فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)}
نحن نعلم أن معظم أعمال الإنسان يزاولها بيده، وقد يفعل أشياء بقدميه أو بلسانه؛ لكن معظم الأعمال تتم باليد؛ لأن اليد تحمل القدرة على الفعل. فسبحانه لم يفتئت عليهم.
و{ذلك} إشارة إلى الضرب والعذاب الذي ينالونه جزاء ما قدمت أيديهم. ويقول سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [الأنفال: 51].
أي أن العذاب الذي يصيب الكفار يكون نتيجة أمرين؛ ما قدمت أيديهم أي بما كسبت من الآثام والمعاصي، وعدل الله سبحانه وتعالى.
ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [آل عمران: 181-182].
ويقول سبحانه وتعالى في سورة الحج: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} [الحج: 10].
وهكذا نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد قال: إنه ليس بظلام للعبيد ثلاث مرات في القرآن الكريم، والذين يحبون أن يستدركوا على كتاب الله يقولون: إنَّه جاء في القرآن أكثر من مرة أنه سبحانه وتعالى ليس بظلام للعبيد. فهل هذا يعني أن الله- معاذ الله- ظالم؟. ونقول: لا، فسبحانه ينفي الظلم عن نفسه على إطلاقه. والإنسان حين يظلم فهو ظالم، فإذا اشتد ظلمه وتعدد، يقال: ظلاَّم. إذن فهذه صيغة مبالغة في الظلم، مثلما تقول: فلان آكل وفلان أكّال أي كثير الأكل مبالغة في تناول الطعام. وتقول: فلان ناجر أي أمسك قطعة خشب بدون خبرة وصنع منها شيئًا. ولكنك إذا قلت: نجَّار كانت هذه صيغة مبالغة تبين إاتقانه في صنعته، كذلك خائط وخيَّاط ونقول: فلان جازر أي يستطيع أن يذبح، فإذا قلت: جزَّار أي عمله هو أن يذبح بإتقان.
إذن فعَّال صيغة مبالغة في الفعل. وصيغ المبالغة لها حالتان، حالة إثبات وحالة نفي. فأنت حين تقول: فلان أكّال أثبت له صفة المبالغة في الأكل- أي كثرة الأكل، ومن باب أولى صفة الأكل مطلقًا، وما دمت قد أثبت له الصفة الأعلى تكون الصفة الأدنى ثابتة، فإذا قلت: إن فلانًا خياط أثبت له أنه يعرف الخياطة ويجيدها. وإن قلت: إنه نجَّار أثبت له أنه ناجر متقن للنجارة، أما من ناحية النفي فإذا قلت: إن فلانًا ليس أكَّالًا تنفي المبالغة ولكنها لا تنفي أنه يأكل، فإذا قلت: إن فلانًا ليس نجارًا نفيت عنه إتقانه للنجارة ولكنك لا تنفي عنه أنه قد يكون ناجرًا، وإذا قلت: إن فلانًا ليس علاّمة فقد يكون عالمًا.
وأنت عندما تثبت الأعلى تثبت الأدنى، وعندما تنفي الأعلى لا تنفي الأدنى. وعندما تقول: إن فلانًا ليس ظلاَّمًا، تكون قد نفيت الأعلى. ولكن لا يلزم نفي الأدنى فقد يكون ظالمًا فقط وليس ظلاَّما. إذن فكلمة ليس ظّلامًا نفت المبالغة فقط ولكنها لم تنف الظلم. وهذا ما قاله المستشرقون: إن آيات القرآن يناقض بعضها بعضًا، ففي آية مثلًا يقول: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ} فنفي الأعلى ولا يلزم من نفي الأعلى نفي الأدنى. ويقول سبحانه وتعالى في آية أخرى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40].
فنفي الأدنى والأعلى. وهذا في رأيهم تضارب. نقول: هل إذا نفي الأعلى يلزم أن يثبت الأدنى؟ طبعًا لا، إن نفي الأعلى لا يمنع أن يوجد الأدنى ولكنه لا يلزم بوجوده. إذن فقول الحق سبحانه وتعالى نفي مبدأ الظلم، وقوله تعالى: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [الأنفال: 51].
نفي مبدأ المبالغة، والقرآن يكمل بعضه بعضًا، فإذا قيل: إن الله نفى الأعلى وهذا إثبات للأدنى نقول: إن نفي الأعلى لا يلزم منه إثبات الأدنى ولا يمنع من وجود الأدنى، فإذا جاءت آية أخرى ونفت الأدنى، إذن فلا هو بظلاَّم ولا هو بظالم. ولابد أن نلتفت إلى الإعجاز القرآني في الأسلوب، فالمتكلم هو الله. نقول: هل قال الله سبحانه وتعالى: ليس بظلاَّم للعبد أم ليس بظلاَّم للعبيد؟ لقد قال الحق: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} وهي هنا صيغة مبالغة، والمبالغة مرة تكون في قوة الحدث وإن لم يتكرر، ومرة تكون في المبالغة في تكرار الحدث، والإنسان حين يظلم ظلمًا بيّنًا مبالغًا فيه يقال عنه: إنه ظلاَّم؛ لأنه بالغ في الظلم، فإذا لم يبالغ في الظلم وكان ظلمًا بسيطًا ولكنه شمل عددًا كبيرًا من الناس يكون ظلاَّما نظرًا لتعدد المظلومين.
وما دام الحق سبحانه وتعالى قال: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}؛ ولم يقل: ليس بظلاَّم للعبد، وبما أن الظلم يتناسب مع القدرة. نجد مثلًا قدرة الحاكم على الظلم أكبر من قدرة محدود النفوذ؛ وهذه أكبر من قدرة الشخص العادي، فلو كان الله سبحانه وتعالى مع كل واحد من عباده ظالمًا ولو مثقال ذرة لقيل: ظلاَّم. وقد أراد الله سبحانه وتعالى بهذه الآية الكريمة أن يخبرنا أنه لا يظلم أحدًا ولو مثقال ذرة، إذن فهو ليس بظلاَّم للعبيد؛ لأنه لو ظلم كل عبد من عباده ذرة لكانت كمية الظلم هائلة لكثرة العباد. ولكن حتى هذه الذرة من الظلم لا تحدث من الله سبحانه؛ لأن الله ليس بظلاَّم للعبيد.
ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى أمثلة قمة الكفر في الحياة الدنيا فيقول تبارك وتعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ...}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}.
قال الواحديُّ: يجوز أن يقال ذلك مبتدأ، وخبره {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} ويجوز أن يكون خبره محذوفًا، والتقدير: ذلك جزاؤكم بما قدمت أيديكم، ويجوزُ أن يكون محل ذلك نَصْبًا والتقدير: فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم.
قوله: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}.
في محل {أنَّ} وجهان:
أحدهما: النصبُ بنزع الخافض يعني: بأنَّ اللَّهَ.
والثاني: أنَّكَ إن جعلت قوله: ذلك في موضع رفع، جعلت أنَّ في موضع رفع أيضًا، أي: وذلك أنَّ الله.
قال الكسائيُّ: ولو كسرت ألف أنَّ على الابتداء كان صوابًا، وعلى هذا التقدير يكون كلامًا مبتدأ منقطعًا عمَّ قبله. اهـ. باختصار.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)}
يُعرِّفهم أنَّ ما أصابهم مِنْ شِدَّةِ الوَطْأَةِ جَزَاءٌ لهم على ما أسلفوه من قبيح الزَّلةَ، كما قيل:
سَنَنْتَ فينا سننا ** قذف البلايا عُقْبَه

يصير على أهوالها ** مَنْ بَرَّ يوم ربَّه

{وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} أي كيفما يعاملهم في السَّراء والضرَّاء فذلك منه حَسَن وعَدْلٌ، إذ المُلْكُ مُلْكُه، والخلْقُ خَلْقُه، والحكمْ حُكْمُه. اهـ.

.تفسير الآية رقم (52):

قوله تعالى: {كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما بين بما مضى ما يوجب الاجتماع عليه والرجوع في كل أمر إليه، وبين أن من خالف ذلك هلك كائنًا من كان؛ أتبعه بما يبين أن هذا من العموم والاطراد بحيث لا يخص زمانًا دون زمان ولا مكانًا سوى مكان فقال تعالى: {كدأب} أي عادة هؤلاء الكفار وشأنهم الذي دأبوا فيه وداموا وواظبوا فمونوا عليه كعادة {آل فرعون} أي الذين هؤلاء اليهود من أعلم الناس بأحوالهم: {والذين} ولما كان المهلكون لأجل تكذيب الرسل بعض أهل الزمان الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبلهم} وهو مع ذلك من أدلة {فلم تقتلوهم} لأن هؤلاء الذين أشار إليهم كان هلاكهم بغير قتال، بل بعضهم بالريح وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالغرق وبعضهم بالخسف الذي هو غرق في الجامد، فكأنه يقول: لا ينسب أحد لنفسه فعلًا، فإنه لا فرق عندي في إهلاك أعدائي بين أن يكون إهلاكهم بتسليط من قتال أو غيره، الكل بفعلي، لولا أنا ما وقع، وذلك زاجر عظيم لمن افتخر بقتل من قتله الله على يده، أو نازع في النفل، وهو راجع إلى قوله تعالى: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} [الحديد: 23] وفي ذلك حث على التمرن على عدم الاكتراث بشيء يكون للنفس فيه أدنى حظ ليصير ذلك خلقًا كما هو دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يضيف شيئًا من محاسنه إلا إلى خالقه إلا إن كان مأمورًا فيه بالتشريع، بل يقول: قتلهم الله، صرفهم الله، نصرنا الله، كفى الله، فإذا صار ذلك للمستمسكين به خلقًا أفضى بهم إلى مدح الخالق والمخلوق لهم كما قال كعب بن زهير- رضى الله عنهم- في مدحهم:
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ** قومًا وليسوا مجازيعًا إذا نيلوا

ثم بين تعالى الحال الذي شابهوا فيه من قبلهم بقوله: {كفروا بآيات الله} أي ستروا ما دلتهم عليه أنوار عقولهم من دلالات الملك الأعلى وغطوها لأنهم لم يعملوا بها وصدوا عن ذلك من تبعهم، فكان جزاؤهم ما تسبب عن ذلك من قوله: {فأخذهم الله} اي الذي له مجامع الكبر ومقاعد العظمة والعز أخذ غلبة وقهر وعقوبة {بذنوبهم} كما أخذهم فإنهم تجرءوا على رتبة الألوهية التي تخسأ دون شوامخها نوافذ الأبصار، وتظلم عند بوارق أشعتها سواطع الأنوار، وتضمحل بالبعد عن أول مراقبها القوى، وتنقطع بتوهم الدنو من فيافيها الأعناق، فنزلت بهم صواعق هيبتها، وأناخت عليهم صروف عظمتها، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ولا تحس إلا ملاعبهم وأمكاكنهم.
ولما أخبر بأخذهم، علله بقوله: {إن الله} أي الذي له الإحاطة الشامله {قوي} أي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء {شديد العقاب}. اهـ.

.قال الفخر:

إنه تعالى لما بين ما أنزله بأهل بدر من الكفار عاجلًا وآجلًا كما شرحناه أتبعه بأن بين أن هذه طريقته وسنته في الكل.
فقال: {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} والمعنى: عادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون في كفرهم.
فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي أولئك بالإغراق وأصل الدأب في اللغة إدامة العمل يقال: فلان يدأب في كذا، أي يداوم عليه ويواظب ويتعب نفسه، ثم سميت العادة دأبًا لأن الإنسان مداوم على عادته ومواظب عليها.
ثم قال تعالى: {إِنَّ الله قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب} والغرض منه التنبيه على أن لهم عذابًا مدخرًا سوى ما نزل بهم من العذاب العاجل. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال السمرقندي:

{كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ} من الأمم الخالية.
{كَفَرُواْ بئايات الله}، يعني جحدوا بعذاب الله في الدنيا أنه غير نازل بهم، {فَأَخَذَهُمُ الله}؛ يعني عاقبهم وأهلكهم {بِذُنُوبِهِمْ} وشركهم.
ثم قال: {إِنَّ الله قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب}، يعني قوي في أخذه، شديد العقاب لمن عصاه. اهـ.

.قال الثعلبي:

{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ}
قال ابن عباس: كفعل آل فرعون، وقال الضحاك: كصنيعهم، وقال مجاهد، وعطاء: كسنّتهم، وقال يمان: كمثلهم يعني أن أهل بدر فعلوا كفعل آل فرعون من الكفر والذنوب، ففعل الله بهم كما فعل بآل فرعون من الهلاك والعذاب، وقال الكسائي: كما أن آل فرعون جحدوا كما جحدتم وكفروا كما كفرتم. قال الاخفش، والمؤرخ، وأبو عبيدة: كعادة آل فرعون.
{والذين مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله فَأَخَذَهُمُ الله} فعاقبهم الله: {بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب}. اهـ.