فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر وجماعة عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هم الجن ولا يخبل الشيطان إنسانًا في داره فرس عتيق» وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضًا، واختاره الطبري وإذا صح الحديث لا ينبغي العدول عنه، وقوله سبحانه: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} أي لا تعرفونهم بأعيانهم {الله يَعْلَمُهُمْ} لا غير في غاية الظهور وله وجه على غير ذلك وإطلاق العلم على المعرفة شائع وهو المراد هنا كما عرفت ولذا تعدى إلى مفعول واحد، وإطلاق العلم بمعنى المعرفة على الله تعالى لا يضر.
نعم منع الأكثر إطلاق المعرفة عليه سبحانه وجوزه البعض بناءً على إطلاق العارف عليه تعالى في نهج البلاغة وفيه بحث، وبالجملة لا حاجة إلى القول بأن الإطلاق هنا للمشاكلة لما قبله، وجوز أن يكون العلم على أصله ومفعوله الثاني محذوف أي لا تعلمونهم معادين أو محاربين لكم بل الله تعالى يعلمهم كذلك وهو تكلف، واختار بعضهم أن المعنى لا تعلمونهم كما هم عليه من العداوة وقال: إنه الأنسب بما تفيده الجملة الثانية من الحصر نظرًا إلى تعليق المعرفة بالأعيان لأن أعيانهم معلومة لغيره تعالى أيضًا وهو مسلم نظرًا إلى تفسيره، وأما الاحتياج إليه في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم ففيه تردد.
{وَمَا تُنفِقُواْ مِن شيء} جل أو قل {فِى سَبِيلِ الله} وهي وجوه الخير والطاعة ويدخل في ذلك النفقة في الإعداد السابق والجهاد دخولًا أوليًا، وبعضهم خصص اعتبارًا للمقام {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي يؤدي بتمامه والمراد يؤدي إليكم جزاؤه فالكلام على تقدير المضاف أو التجوز في الإسناد {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} بترك الإثابة أو بنقص الثواب، وفي التعبير عن ذلك بالظلم مع أن له سبحانه أن يفعل ما يشاء للمبالغة كما مر. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَأَعِدُّواْ لَهُم} أي: لقتال ناقضي العهد السابق ذكرهم، أو الكفار مطلقًا، وهو الأنسب بسياق النظم الكريم {مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} أي: من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها، أطلق عليه القوة مبالغة.
قال الشهاب: وإنما ذكر لأنه لم يكن لهم في بدر استعداد تام، فنبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان.
{وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} الرباط في الأصل مصدر ربط، أي: شد، ويطلق بمعنى المربوط مطلقًا، كثر استعماله في الخيل التي تربط في سبيل الله، فالإضافة إما باعتبار عموم المفهوم الأصلي، أو بملاحظة كون الرباط مشتركًا بين معان أخر، كانتظار الصلاة وملازمة ثغر العدو، والمواظبة على الأمر، فإضافته لأحد معانيه للبيان، كعين الشمس، ومنه يعلم أنه يجوز إضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركًا.
وإذا كان من إضافة المطلق للمقيد، فهو على معنى من التبعيضية.
وقد يكون الرباط جمع ربيط، كفصيل وفصال.
قال في التاج: يقال: نعم الربيط هذا، لما يرتبط من الخيل، ثم إن عطفها على القوة مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادها، كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة {تُرْهِبُونَ بِهِ} أي: تخوفون بذلك الإعداد {عَدُوَّ اللّهِ} وهو المثبت له شريكًا، المبطل لكلمته {وَعَدُوَّكُمْ} أي: الذي يظهر عداوتك، فتخوفونهم لئلا يحاربوكم باعتقاد القوة في أنفسهم دونكم.

.تنبيه [على دلالة هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية وإتقاء بأس العدو وهجومه]:

دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية، إتقاء بأس العدو وهجومه.
ولما عمل الأمراء بمقتضى هذه الآية، أيام حضارة الإسلام، كان الإسلام عزيزًا عظيمًا، أبي الضيم، قوي القنا، جليل الجاه، وفير السنا، إذا نشر لواء سلطته على منبسط الأرض، فبقض على ناصية الأقطار والأمصار، وخضد شوكة المستبدين الكافرين، وزحزح سجوف الظلم والإستعباد، وعاش بنوه أحقابًا متتالية وهم سادة الأمم، وقادة مشعوب، وزمام الحول والطول وعطب روحي العز والمجد، لا يستكينون لقوة، ولا يرهبون لسطوة.
وأما اليوم، فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة، ومالوا إلى النعيم والترف فأهملوا فرضًا من فروض الكفاية، فأصبحت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض ولذا تعاني اليوم من غصته ما تعاني، وكيف لا يطمع العدو بالممالك الإسلامية، ولا ترى فيها معامل للأسلحة، وذخائر الحرب، بل كلها مما يشترى من بلاد العدو؟
أما آن لها أن تتنبه من غفلتها، وتنشئ معامل لصنع المدافع والبنادق والقذائف والذخائر الحربية؟ فلقد ألقي عليها تنقص العدو بلادها من أطرافها درسًا يجب أن تتدبره، وتتلافى ما فرطت به قبل أن يداهم ما بقي منها بخيله ورجله، فيقضي- والعياذ بالله- على الإسلام وممالك المسلمين، لاستعمار الأمصار، واستعباد الأحرار، ونزع الإستقلال المؤذن بالدمار. وبالله الهداية.
وقوله تعالى: {وَآخَرِينَ} أي: وترعبون قومًا آخرين {مِن دُونِهِمْ} أي: من دون من يظهر عداوتكم، وهم المنافقون {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} أي: أنهم يعادونكم {اللّهُ يَعْلَمُهُمْ} أي: أنهم أعداؤكم، يظهرون عداوتهم إذا رأوا ضعفكم.
ثم شجعهم سبحانه على إنفاق المال في إعداد القوة، ورباط الخيل، مبشرًا لهم بتوفية جزائه كاملًا، بقوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ} أي: الذي أوضحه الجهاد: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي: في الدنيا من الفيء والغنيمة والجزية والخراج، وفي الآخرة بالثواب المقيم: {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} أي: بترك الإثابة.
تنبيهات:
الأول: هذه الآية أصل في كل ما يلزم إعداده للجهاد من الأدوات.
الثاني: في قوله تعالى: {تُرْهِبُون بِهِ} إشارة إلى التجافي عن أن يكون الإعداد لغير الإرهاب كالخيلاء.
وفي حديث الإمام مالك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الخيل ثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر ولرجل وزر، فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، ورجل ربطها تغنيًا وتعففًا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر، ورجل ربطها فخرًا ورياءً ونِواءً لأهل الإسلام، فهي على ذلك وزر».
الثالث: ما ذكرناه في تأويل الآخرين من أنهم المنافقون، يشهد له قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ}. اهـ.

.قال السعدي:

{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}.
أي {وَأَعِدُّوا} لأعدائكم الكفار الساعين في هلاككم وإبطال دينكم.
{مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} أي: كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة [ص 325] ونحو ذلك مما يعين على قتالهم، فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات، والبنادق، والطيارات الجوية، والمراكب البرية والبحرية، والحصون والقلاع والخنادق، وآلات الدفاع، والرأْي: والسياسة التي بها يتقدم المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم، وتَعَلُّم الرَّمْيِ، والشجاعة والتدبير.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن القوة الرَّمْيُ» ومن ذلك: الاستعداد بالمراكب المحتاج إليها عند القتال، ولهذا قال تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وهذه العلة موجودة فيها في ذلك الزمان، وهي إرهاب الأعداء، والحكم يدور مع علته.
فإذا كان شيء موجود أكثر إرهابا منها، كالسيارات البرية والهوائية، المعدة للقتال التي تكون النكاية فيها أشد، كانت مأمورا بالاستعداد بها، والسعي لتحصيلها، حتى إنها إذا لم توجد إلا بتعلُّم الصناعة، وجب ذلك، لأن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب وقوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ممن تعلمون أنهم أعداؤكم.
{وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ} ممن سيقاتلونكم بعد هذا الوقت الذي يخاطبهم الله به {اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} فلذلك أمرهم بالاستعداد لهم، ومن أعظم ما يعين على قتالهم بذلك النفقات المالية في جهاد الكفار.
ولهذا قال تعالى مرغبا في ذلك: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قليلا كان أو كثيرا {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أجره يوم القيامة مضاعفا أضعافا كثيرة، حتى إن النفقة في سبيل اللّه، تضاعف إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
{وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} أي: لا تنقصون من أجرها وثوابها شيئا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}
عطف جملة: {وأعدوا} على جملة: {فإما تثقفنهم في الحرب} [الأنفال: 57] أو على جملة: {ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا} [الأنفال: 59]، فتفيد مفاد الاحتراس عن مُفادها، لأنّ قوله: {ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا} يُفيد توهينًا لشأن المشركين، فتعقيبه بالأمر بالاستعداد لهم: لئلا يحسب المسلمون أنّ المشركين قد صاروا في مكنتهم، ويلزم من ذلك الاحتِراسسِ أنّ الاستعداد لهم هو سبب جعْل اللَّهِ إيّاهم لا يُعجزون اللَّهَ ورسوله، لأنّ الله هيّأ أسباب استئصالهم ظاهرها وباطنها.
والإعداد التهيئة والإحضار، ودخل في {ما استطعتم} كلّ ما يدخل تحت قدرة الناس اتّخاذه من العُدّة.
والخطاب لجماعة المسلمين ووُلاَة الأمر منهم، لأنّ ما يراد من الجماعة إنّما يقوم بتنفيذه وُلاَة الأمور الذين هم وكلاء الأمّة على مصالحها.
والقوة كمال صلاحية الأعضاء لعملها وقد تقدّمت آنفًا عند قوله: {إن الله قوي شديد العقاب} [الأنفال: 52] وعند قوله تعالى: {فخذها بقوة} وتطلق القوة مجازًا على شدّة تأثير شيء ذي أثر، وتطلق أيضًا على سبب شدّة التأثير، فقوة الجيش شدة وقعه على العدوّ، وقوته أيضًا سلاحه وعتاده، وهو المراد هنا، فهو مجاز مرسل بواسطتين، فاتّخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية، واتّخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوّة في جيوش عصرنا.
وبهذا الاعتبار يُفسر ما روى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال: «ألاَ إنّ القوة الرمي» قالها ثلاثًا، أي أكمل أفراد القوة آلةُ الرمي، أي في ذلك العصر.
وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي.
وعطف {رباط الخيل} على {القوة} من عطف الخاصّ على العام، للاهتمام بذلك الخاصّ.
و{الرباط} صيغة مفاعلة أُتِيَ بها هنا للمبالغة لتدلّ على قصد الكثرة من ربط الخيل للغزو، أي احتباسها وربطها انتظارًا للغزو عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ارتبط فرسًا في سبيل الله كان روثُها وبولها حسنات له» الحديث.
يقال: ربط الفرس إذا شدّه في مكان حفظه، وقد سَمَّوا المكان الذي ترتبط فيه الخيل رباطًا، لأنّهم كانوا يحرسون الثغور المخوفة راكبين على أفراسهم، كما وصف ذلك لبيد في قوله:
ولقد حمَيت الحَي تحملُ شِكَّتي ** فُرُطٌ وِشَاحِي إنْ ركبتُ زمامُها

إلى أن قال:
حتّى إذا ألْقَتْ يدًا في كافر ** وأجَنَّ عوراتتِ الثغور ظَلامها

أسْهلتُ وانتصبت كجِذْع مُنيفة ** جرداءَ يَحْصَر دونها جُرَّامها

ثم أُطلق الرباط على مَحرس الثغر البحري، وبه سَمَّوا رِباط (دمياط) بمصر، ورباط (المُنستير) بتونس، ورباط (سَلا) بالمغرب الأقصى.
وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} في سورة [آل عمران: 200].
وجملة: {ترهبون به عدو الله وعدوكم} إمّا مستأنفة استئنافًا بيانيًا، ناشئًا عن تخصيص الرباط بالذكر بعد ذكر ما يعمّه، وهو القوة، وإمّا في موضع الحال من ضمير {وأعدّوا}.
وعدو الله وعدوهم: هم المشركون فكان تعريفهم بالإضافة، لأنّها أخصر طريق لِتعريفهم، ولما تتضمنه من وجه قتالهم وإرهابهم، ومن ذمّهم، أن كانوا أعداء ربّهم، ومن تحريض المسلمين على قتالهم إذ عُدُّوا أعداءً لهم، فهم أعداء الله؛ لأنّهم أعداء توحيده وهم أعداء رسوله صلى الله عليه وسلم لأنّهم صارحوه بالعداوة، وهم أعداء المسلمين، لأن المسلمين أولياء دين الله والقائمون به وأنصاره، فعطف {وعَدوَّكم} على {عدوَّ الله} من عطف صفة موصوف واحد مثل قول الشاعر، وهو من شواهد أهل العربية:
إلى الملك القرم وابن الهما ** م ولَيْثثِ الكتيبة في المزدحم

والإرهاب جعل الغير راهبًا، أي خائفًا، فإنّ العدوّ إذَا علم استعداد عدوّه لقتاله خافه، ولم يجرأ عليه، فكان ذلك هناء للمسلمين وأمنًا من أن يغزوهم أعداؤهم، فيكون الغزو بأيديهم: يَغزون الأعداء متى أرادوا، وكانَ الحال أوفق لهم، وأيضًا ذا رهبوهم تجنّبوا إعانة الأعداء عليهم.