرُوتَ: قَالَ لِي: جَاءَنِي فُلَانٌ مِنْ أَصْدِقَائِي الْمِصْرِيِّينَ الْمَنْفِيِّينَ يَوْمًا وَقَالَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ وَالِدُهُ، وَأَنَّهُ لابد لَهُ مِنَ الْعِنَايَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ فِي تَجْهِيزِهِ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ مَا يَكْفِي لِذَلِكَ: قَالَ الشَّيْخُ: وَكُنْتُ قَبَضْتُ رَاتِبِي الشَّهْرِيَّ مِنَ الْمَدْرَسَةِ السُّلْطَانِيَّةِ لَمْ أُعْطِ مِنْهُ شَيْئًا لِلتُّجَّارِ الَّذِينَ نَأْخُذُ مِنْهُمْ مُؤْنَةَ الدَّارِ فَنَقَدْتُهُ إِيَّاهُ كُلَّهُ لِعِلْمِي بِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ كُلِّهِ، وَوَكَّلْتُ أَمْرِي وَأَمْرَ أُسْرَتِي إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَلَمْ يَمُرَّ ذَلِكَ النَّهَارُ إِلَّا وَقَدْ جَاءَنِي حَوَالَةٌ بَرْقِيَّةٌ بِمَبْلَغٍ أَكْبَرَ مِنْ رَاتِبِ الْمَدْرَسَةِ كَانَ دَيْنًا لِي قَدِيمًا عَلَى رَجُلٍ أَعْيَانِي أَمْرُ تَقَاضِيهِ مِنْهُ، وَأَنَا فِيهَا مُمَتَّعٌ بِمَا تَعْلَمُ مِنَ النُّفُوذِ، وَكَتَبْتُ إِلَيْهِ بَعْدَ سَفَرِي مِرَارًا أَتَقَاضَاهُ مِنْهُ مُسْتَشْفِعًا بِعُذْرِ الْحَاجَةِ حَتَّى يَئِسْتُ مِنْهُ، فَهَلْ كَانَ إِرْسَالُهُ إِيَّاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِتَحْوِيلٍ بَرْقِيٍّ إِلَّا تَسْخِيرًا مِنْهُ تَعَالَى بِعِنَايَتِهِ الْخَاصَّةِ؟
(أَقُولُ): إِنَّنِي أَرَانِي غَيْرَ خَارِجٍ بِهَذِهِ الْأَمْثَالِ عَنْ مَنْهَجِ هَذَا التَّفْسِيرِ الْمُرَادُ بِهِ التَّفَقُّهُ وَالِاعْتِبَارُ، وَأَنَا أَرَى النَّاسَ يَزْدَادُ إِعْرَاضُهُمْ عَنِ الدِّينِ وَالِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ، وَتَقِلُّ فِيهِمُ الْقُدْوَةُ الصَّالِحَةُ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)}
أخرج ابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم} قال: قريش يوم بدر.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان {لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} وأقبل جبريل عليه السلام على إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين فلما رأى جبريل انتزع يد، وولى مدبرًا هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة انك جار لنا؟! فقال: {إني أرى ما لا ترون} وذلك حين رأى الملائكة {إني أخاف الله والله شديد العقاب} قال: ولما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين فقال المشركون: وما هؤلاء {غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم}.
وأخرج الواقدي وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما تواقف الناس أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم سري عنه فبشر الناس بجبريل عليه السلام في جند من الملائكة ميمنة الناس، وميكائيل في جند آخر ميسرة، وإسرافيل في جند آخر ألف، وإبليس قد تصور في صورة سراقة بن جعشم المدلجي يجير المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس، فلما أبصر عدوّ الله الملائكة {نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون} فتشبت به الحارث، وانطلق إبليس لا يرى حتى سقط في البحر ورفع يديه وقال: يا رب موعدك الذي وعدتني.
وأخرج الطبراني وأبو نعيم في الدلائل عن رفاعة بن رافع الأنصار رضي الله عنه قال: لما رأى إبليس ما يفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه، فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سراقة بن مالك، فوكز في صدر الحارث فألقاه ثم خرج هاربًا حتى ألقى نفسه في البحر، فرفع يديه فقال: اللهم إني أسألك نظرتك إياي.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة {سيهزم الجمع ويولون الدبر} [القمر: 45] فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أي جمع يهزم؟!- وذلك قبل بدر- فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش، نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتًا بالسيف ويقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} فكانت بيوم بدر، فأنزل الله فيهم: {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب} [المؤمنون: 24] الآية.
وأنزل الله: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا} [إبراهيم: 28] الآية. ورماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوسعهم الرمية، وملأت أعينهم وأفواههم حتى أن الرجل ليقتل وهو يقذي عينيه وفاه، فأنزل الله: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] وأنزل الله في إبليس {فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون} وقال عتبة بن ربيعة وناس معه من المشركين يوم بدر {غر هؤلاء دينهم} فأنزل الله: {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {إني أرى ما لا ترون} قال: أرى جبريل عليه السلام معتجرًا بردائه يقود الفرس بين يدي أصحابه ما ركبه.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {إني أرى ما لا ترون} قال: ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة، فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة، وقال: {إني أخاف الله} وكذب عدو الله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوّة له به ولا منعة له.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن معمر قال: ذكروا أنهم أقبلوا على سراقة بن مالك بعد ذلك، فأنكر أن يكون شيء من ذلك.
وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عبادة بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: كان الذي رآه نكص حين نكص الحارث بن هشام، أو عمرو بن وهب الجمحي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {إذ يقول المنافقون} قال: وهم يومئذ في المسلمين.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض} قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الكلبي رضي الله عنه قال: هم قوم كانوا أقروا بالإِسلام وهم بمكة، ثم خرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا المسلمين قالوا {غر هؤلاء دينهم}.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن الشعبي رضي الله عنه في الآية قال: كان أناس من أهل مكة تكلموا بالإِسلام فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا وفد المسلمين قالوا {غر هؤلاء دينهم}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن إسحاق رضي الله عنه في قوله: {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض} قال: هم الفئة الذين خرجوا مع قريش، احتبسهم آباؤهم فخرجوا وهم على الارتياب، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا {غر هؤلاء دينهم} حين قدموا على ما قدموا عليه من قلة عددهم وكثرة عدوّهم، وهم فئة من قريش مسمون خمسة: قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان، والحارث بن زمعة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه. اهـ.