فصل: (سورة البقرة: الآيات 28- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة البقرة: الآيات 28- 29]:

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}.
معنى الهمزة التي في كَيْفَ مثله في قولك: أتكفرون باللَّه ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلى الإيمان، وهو الإنكار والتعجب. ونظيره قولك: أتطير بغير جناح، وكيف تطير بغير جناح؟ فإن قلت: قولك: أتطير بغير جناح إنكار للطيران، لأنه مستحيل بغير جناح، وأما الكفر فغير مستحيل مع ما ذكر من الإماتة والإحياء. قلت: قد أخرج في صورة المستحيل لما قوى من الصارف عن الكفر والداعي إلى الإيمان. فإن قلت: فقد تبين أمر الهمزة وأنها لإنكار الفعل والإيذان باستحالته في نفسه، أو لقوة الصارف عنه، فما تقول في كيف حيث كان إنكارًا للحال التي يقع عليها كفرهم؟ قلت: حال الشيء تابعة لذاته، فإذا امتنع ثبوت الذات تبعه امتناع ثبوت الحال فكان إنكار حال الكفر لأنها تبيع ذات الكفر ورديفها إنكارًا لذات الكفر، وثباتها على طريق الكناية، وذلك أقوى لإنكار الكفر وأبلغ. وتحريره: أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها. وقد علم أنّ كل موجود لا ينفك عن حال وصفة عند وجوده. ومحال أن يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكارًا لوجوده على الطريق البرهاني.
والواو في قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْواتًا} للحال. فإن قلت: فكيف صح أن يكون حالا وهو ماض، ولا يقال جئت وقام الأمير، ولكن وقد قام، لا أن يضمر قد؟ قلت: لم تدخل الواو على: {كُنْتُمْ أَمْواتًا} وحده، ولكن على جملة قوله: {كُنْتُمْ أَمْواتًا} إلى تُرْجَعُونَ، كأنه قيل: كيف تكفرون باللَّه وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم بعد الموت، ثم يحاسبكم.
فإن قلت: بعض القصة ماض وبعضها مستقبل، والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقعا حالا حتى يكون فعلا حاضرا وقت وجود ما هو حال عنه، فما الحاضر الذي وقع حالا؟ قلت: هو العلم بالقصة، كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة بأولها وآخرها.
فإن قلت: فقد آل المعنى إلى قولك: على أى حال تكفرون في حال علمكم بهذه القصة فما وجه صحته؟ قلت: قد ذكرنا أنّ معنى الاستفهام في كيف الإنكار. وأنّ إنكار الحال متضمن لإنكار الذات على سبيل الكناية، فكأنه قيل: ما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه! فإن قلت: إن اتصل علمهم بأنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم، فلم يتصل بالإحياء الثاني والرجوع؟ قلت: قد تمكنوا من العلم بهما بالدلائل الموصلة إليه، فكان ذلك بمنزلة حصول العلم. وكثير منهم علموا ثم عاندوا. والأموات: جمع ميت، كالأقوال في جمع قيل. فإن قلت: كيف قيل لهم أموات في حال كونهم جمادا، وإنما يقال ميت فيما يصح فيه الحياة من البنى؟ قلت: بل يقال ذلك لعادم الحياة، كقوله: {بَلْدَةً مَيْتًا} وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ، أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ. ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس.
فإن قلت: ما المراد بالإحياء الثاني؟ قلت: يجوز أن يراد به الإحياء في القبر، وبالرجوع: النشور. وأن يراد به النشور، وبالرجوع: المصير إلى الجزاء. فإن قلت: لم كان العطف الأوّل بالفاء والإعقاب بثم؟ قلت: لأنّ الإحياء الأوّل قد تعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد نراخى عن الإحياء. والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت- إن أريد به النشور- تراخيا ظاهرا. وإن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن النشور. فإن قلت: من أين أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها اللَّه، ألأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر، أم على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعا، لأنّ ما عدّده آيات وهي مع كونها آيات من أعظم النعم. لَكُمْ لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم ودينكم. أما الانتفاع الدنيوي فظاهر. وأمّا الانتفاع الديني فالنظر فيه وما فيه من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم، وما فيه من التذكير بالآخرة وبثوابها وعقابها، لاشتماله على أسباب الأنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية، وعلى أسباب الوحشة والمشقة من أنواع المكاره كالنيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف. وقد استدل بقوله: {خَلَقَ لَكُمْ} على أنّ الأشياء التي يصح أن ينتفع بها ولم تجر مجرى المحظورات في العقل خلقت في الأصل مباحة مطلقا لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها. فإن قلت: هل لقول من زعم أنّ المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟
قلت: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء وتراد الجهات العلوية:
جاز ذلك، فإنّ الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية. وجَمِيعًا نصب على الحال من الموصول الثاني. والاستواء: الاعتدال والاستقامة. يقال: استوى العود وغيره، إذا قام واعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدًا مستويًا، من غير أن يلوى على شيء. ومنه استعير قوله: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ} أى قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض، من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء: جهات العلو، كأنه قيل: ثم استوى إلى فوق. والضمير في فَسَوَّاهُنَّ ضمير مبهم. وسَبْعَ سَماواتٍ تفسيره، كقولهم: ربه رجلا. وقيل الضمير راجع إلى السماء. والسماء في معنى الجنس. وقيل جمع سماءة، والوجه العربي هو الأوّل. ومعنى تسويتهنّ: تعديل خلقهنّ، وتقديمه، وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهنّ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فمن ثم خلقهنّ خلقًا مستويًا محكما من غير تفاوت، مع خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم.
فإن قلت: ما فسرت به معنى الاستواء إلى السماء يناقضه ثم لإعطائه معنى التراخي والمهلة قلت: ثم هاهنا لما بين الخلقين من التفاوت وفضل خلق السماوات على خلق الأرض، لا للتراخي في الوقت كقوله: {ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}. على أنه لو كان لمعنى التراخي في الوقت لم يلزم ما اعترضت به، لأن المعنى أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك- أى في تضاعيف القصد إليها- إلخ. قال أحمد رحمه اللَّه: هذا استدلال فرقة من القدرية ذهبت إلى أن حكم اللَّه تعالى الاباحة في ذوات المنافع التي لا يدل العقل على تحريمها قبل ورود الرسل تلقيها من العقل وزعموا أنها اشتملت على منافع وحاجة الخلق داعية اليها، فخلقها مع خطرها على العباد خلاف مقتضى الحكمة فوجب عندهم بمقتضى العقل أن يعتقدوا إباحتها في حكم اللَّه عز وجل، وهذا زلل ناشئ عن قاعدة التحسين والتقبيح الباطلة. وأما استدلال الزمخشري لهذه الفرقة بالآية فغير مستقيم، فان دعواهم أن العقل كاف في إباحة هذه الأشياء. فان دلت الآية على الاباحة فنحن نقول بموجبها ويكون إذًا إباحة شرعية سمعية. وإن لم تدل على الاباحة لم يبق في الاستدلال بها مطمع.
خلقًا آخر. فإن قلت: أما يناقض هذا قوله: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها}؟ قلت: لا لأنّ جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء. وأمّا دحوها فمتأخر. وعن الحسن: خلق اللَّه الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر، عليها دخان ملتزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات، وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض، فذلك قوله: {كانَتا رَتْقًا} وهو الالتزاق. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابورى في الآيتين:

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}.
التفسير:
هذه الآية مسوقة لبيان التعجب من حال الكفرة، وذلك أن الاستفهام من علام الغيوب يمتنع إجراؤه على أصله، فيتولد بمعونة قرائن الأحوال ما ذكرنا. ووجهه هو أن الكفار حين صدور الكفر منهم لابد من أن يكونوا على أحد الحالين: إما عالمين بالله وإما جاهلين به فلا ثالثة. فإذا قيل لهم: كيف تكفرون بالله؟ ومن المعلوم أن كيف للسؤال عن الحال وللكفر مزيد اختصاص من بين سائر أحوال الكافر بالعلم بالصانع أو الجهل به، لأنه لا يمكن تصور كفر الكافر بالصانع مع الذهول عن كونه عالمًا بالله أو جاهلًا به، بخلاف سائر أحواله المتقابلة كالقعود والقيام والسكون والحركة، فإنه يمكن تصور كفره مع الذهول عنها وإن كان لا ينفك الكافر في الوجود عنها كما لا ينفك من العلم بالصانع أو الجهل به في الوجود. وتوجه الاستفهام إلى ذلك الذي له مزيد اختصاص فأفاد الاستفهام، أفي حال العلم بالله تكفرون أم في حال الجهل به؟ لكن الجهل بعيد عن العاقل، لأن الحال حال علم بهذه القصة وهي أن كانوا أمواتًا فصاروا أحياء، وسيكون كذا والحال كذا من الإماتة، ثم الإحياء ثم الرجع إليه، فبقي أن يكون الحال حال العلم بالصانع الموجبة للصرف عن الكفر. فصدور الفعل عمن له صورة اختيار في الترك مع الصارف القوي مظنة تعجب وتعجيب وإنكار وتوبيخ فكأنه قيل: ما أعجب كفركم والحال أنكم عالمون بهذه القصة وهي أن كنتم أمواتًا نطفًا في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء ثم يميتكم بعد هذه الحياة! وهذه مما لا يشك فيها لأنها من المشاهدات، ثم يحييكم حين ينفخ في الصور أو حين تسألون في القبور، ثم إليه أي إلى حكمه ترجعون أي بعد الحشر للثواب والعقاب أو من قبوركم. وهذه القضايا أيضًا مما لا يشك فيها لنصب الأدلة وإزاحة العلة. والأموات جمع ميت كالأقوال جمع قيل، وقد يطلق الميت على الجماد كقوله: {بلدة ميتًا} [ق: 11] ويجوز أن يكون استعارة لاجتماعهما في أن لا روح ولا إحساس. ويحتمل أن يقال: المراد به خمول الذكر كقوله: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا} [الدهر: 1] قال أبو نخيلة السعدي:
وأحييت لي ذكري وما كنت خاملًا ** ولكنّ بعض الذكر أنبه من بعض

ولا يخفى أن الآية بالنسبة إلى العامة، فأما بعض الناس فقد أماتهم ثلاث مرات {فأماته الله مائة عام ثم بعثه} [البقرة: 259] {فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم} [البقرة: 242] {ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون} [البقرة: 56] {وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم} [الكهف: 19] {وآتيناه أهله ومثلهم معهم} [الأنبياء: 84] واعلم أن هذه الآية دالة على أمور منها: اشتمالها على وجود ما يدل على الصانع القادر العلم الحي السميع البصير الغني عما سواه. ومنها الدلالة على أنه لا قدرة على الإحياة والإماتة إلا الله، فيبطل قول الدهري {وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24] ومنها الدلالة على صحة الحشر والنشر مع التنبيه على الدليل القطعي الدال عليه، لأن الإعادة أهون من الإبداء. ومنها الدلالة على التكليف والترغيب والترهيب، ومنها الدلالة على وجوب الزهد في الدنيا لأنه قال: {فأحياكم} أي بعقب كونكم نطفًا من غير تخلل حالة أخرى بينهما، ثم يميتكم بعد انقضاء مهلة الحياة، ثم بيّن أنه لا يترك على هذا الموت بل لابد من حياة ثانية للسؤال أو للحشر، ثم من الرجوع إليه للثواب أو العقاب. فبين سبحانه أنه بعد ما كان نطفة فإنه أحياه وصوّره أحسن صورة وجعله بشرًا سويًا وأكمل عقله وبصره بأنواع المضار والمنافع، وملكه الأموال والأولاد والدور والقصور. ثم إنه تعالى يزيل كل ذلك عنه بأن يميته ويصيره بحيث لا يملك شيئًا ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر، ويبقى مدة مديدة في اللحد {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} [المؤمنون: 100] ينادي فلا يجيب، ويستنطق فلا يتكلم، ثم لا يزوره الأقربون بل ينساه الأهل والبنون.
يمرّ أقاربي بحذاء قبري ** كأن أقاربي لم يعرفوني

الهي إذا قمنا من ثرى الأجداث مغبرة رؤوسنا شاحبة وجوهنا جائعة بطوننا مثقلة من حمل الأوزار ظهورنا بادية لأهل القيامة سوآتنا، فلا تضغف مصائبنا بإعراضك عنا، يا واسع المغفرة، ويا باسط اليدين بالرحمة. ولما ذكر الله تعالى في الآية الأولى أصل جميع النعم وهو الإحياء الذي من حقه أن يشكر ولا يكفر، أعقبها بذكر ما هو كالأصل لسائر النعم وهو خلق الأرض بما فيها، وخلق السماء. ومعنى {لكم} لأجلكم ولانتفاعكم به في دنياكم وذلك ظاهر، وفي دينكم من النظر في عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر الحكيم، ومن التذكير بالآخرة وثوابها وعقابها لاشتماله على أسباب الإنس واللذة من فنون المطاعم والمشارب والفواكه والمناكح والمراكب والمناظر الحسنة البهية، وعلى أسباب الوحشة والألم من النيران والصواعق والسباع والأحناش والسموم والغموم والمخاوف. فظاهر الآية لا يدل إلا على خلق ما في الأرض لأجلهم دون الأرض. فإن أريد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما يذكر السماء ويراد به الجهات العلوية جاز أن يراد خلق لكم الأرض وما فيها. و{جميعًا} نصب على الحال من الموصول الثاني وهو ما أي مجموعة، والمجموع الذي جمع من هاهنا وههنا وإن لم يجعل كالشيء الواحد ويندرج فيها جميع البسائط من الماء والهواء والنار وجميع المواليد من المعادن والنبات والحيوان وجميع الصنائع والحرف.
وبعضهم يستدل بهذا على أن الأصل في الأشياء الإباحة عقلًا لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها ويمكن أن يقال بل بهذه الآية وإلا كان تصرفًا في ملك الغير من غير إذنه. ولا يلزم من أنه تعالى خلق ما في الأرض لأجل المكلفين أن يكون فعله معللًا بغرض، وإن كان لا يخلو من فائدة وغاية، وإلا كان عبثًا لأنه لا يلزم من استتباع الفعل الغاية أن تكون تلك الغاية علة لعلية فاعلة، لأن هذا فيما إذا كانت فاعليته ناقصة لتتكمل بتلك الغاية، أما إذا كانت فاعليته تامة فإنه يوجد الشيء ذا الغاية من غير أن تكون تلك الغاية حاملة له على ذلك، وهذا فرق دقيق يتنبه له من يسر عليه قيل: إنه تعالى خلق الكل للكل، فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلًا، قلنا: قابل الكل بالكل فيقتضي مقابلة الفرد للفرد، والتعيين يستفاد من دليل منفصل. والاستواء بمعنى الانتصاب ضد الاعوجاج من صفات الأجسام، وإنه تعالى منزه عن ذلك. وأيضًا {ثم} تقتضي التراخي، فلو كان المراد بهذا الاستواء العلو بالمكان لكان ذلك العلو حاصلًا أزلًا ولم يكن متأخرًا عن خلق ما في الأرض، فيجب التأويل. وتقريره أن يقال: استوى العود إذا اعتدل، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدًا مستويًا من غير أن يلوي على شيء ومنه استعير قوله: {ثم استوى إلى السماء} [فصلت: 11] أي قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل: ثم استوى إلى فوق، أو هذا كقولك لآخر اعمل هذا الثوب وإنما معه غزل. على أنها كانت دخانًا ثم سواها سبع سموات. و{ثم} هاهنا إما للتراخي في الوقت والمراد أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك أي في تضاعيف القصد إليها خلقًا آخر كما قلنا، أو للتفاوت بين الخلقين. وفضل خلق السموات على خلق الأرض كقوله: {فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر} [المؤمنون: 14] وكقوله: {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 17] وتفسير هذه الآية في قوله: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} [فصلت: 9، 10] يعني تقدير الأرض في يومين، وتقدير الأقوات في يومين، كما يقول القائل: من الكوفة إلى المدينة عشرون يومًا، وإلى مكة ثلاثون يومًا، يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر.
ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين، ومجموع ذلك ستة أيام كما قال: {خلق السموات والأرض في ستة أيام} [يونس: 3] فإن قيل: أما يناقض هذا قوله: {والأرض بعد ذلك دحاها} [النازعات: 30] قلنا: أجاب في الكشاف لا، لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء، وأما دحوها فمتأخر. وعن الحسن: خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعه وبسط منه الأرض فذلك قوله: {كانتا رتقًا} [الأنبياء: 30] وهو الالتزاق، وزيف بأن الأرض جسم عظيم يمتنع انفكاك خلقها عن التدحية. وأيضًا قوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء} يدل على أن خلق الأرض وخلق ما فيها مقدم على خلق السماء، لأن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوّة. وقال بعض العلماء في دفع التناقض قوله: {والأرض بعد ذلك دحاها} [النازعات: 30] يقتضي تقدم خلق السماء على الأرض، ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض، وزيف أيضًا بأن قوله: {أأنتم أشد خلقًا أم السماء بناها رفع سمكها فسوّاها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها} [النازعات: 27- 30] يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدمًا على تدحية الأرض، بل على خلقها لأنهما متلازمان. وحينئذ يعود التناقض والمعتمد عند بعضهم في دفعه أن يقال: {ثم} ليس للترتيب هاهنا، وإنما هو على جهة تعديد النعم. مثاله: أن تقول لغيرك: ألست قد أعطيتك نعمًا عظيمة، ثم رفعت قدرك، ثم دفعت عنك الخصوم؟ ولعل بعض ما أخرته في الذكر مقدم في الوقوع. قلت: وهذا صحيح معقول من حيث ابتداء الوجود من الأشرف فالأشرف والألطف فالألطف إن ساعده النقل وإلا فلا إحالة في أنه تعالى خلق الأرض أولًا في غاية الصغر وجعل فيها أصول الجبال ووضع فيها البركة وقدر الأقوات ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعًا ثم دحا الأرض بأن جعلها أعظم مما كانت عليه كهيئتها الآن والله تعالى أعلم. والضمير في {سوّاهن} ضمير مبهم، و{سبع سموات} تفسيره نحو: ربه رجلًا. وفائدة الإبهام أولًا ثم البيان ثانيًا أن الكلام هكذا أوقع في النفس، لأن المحصول بعد الطلب أعز من المنساق بلا تعب. وقيل: الضمير راجع إلى السماء، والسماء في معنى الجنس. وقيل: جمع سماءة والوجه العربي هو الأول. ومعنى تسويتهن تعديل خلقهن وتقويمه وإخلاؤه من العوج والفطور، أو إتمام خلقهن وهو بكل شيء عليم، فمن ثم خلقهن خلقًا مستويًا محكمًا من غير تفاوت مع خلق ما في الأرض على حسب الحاجات وكفاء المصالح، ومقتضى الحكمة والتدبير. وهذا عام لم يدخله التخصيص قط، وبه يهدم بناء من زعم أنه غير عالم بالجزئيات، لأنه تعالى لو لم يعرف تفاصيلها لم تكن مخلوقاته على غاية الإتقان والإحكام، فسبحانه من خبير يعلم الذرة في الأجواف، والدرة في الأصداف، والقطرة في البحر، والخطرة في النحر، وعلى هذا يدور نظام العالم وبه يحصل قوام مناهج بني آدم.
ثم إن العقل قد يدل على وجود سبع سموات، وتخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد، فأثبت أهل الأرصاد تسعة أفلاك على ما استقر عليه رأيهم، أولها من الجانب الأعلى للحركة اليومية، لأن هذه الحركة تشمل جميع الأجرام، فيجب أن يكون فلكها حاويًا للكل. وثانيها للثوابت جميعها تحديدًا لأدنى الدرجات لاتحاد الحركات وإن كان كونها على أفلاك شتى جائزًا. والسبعة الباقية للسيارات السبعة جميع ذلك بوجود اختلاف المنظر وعدمه. وعلى ترتيب خسف بعضها بعضًا، أولها مما يلينا للقمر وفوقه لعطارد ثم للزهرة ثم للشمس ثم للمريخ ثم للمشتري ثم لزحل. ونازعهم بعض الناس في زيادة الفلكين الثامن والتاسع فقال: من المحتمل أن تتصل نفس بمجموع السبعة فتحركها حركة الكل، ثم يكون لكل فلك نفس على حدة تحركه حركته الخاصة به، وتكون الثوابت على محدب ممثل زحل مثلًا. وبالجملة فلم يتبين لأحد من الأوائل والأواخر كمية أعداد السموات على ما هي عليه لا عقلًا ولا سمعًا {وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر} [المدثر: 31]. اهـ.