فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}... إلى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}.
في هذا المقطع، الذي يكوّن افتتاح السورة الكبيرة، نجد الملامح الأساسية للطوائف التي واجهتها الدعوة في المدينة باستثناء طائفة اليهود التي ترد إشارة صغيرة لها، ولكنها كافية، فإن تسميتهم بشياطين المنافقين تشير إلى الكثير من صفاتهم، ومن حقيقة دورهم، حتى يرد التفصيل الكامل بعد قليل.
وفي رسم هذه الملامح نجد خصائص التعبير القرآنية، التي تتجلى في قيام الكلمة مقام الخط واللون، إذ سرعان ما ترتسم الصور من خلال الكلمات؛ ثم سرعان ما تنبض هذه الصور وكأنها تموج بالحياة.
وهنا.. في عدد قليل من الكلمات والعبارات في أول السورة ترتسم ثلاث صور لثلاثة أنماط من النفوس. كل نمط منها نموذج حي لمجموعات ضخمة من البشر. نموذج أصيل عميق متكرر في كل زمان ومكان. حتى ما تكاد البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها تخرج عن تلك الأنماط الثلاثة.. وهذا هو الإعجاز.
في تلك الكلمات القلائل والآيات المعدودات ترتسم هذه الصور واضحة كاملة، نابضة بالحياة، دقيقة السمات، مميزة الصفات. حتى ما يبلغ الوصف المطول والإطناب المفصل شيئًا وراء هذه اللمسات السريعة المبينة، الجميلة النسق، الموسيقية الإيقاع.
فإذا انتهى السياق من عرض هذه الصور الثلاث دعا الناس.. الناس جميعًا.. إلى الصورة الأولى؛ وناداهم.. ناداهم كافة.. أن يفيئوا إليها. أن يفيئوا إلى عبادة الله الواحد، والخالق الواحد، والرازق الواحد، بلا شركاء ولا أنداد. وتحدى الذين يرتابون في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وتنزيل الكتاب عليه أن يأتوا بسورة من مثله. وأنذرهم إذا تولوا عذابا مفزعًا مرهوبًا؛ وبشر المؤمنين وصور ما ينتظرهم من نعيم مقيم.
ثم أخذ يرد على اليهود والمنافقين الذين استنكروا ضرب الله للأمثال في القرآن، واتخذوا منه وسيلة للتشكيك في أنه منزل من عند الله. وحذرهم ما وراء ضرب الأمثال، أن يزيدهم ضلالًا- كما يزيد المؤمنين هدى- ثم استنكر أن يكفروا بالله المحيي المميت الخالق المدبر، العليم بكل شيء في هذا الوجود، وهو الذي أنعم على البشر فخلق لهم ما في الأرض جميعًا واستخلفهم في هذا الملك الطويل العريض.
تلك مجمل الخطوط الرئيسية في هذا الدرس الأول من سورة البقرة. فلنحاول أن نتناول هذا الإجمال بشيء من التفصيل.
تبدأ السورة بهذه الأحرف الثلاثة المقطعة: ألف. لام. ميم. يليها الحديث عن كتاب الله: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}.
ومثل هذه الأحرف يجيء في مقدمة بعض السور القرآنية. وقد وردت في تفسيرها وجوه كثيرة. نختار منها وجها. إنها إشارة للتنبيه إلى أن هذا الكتاب مؤلف من جنس هذه الأحرف، وهي في متناول المخاطبين به من العرب. ولكنه- مع هذا- هو ذلك الكتاب المعجز، الذي لا يملكون أن يصوغوا من تلك الحروف مثله.
الكتاب الذي يتحداهم مرة ومرة ومرة أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله فلا يملكون لهذا التحدي جوابًا!
والشأن في هذا الإعجاز هو الشأن في خلق الله جميعا. وهو مثل صنع الله في كل شيء وصنع الناس.. أن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات. فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آجرة، أو آنية أو اسطوانة، أو هيكل أو جهاز. كائنًا في دقته ما يكون.. ولكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة. حياة نابضة خافقة. تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز.. سر الحياة.. ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر، ولا يعرف سره بشر.. وهكذا القرآن.. حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا، ويجعل منها الله قرآنًا وفرقانًا، والفرق بين صنع البشر وصنع الله من هذه الحروف والكلمات، هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض.. هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة!
{ذلك الكتاب لا ريب فيه}.
ومن أين يكون ريب أو شك؛ ودلالة الصدق واليقين كامنة في هذا المطلع، ظاهرة في عجزهم عن صياغة مثله، من مثل هذه الأحرف المتداولة بينهم، المعروفة لهم من لغتهم؟
{ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}.
الهدى حقيقته، والهدى طبيعته، والهدى كيانه، والهدى ماهيته.. ولكن لمن؟ لمن يكون ذلك الكتاب هدى ونورًا ودليلًا ناصحًا مبينًا؟ للمتقين.. فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب. هي التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك. هي التي تهيء لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب.
لابد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن أن يجيء إليه بقلب سليم. بقلب خالص. ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى، ويحذر أن يكون على ضلالة، أو أن تستهويه ضلالة.. وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره، ويسكبها في هذا القلب الذي جاء إليه متقيًا، خائفًا، حساسًا، مهيأ للتلقي.. ورد أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال بلى! قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت. قال: فذلك التقوى.
فذلك التقوى.. حساسية في الضمير، وشفافية في الشعور، وخشية مستمرة، وحذر دائم، وتوق لأشواك الطريق.. طريق الحياة.. الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات، وأشواك المطامع والمطامح، وأشواك المخاوف والهواجس، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء، والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعًا ولا ضرًا. وعشرات غيرها من الأشواك!
ثم يأخذ السياق في بيان صفة المتقين؛ وهي صفة السابقين من المؤمنين في المدينة كما أنها صفة الخلص من مؤمني هذه الأمة في كل حين:
{الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون}.
إن السمة الأولى للمتقين هي الوحدة الشعورية الإيجابية الفعالة. الوحدة التي تجمع في نفوسهم بين الإيمان بالغيب، والقيام بالفرائض، والإيمان بالرسل كافة، واليقين بعد ذلك بالآخرة.. هذا التكامل الذي تمتاز به العقيدة الإسلامية، وتمتاز به النفس المؤمنة بهذه العقيدة، والجدير بأن تكون عليه العقيدة الأخيرة التي جاءت ليلتقي عليها الناس جميعًا، ولتهيمن على البشرية جميعًا، وليعيش الناس في ظلالها بمشاعرهم وبمنهج حياتهم حياة متكاملة، شاملة للشعور والعمل، والإيمان والنظام.
فإذا نحن أخذنا في تفصيل هذه السمة الأولى للمتقين إلى مفرداتها التي تتألف منها، انكشفت لنا هذه المفردات عن قيم أساسية في حياة البشرية جميعا.
{الذين يؤمنون بالغيب}. فلا تقوم حواجز الحس دون الاتصال بين أرواحهم والقوة الكبرى التي صدرت عنها، وصدر عنها هذا الوجود؛ ولا تقوم حواجز الحس بين أرواحهم وسائر ما وراء الحس من حقائق وقوى وطاقات وخلائق وموجودات.
والإيمان بالغيب هو العتبة التي يجتازها الإنسان، فيتجاوز مرتبة الحيوان الذي لا يدرك إلا ما تدركه حواسه، إلى مرتبة الإنسان الذي يدرك أن الوجود أكبر وأشمل من ذلك الحيز الصغير المحدد الذي تدركه الحواس- أو الأجهزة التي هي امتداد للحواس- وهي نقلة بعيدة الأثر في تصور الإنسان لحقيقة الوجود كله ولحقيقة وجوده الذاتي، ولحقيقة القوى المنطلقة في كيان هذا الوجود، وفي إحساسه بالكون وما وراء الكون من قدرة وتدبير. كما أنها بعيدة الأثر في حياته على الأرض؛ فليس من يعيش في الحيز الصغير الذي تدركه حواسه كمن يعيش في الكون الكبير الذي تدركه بديهته وبصيرته؛ ويتلقى أصداءه وإيحاءاته في أطوائه وأعماقه، ويشعر أن مداه أوسع في الزمان والمكان من كل ما يدركه وعيه في عمره القصير المحدود، وأن وراء الكون ظاهره وخافيه، حقيقة أكبر من الكون، هي التي صدر عنها، واستمد من وجودها وجوده.. حقيقة الذات الإلهية التي لا تدركها الأبصار ولا تحيط بها العقول.
وعندئذ تصان الطاقة الفكرية المحدودة المجال عن التبدد والتمزق والانشغال بما لم تخلق له، وما لم توهب القدرة للإحاطة به، وما لا يجدي شيئا أن تنفق فيه. إن الطاقة الفكرية التي وهبها الإنسان، وهبها ليقوم بالخلافة في هذه الأرض، فهي موكلة بهذه الحياة الواقعة القريبة، تنظر فيها، وتتعمقها وتتقصاها، وتعمل وتنتج، وتنمي هذه الحياة وتجملها، على أن يكون لها سند من تلك الطاقة الروحية التي تتصل مباشرة بالوجود كله وخالق الوجود، وعلى أن تدع للمجهول حصته في الغيب الذي لا تحيط به العقول. فأما محاولة إدراك ما وراء الواقع بالعقل المحدود الطاقة بحدود هذه الأرض والحياة عليها، دون سند من الروح الملهم والبصيرة المفتوحة، وترك حصة للغيب لا ترتادها العقول.
فأما هذه المحاولة فهي محاولة فاشلة أولا، ومحاولة عابثة أخيرا. فاشلة لأنها تستخدم أداة لم تخلق لرصد هذا المجال. وعابثة لأنها تبدد طاقة العقل التي لم تخلق لمثل هذا المجال.. ومتى سلم العقل البشري بالبديهية العقلية الأولى، وهي أن المحدود لا يدرك المطلق، لزمه- احتراما لمنطقه ذاته- أن يسلم بأن إدراكه للمطلق مستحيل؛ وأن عدم إدراكه للمجهول لا ينفي وجوده في ضمير الغيب المكنون؛ وأن عليه أن يكل الغيب إلى طاقة أخرى غير طاقة العقل؛ وأن يتلقى العلم في شأنه من العليم الخبير الذي يحيط بالظاهر والباطن، والغيب والشهادة.. وهذا الاحترام لمنطق العقل في هذا الشأن هو الذي يتحلى به المؤمنون، وهو الصفة الأولى من صفات المتقين.
لقد كان الإيمان بالغيب هو مفرق الطريق في ارتقاء الإنسان عن عالم البهيمة. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان، كجماعة الماديين في كل زمان، يريدون أن يعودوا بالإنسان القهقرى.. إلى عالم البهيمة الذي لا وجود فيه لغير المحسوس! ويسمون هذا تقدمية وهو النكسة التي وقى الله المؤمنين إياها، فجعل صفتهم المميزة، صفة: {الذين يؤمنون بالغيب} والحمد لله على نعمائه، والنكسة للمنتكسين والمرتكسين!
{ويقيمون الصلاة}. فيتجهون بالعبادة لله وحده، ويرتفعون بهذا عن عبادة العباد، وعبادة الأشياء. يتجهون إلى القوة المطلقة بغير حدود ويحنون جباههم لله لا للعبيد؛ والقلب الذي يسجد لله حقًا، ويتصل به على مدار الليل والنهار، يستشعر أنه موصول السبب بواجب الوجود، ويجد لحياته غاية أعلى من أن تستغرق في الأرض وحاجات الأرض، ويحس أنه أقوى من المخاليق لأنه موصول بخالق المخاليق.. وهذا كله مصدر قوة للضمير، كما أنه مصدر تحرج وتقوى، وعامل هام من عوامل تربية الشخصية، وجعلها ربانية التصور، ربانية الشعور، ربانية السلوك.
{ومما رزقناهم ينفقون}. فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم، لا من خلق أنفسهم؛ ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف الخلق، والتضامن بين عيال الخالق، والشعور بالآصرة الإنسانية، وبالأخوة البشرية.. وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح، وتزكيتها بالبر. وقيمتها أنها ترد الحياة مجال تعاون لا معترك تطاحن، وأنها تؤمن العاجز والضعيف والقاصر، وتشعرهم أنهم يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس، لا بين أظفار ومخالب ونيوب!
والإنفاق يشمل الزكاة والصدقة، وسائر ما ينفق في وجوه البر. وقد شرع الإنفاق قبل أن تشرع الزكاة، لأنه الأصل الشامل الذي تخصصه نصوص الزكاة ولا تستوعبه. وقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناده لفاطمة بنت قيس «إن في المال حقًا سوى الزكاة». وتقرير المبدأ على شموله هو المقصود في هذا النص السابق على فريضة الزكاة.
{والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك}. وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة، وارثة العقائد السماوية، ووارثة النبوات منذ فجر البشرية، والحفيظة على تراث العقيدة وتراث النبوة، وحادية موكب الإيمان في الأرض إلى آخر الزمان. وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشرية، ووحدة دينها، ووحدة رسلها، ووحدة معبودها.. قيمتها هي تنقية الروح من التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح.. قيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية الله للبشرية على تطاول أجيالها وأحقابها. هذه الرعاية البادية في توالي الرسل والرسالات بدين واحد وهدى واحد. قيمتها هي الاعتزاز بالهدى الذي تتقلب الأيام والأزمان، وهو ثابت مطرد، كالنجم الهادي في دياجير الظلام.
{وبالآخرة هم يوقنون}. وهذه خاتمة السمات. الخاتمة التي تربط الدنيا بالآخرة، والمبدأ بالمصير، والعمل بالجزاء؛ والتي تشعر الإنسان أنه ليس لقى مهملًا، وأنه لم يخلق عبثًا، ولن يترك سدى؛ وأن العدالة المطلقة في انتظاره، ليطمئن قلبه، وتستقر بلابله، ويفيء إلى العمل الصالح، وإلى عدل الله ورحمته في نهاية المطاف.
واليقين بالآخرة هو مفرق الطريق بين من يعيش بين جدران الحس المغلقة، ومن يعيش في الوجود المديد الرحيب. بين من يشعر أن حياته على الأرض هي كل ما له في هذا الوجود، ومن يشعر أن حياته على الأرض ابتلاء يمهد للجزاء، وأن الحياة الحقيقية إنما هي هنالك، وراء هذا الحيز الصغير المحدود.
وكل صفة من هذه الصفات- كما رأينا- ذات قيمة في الحياة الإنسانية، ومن ثم كانت هي صفات المتقين. وهناك تساوق وتناسق بين هذه الصفات جميعًا، هو الذي يؤلف منها وحدة متناسقة متكاملة. فالتقوى شعور في الضمير، وحالة في الوجدان، تنبثق منها اتجاهات وأعمال؛ وتتوحد بها المشاعر الباطنة والتصرفات الظاهرة؛ وتصل الإنسان بالله في سره وجهره. وتشف معها الروح فتقل الحجب بينها وبين الكليّ الذي يشمل عالمي الغيب والشهادة، ويلتقي فيه المعلوم والمجهول. ومتى شفت الروح وانزاحت الحجب بين الظاهر والباطن، فإن الإيمان بالغيب عندئذ يكون هو الثمرة الطبيعية لإزالة الحجب الساترة، واتصال الروح بالغيب والاطمئنان إليه. ومع التقوى والإيمان بالغيب عبادة الله في الصورة التي اختارها، وجعلها صلة بين العبد والرب. ثم السخاء بجزء من الرزق اعترافًا بجميل العطاء، وشعورًا بالإخاء. ثم سعة الضمير لموكب الإيمان العريق، والشعور بآصرة القربى لكل مؤمن ولكل نبي ولكل رسالة. ثم اليقين بالآخرة بلا تردد ولا تأرجح في هذا اليقين.. وهذه كانت صورة الجماعة المسلمة التي قامت في المدينة يوم ذاك، مؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وكانت هذه الجماعة بهذه الصفات شيئًا عظيما. شيئًا عظيمًا حقًا بتمثل هذه الحقيقة الإيمانية فيها. ومن ثم صنع الله بهذه الجماعة أشياء عظيمة في الأرض، وفي حياة البشر جميعًا.
ومن ثم كان هذا التقرير:
{أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون}.
وكذلك اهتدوا وكذلك أفلحوا. والطريق للهدى والفلاح هو هذا الطريق المرسوم.
فأما الصورة الثانية فهي صورة الكافرين. وهي تمثل مقومات الكفر في كل أرض وفي كل حين:
{إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم}.
وهنا نجد التقابل تامًا بين صورة المتقين وصورة الكافرين.. فإذا كان الكتاب بذاته هدى للمتقين، فإن الإنذار وعدم الإنذار سواء بالقياس إلى الكافرين. إن النوافذ المفتوحة في أرواح المتقين، والوشائج التي تربطهم بالوجود وبخالق الوجود، وبالظاهر والباطن والغيب والحاضر.. إن هذه النوافذ المفتحة كلها هناك، مغلقة كلها هنا. وإن الوشائج الموصولة كلها هناك، مقطوعة كلها هنا:
{ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} ختم عليها فلا تصل إليها حقيقة من الهدى ولا صدى.
{وعلى أبصارهم غشاوة}. فلا نور يوصوص لها ولا هدى.! وقد طبع الله على قلوبهم وعلى سمعهم وغشي على أبصارهم جزاء وفاقًا على استهتارهم بالإنذار، حتى تساوى لديهم الإنذار وعدم الإنذار.
إنها صورة صلدة، مظلمة، جامدة، ترتسم من خلال الحركة الثابتة الجازمة. حركة الختم على القلوب والأسماع، والتغشية على العيون والأبصار.
{ولهم عذاب عظيم}. وهي النهاية الطبيعية للكفر العنيد، الذي لا يستجيب للنذير؛ والذي يستوي عنده الإنذار وعدم الإنذار؛ كما علم الله من طبعهم المطموس العنيد.
ثم ننتقل- مع السياق- إلى الصورة الثالثة. أو إلى النموذج الثالث:
إنها ليست في شفافية الصورة الأولى وسماحتها. وليست في عتامة الصورة الثانية وصفاقتها. ولكنها تتلوى في الحس. وتروغ من البصر، وتخفى وتبين.. إنها صورة المنافقين:
{ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين}.
لقد كانت هذه صورة واقعة في المدينة؛ ولكننا حين نتجاوز نطاق الزمان والمكان نجدها نموذجًا مكرورًا في أجيال البشرية جميعًا. نجد هذا النوع من المنافقين من علية الناس الذين لا يجدون في أنفسهم الشجاعة ليواجهوا الحق بالإيمان الصريح، أو يجدون في نفوسهم الجرأة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح.
وهم في الوقت ذاته يتخذون لأنفسهم مكان المترفع على جماهير الناس، وعلى تصورهم للأمور! ومن ثم نميل إلى مواجهة هذه النصوص كما لو كانت مطلقة من مناسبتها التاريخية، موجهة إلى هذا الفريق من المنافقين في كل جيل. وإلى صميم النفس الإنسانية الثابت في كل جيل.
إنهم يدّعون الإيمان بالله واليوم الآخر. وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين. إنما هم منافقون لا يجرؤون على الإنكار والتصريح بحقيقة شعورهم في مواجهة المؤمنين.
وهم يظنون في أنفسهم الذكاء والدهاء والقدرة على خداع هؤلاء البسطاء؛ ولكن القرآن يصف حقيقة فعلتهم، فهم لا يخادعون المؤمنين، إنما يخادعون الله كذلك أو يحاولون:
{يخادعون الله والذين آمنوا}.
وفي هذا النص وأمثاله نقف أمام حقيقة كبيرة، وأمام تفضل من الله كريم.. تلك الحقيقة هي التي يؤكدها القرآن دائمًا ويقررها، وهي حقيقة الصلة بين الله والمؤمنين. إنه يجعل صفهم صفه، وأمرهم أمره. وشأنهم شأنه. يضمهم سبحانه إليه، ويأخذهم في كنفه، ويجعل عدوهم عدوه، وما يوجه إليهم من مكر موجهًا إليه- سبحانه- وهذا هو التفضل العلوي الكريم.. التفضل الذي يرفع مقام المؤمنين وحقيقتهم إلى هذا المستوى السامق؛ والذي يوحي بأن حقيقة الإيمان في هذا الوجود هي أكبر وأكرم الحقائق، والذي يسكب في قلب المؤمن طمأنينة لا حد لها، وهو يرى الله- جل شأنه- يجعل قضيته هي قضيته، ومعركته هي معركته، وعدوه هو عدوه، ويأخذه في صفه، ويرفعه إلى جواره الكريم.. فماذا يكون العبيد وكيدهم وخداعهم وأذاهم الصغير؟!
وهو في ذات الوقت تهديد رعيب للذين يحاولون خداع المؤمنين والمكر بهم، وإيصال الأذى إليهم. تهديد لهم بأن معركتهم ليست مع المؤمنين وحدهم إنما هي مع الله القوي الجبار القهار. وأنهم إنما يحاربون الله حين يحاربون أولياءه، وإنما يتصدون لنقمة الله حين يحاولون هذه المحاولة اللئيمة.
وهذه الحقيقة من جانبيها جديرة بأن يتدبرها المؤمنون ليطمئنوا ويثبتوا ويمضوا في طريقهم لا يبالون كيد الكائدين، ولا خداع الخادعين، ولا أذى الشريرين. ويتدبرها أعداء المؤمنين فيفزعوا ويرتاعوا ويعرفوا من الذي يحاربونه ويتصدون لنقمته حين يتصدون للمؤمنين.
ونعود إلى هؤلاء الذين يخادعون الله والذين آمنوا بقولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر. ظانين في أنفسهم الذكاء والدهاء.. ولكن يا للسخرية! يا للسخرية التي تنصب عليهم قبل أن تكتمل الآية:
{وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون}.
إنهم من الغفلة بحيث لا يخدعون إلا أنفسهم في غير شعور! إن الله بخداعهم عليم؛ والمؤمنون في كنف الله فهو حافظهم من هذا الخداع اللئيم. أما أولئك الأغفال فهم يخدعون أنفسهم ويغشونها. يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بهذا النفاق، ووقوها مغبة المصارحة بالكفر بين المؤمنين. وهم في الوقت ذاته يوردونها موارد التهلكة بالكفر الذي يضمرونه، والنفاق الذي يظهرونه.
وينتهون بها إلى شر مصير!
ولكن لماذا يحاول المنافقون هذه المحاولة؟ ولماذا يخادعون هذا الخداع؟
{في قلوبهم مرض}.
في طبيعتهم آفة. في قلوبهم علة. وهذا ما يحيد بهم عن الطريق الواضح المستقيم. ويجعلهم يستحقون من الله أن يزيدهم مما هم فيه:
{فزادهم الله مرضًا}.
فالمرض ينشئ المرض، والانحراف يبدأ يسيرًا، ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد. سنة لا تتخلف. سنة الله في الأشياء والأوضاع، وفي المشاعر والسلوك. فهم صائرون إذن إلى مصير معلوم. المصير الذي يستحقه من يخادعون الله والمؤمنين:
{ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}.
وصفة أخرى من صفاتهم- وبخاصة الكبراء منهم الذين كان لهم في أول العهد بالهجرة مقام في قومهم ورياسة وسلطان كعبد الله بن أبي بن سلول- صفة العناد وتبرير ما يأتون من الفساد، والتبجح حين يأمنون أن يؤخذوا بما يفعلون:
{وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}.
إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، بل يضيفون اليهما السفه والادعاء: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض}. لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد، بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير: {قالوا إنما نحن مصلحون}.
والذين يفسدون أشنع الفساد، ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدا في كل زمان. يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم. ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم. والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم، لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية.
ومن ثم يجيء التعقيب الحاسم والتقرير الصادق:
{ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}.
ومن صفتهم كذلك التطاول والتعالي على عامة الناس، ليكسبوا لأنفسهم مقاما زائفا في أعين الناس:
{وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون}.
وواضح أن الدعوة التي كانت موجهة إليهم في المدينة هي أن يؤمنوا الإيمان الخالص المستقيم المتجرد من الأهواء. إيمان المخلصين الذين دخلوا في السلم كافة، وأسلموا وجوههم لله، وفتحوا صدورهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوجههم فيستجيبون بكليتهم مخلصين متجردين.. هؤلاء هم الناس الذين كان المنافقون يدعون ليؤمنوا مثلهم هذا الإيمان الخالص الواضح المستقيم.
وواضح أنهم كانوا يأنفون من هذا الاستسلام للرسول صلى الله عليه وسلم ويرونه خاصًا بفقراء الناس غير لائق بالعلية ذوي المقام! ومن ثم قالوا قولتهم هذه: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ ومن ثم جاءهم الرد الحاسم، والتقرير الجازم:
{ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون}.
ومتى علم السفيه أنه سفيه؟ ومتى استشعر المنحرف أنه بعيد عن المسلك القويم؟!
ثم تجيء السمة الأخيرة التي تكشف عن مدى الارتباط بين المنافقين في المدينة واليهود الحانقين.
إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، والسفه والادعاء، إنما يضيفون إليها الضعف واللؤم والتآمر في الظلام:
{وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون}.
وبعض الناس يحسب اللؤم قوة، والمكر السيئ براعة. وهو في حقيقته ضعف وخسة. فالقوي ليس لئيمًا ولا خبيثًا، ولا خادعًا ولا متآمرًا ولا غمازًا في الخفاء لمازًا. وهؤلاء المنافقون الذين كانوا يجبنون عن المواجهة، ويتظاهرون بالإيمان عند لقاء المؤمنين، ليتقوا الأذى، وليتخذوا هذا الستار وسيلة للأذى.. هؤلاء كانوا إذا خلوا إلى شياطينهم- وهم غالبًا- اليهود الذين كانوا يجدون في هؤلاء المنافقين أداة لتمزيق الصف الإسلامي وتفتيته، كما أن هؤلاء كانوا يجدون في اليهود سندًا وملإذا.. هؤلاء المنافقون كانوا {إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون}- أي بالمؤمنين- بما نظهره من الإيمان والتصديق!
وما يكاد القرآن يحكي فعلتهم هذه وقولتهم، حتى يصب عليهم من التهديد ما يهد الرواسي:
{الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}.
وما أبأس من يستهزئ به جبار السماوات والأرض وما أشقاه!! وإن الخيال ليمتد إلى مشهد مفزع رعيب. وإلى مصير تقشعر من هوله القلوب.
وهو يقرأ: {الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}. فيدعهم يخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته، واليد الجبارة تتلقفهم في نهايته، كالفئران الهزيلة تتواثب في الفخ، غافلة عن المقبض المكين.. وهذا هو الاستهزاء الرعيب، لا كاستهزائهم الهزيل الصغير.
وهنا كذلك تبدو تلك الحقيقة التي أشرنا من قبل إليها. حقيقة تولي الله- سبحانه- للمعركة التي يراد بها المؤمنون. وما وراء هذا التولي من طمأنينة كاملة لأولياء الله، ومصير رعيب بشع لأعداء الله الغافلين، المتروكين في عماهم يخبطون، المخدوعين بمد الله لهم في طغيانهم، وإمهالهم بعض الوقت في عدوانهم، والمصير الرعيب ينتظرهم هنالك، وهم غافلون يعمهون!
والكلمة الأخيرة التي تصور حقيقة حالهم، ومدى خسرانهم:
{أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين}. فلقد كانوا يملكون الهدى لو أرادوا. كان الهدى مبذولًا لهم. وكان في أيديهم. ولكنهم {اشتروا الضلالة بالهدى} كأغفل ما يكون المتجرون:
{فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين}.
ولعلنا نلمح أن الحيز الذي استغرقه رسم هذه الصورة الثالثة قد جاء أفسح من الحيز الذي استغرقه رسم الصورة الأولى والصورة الثانية.
ذلك أن كلًا من الصورتين الأوليين فيه استقامة على نحو من الأنحاء، وفيه بساطة على معنى من المعاني.. الصورة الأولى صورة النفس الصافية المستقيمة في اتجاهها، والصورة الثانية صورة النفس المعتمة السادرة في اتجاهها. أما الصورة الثالثة فهي صورة النفس الملتوية المريضة المعقدة المقلقلة.
وهي في حاجة إلى مزيد من اللمسات، ومزيد من الخطوط كيما تتحدد وتعرف بسماتها الكثيرة.
على أن هذه الإطالة توحي كذلك بضخامة الدور الذي كان يقوم به المنافقون في المدينة لإيذاء الجماعة المسلمة، ومدى التعب والقلق والاضطراب الذي كانوا يحدثونه؛ كما توحي بضخامة الدور الذي يمكن أن يقوم به المنافقون في كل وقت داخل الصف المسلم، ومدى الحاجة للكشف عن ألاعيبهم ودسهم اللئيم.
وزيادة في الإيضاح، يمضي السياق يضرب الأمثال لهذه الطائفة، ويكشف عن طبيعتها، وتقلباتها وتأرجحها ليزيد هذه الطبيعة جلاء وإيضاحًا:
{مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون}.
إنهم لم يعرضوا عن الهدى ابتداء، ولم يصموا آذانهم عن السماع، وعيونهم عن الرؤية وقلوبهم عن الإدراك، كما صنع الذين كفروا. ولكنهم استحبوا العمى على الهدى بعد ما استوضحوا الأمر وتبينوه.. لقد استوقدوا النار، فلما أضاء لهم نورها لم ينتفعوا بها وهم طالبوها. عندئذ {ذهب الله بنورهم} الذي طلبوه ثم تركوه: {وتركهم في ظلمات لا يبصرون} جزاء إعراضهم عن النور!
وإذا كانت الآذان والألسنة والعيون، لتلقي الأصداء والأضواء، والانتفاع بالهدى والنور، فهم قد عطلوا آذانهم فهم {صم} وعطلوا ألسنتهم فهم {بكم} وعطلوا عيونهم فهم {عمي}. فلا رجعة لهم إلى الحق، ولا أوبة لهم إلى الهدى. ولا هداية لهم إلى النور!
ومثل آخر يصور حالهم ويرسم ما في نفوسهم من اضطراب وحيرة وقلق ومخافة:
{أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير}.
إنه مشهد عجيب، حافل بالحركة، مشوب بالاضطراب. فيه تيه وضلال، وفيه هول ورعب، وفيه فزع وحيرة، وفيه أضواء وأصداء، صيب من السماء هاطل غزير {فيه ظلمات ورعد وبرق}.
{كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا}. أي وقفوا حائرين لا يدرون أين يذهبون. وهم مفزعون: {يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت}.
إن الحركة التي تغمر المشهد كله: من الصيب الهاطل، إلى الظلمات والرعد والبرق، إلى الحائرين المفزعين فيه، إلى الخطوات المروعة الوجلة، التي تقف عندما يخيم الظلام.. إن هذه الحركة في المشهد لترسم- عن طريق التأثر الإيحائي- حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون.. بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم للشياطين. بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة. بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام.. فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية؛ ويجسم صورة شعورية.
وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس.
وعندما يتم استعراض الصور الثلاث يرتد السياق في السورة نداء للناس كافة، وأمرا للبشرية جمعاء، أن تختار الصورة الكريمة المستقيمة. الصورة النقية الخالصة. الصورة العاملة النافعة. الصورة المهتدية المفلحة.. صورة المتقين:
{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون}.
إنه النداء إلى الناس كلهم لعبادة ربهم الذي خلقهم والذين من قبلهم. ربهم الذي تفرد بالخلق، فوجب أن يتفرد بالعبادة.. وللعبادة هدف لعلهم ينتهون إليه ويحققوه:
{لعلكم تتقون}. لعلكم تصيرون إلى تلك الصورة المختارة من صور البشرية. صورة العابدين لله. المتقين لله. الذين أدوا حق الربوبية الخالقة، فعبدوا الخالق وحده؛ رب الحاضرين والغابرين، وخالق الناس أجمعين، ورازقهم كذلك من الأرض والسماء بلا ند ولا شريك:
{الذي جعل لكم الأرض فراشا}.
وهو تعبير يشي باليسر في حياة البشر على هذه الأرض، وفي إعدادها لهم لتكون لهم سكنًا مريحًا وملجأ واقيًا كالفراش.. والناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله لهم لطول ما ألفوه. ينسون هذا التوافق الذي جعله الله في الأرض ليمهد لهم وسائل العيش، وما سخره لهم فيها من وسائل الراحة والمتاع. ولولا هذا التوافق ما قامت حياتهم على هذا الكوكب في مثل هذا اليسر والطمأنينة. ولو فقد عنصر واحد من عناصر الحياة في هذا الكوكب ما قام هؤلاء الأناسي في غير البيئة التي تكفل لهم الحياة. ولو نقص عنصر واحد من عناصر الهواء عن قدره المرسوم لشق على الناس أن يلتقطوا أنفاسهم حتى لو قدرت لهم الحياة!
{والسماء بناء}.
فيها متانة البناء وتنسيق البناء. والسماء ذات علاقة وثيقة بحياة الناس في الأرض، وبسهولة هذه الحياة. وهي بحرارتها وضوئها وجاذبية أجرامها وتناسقها وسائر النسب بين الأرض وبينها، تمهد لقيام الحياة على الأرض وتعين عليها. فلا عجب أن تذكر في معرض تذكير الناس بقدرة الخالق، وفضل الرازق، واستحقاق المعبود للعبادة من العبيد المخاليق.
{وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم}.
وذكر إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به، ما يفتأ يتردد في مواضع شتى من القرآن في معرض التذكير بقدرة الله، والتذكير بنعمته كذلك.. والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعًا. فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها {وجعلنا من الماء كل شيء حي}. سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط بالأرض، أو كون الأنهار والبحيرات العذبة، أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه الجوفية، التي تتفجر عيونًا أو تحفر آبارًا، أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى.
وقصة الماء في الأرض، ودوره في حياة الناس، وتوقف الحياة عليه في كل صورها وأشكالها.. كل هذا أمر لا يقبل المماحكة، فتكفي الإشارة إليه، والتذكير به، في معرض الدعوة إلى عبادة الخالق الرازق الوهاب.
وفي ذلك النداء تبرز كليتان من كليات التصور الإسلامي: وحدة الخالق لكل الخلائق: {الذي خلقكم والذين من قبلكم}. ووحدة الكون وتناسق وحداته وصداقته للحياة وللإنسان: {الذي جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقًا لكم}. فهذا الكون أرضه مفروشة لهذا الإنسان، وسماؤه مبنية بنظام، معينة بالماء الذي تخرج به الثمرات رزقا للناس.. والفضل في هذا كله للخالق الواحد:
{فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون}.
تعلمون أنه خلقكم والذين من قبلكم. وتعلمون أنه جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء. وأنه لم يكن له شريك يساعد، ولا ند يعارض. فالشرك به بعد هذا العلم تصرف لا يليق!
والأنداد التي يشدد القرآن في النهي عنها لتخلص عقيدة التوحيد نقية واضحة، قد لا تكون آلهة تعبد مع الله على النحو الساذج الذي كان يزاوله المشركون. فقد تكون الأنداد في صور أخرى خفية. قد تكون في تعليق الرجاء بغير الله في أي صورة، وفي الخوف من غير الله في أي صورة. وفي الاعتقاد بنفع أو ضر في غير الله في أي صورة.. عن ابن عباس قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل. وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي. ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت! وقول الرجل: لولا الله وفلان.. هذا كله به شرك... وفي الحديث: أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت. قال: «أجعلتني لله ندًا؟!».
هكذا كان سلف هذه الأمة ينظر إلى الشرك الخفي والأنداد مع الله.. فلننظر نحن أين نحن من هذه الحساسية المرهفة، وأين نحن من حقيقة التوحيد الكبيرة!!!
ولقد كان اليهود يشككون في صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وكان المنافقون يرتابون فيها- كما ارتاب المشركون وشككوا في مكة وغيرها- فهنا يتحدى القرآن الجميع. إذ كان الخطاب إلى الناس جميعًا. يتحداهم بتجربة واقعية تفصل في الأمر بلا مماحكة:
{وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين}.
ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال.. يصف الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبودية لله: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا}.
ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة: فهو أولًا تشريف للنبي وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى؛ دلالة على أن مقام العبودية لله هو أسمى مقام يدعى إليه بشر ويدعى به كذلك. وهو ثانيًا تقرير لمعنى العبودية، في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده، واطراح الأنداد كلها من دونه. فها هو ذا النبي في مقام الوحي- وهو أعلى مقام- يدعى بالعبودية لله، ويشرف بهذه النسبة في هذا المقام.
أما التحدي فمنظور فيه إلى مطلع السورة.. فهذا الكتاب المنزل مصوغ من تلك الحروف التي في أيديهم، فإن كانوا يرتابون في تنزيله، فدونهم فليأتوا بسورة من مثله؛ وليدعوا من يشهد لهم بهذا- من دون الله- فالله قد شهد لعبده بالصدق في دعواه.
وهذا التحدي ظل قائما في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعدها، وما يزال قائمًا إلى يومنا هذا وهو حجة لا سبيل إلى المماحكة فيها.. وما يزال القرآن يتميز من كل كلام يقوله البشر تميزًا واضحًا قاطعًا. وسيظل كذلك أبدًا. سيظل كذلك تصديقا لقول الله تعالى في الآية التالية:
{فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين}.
والتحدي هنا عجيب، والجزم بعدم إمكانه أعجب، ولو كان في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة. وما من شك أن تقرير القرآن الكريم أنهم لن يفعلوا، وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل إلى المماراة فيها. ولقد كان المجال أمامهم مفتوحًا، فلو أنهم جاءوا بما ينقض هذا التقرير القاطع لانهارت حجية القرآن ولكن هذا لم يقع ولن يقع كذلك فالخطاب للناس جميعًا، ولو أنه كان في مواجهة جيل من أجيال الناس.. وهذه وحدها كلمة الفصل التاريخية.
على أن كل من له دراية بتذوق أساليب الأداء؛ وكل من له خبرة بتصورات البشر للوجود وللأشياء؛ وكل من له خبرة بالنظم والمناهج والنظريات النفسية أو الاجتماعية التي ينشئها البشر.. لا يخالجه شك في أن ما جاء به القرآن في هذه المجالات كلها شيء آخر ليس من مادة ما يصنعه البشر. والمراء في هذا لا ينشأ إلا عن جهالة لا تميز، أو غرض يلبس الحق بالباطل.
ومن ثم كان هذا التهديد المخيف لمن يعجزون عن هذا التحدي ثم لا يؤمنون بالحق الواضح:
{فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين}.
ففيم هذا الجمع بين الناس والحجارة، في هذه الصورة المفزعة الرعيبة؟ لقد أعدت هذه النار للكافرين. الكافرين الذين سبق في أول السورة وصفهم بأنهم {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة}. والذين يتحداهم القرآن هنا فيعجزون، ثم لا يستجيبون.. فهم إذن حجارة من الحجارة! وإن تبدوا في صورة آدمية من الوجهة الشكلية! فهذا الجمع بين الحجارة من الحجر والحجارة من الناس هو الأمر المنتظر!
على أن ذكر الحجارة هنا يوحي إلى النفس بسمة أخرى في المشهد المفزع: مشهد النار التي تأكل الأحجار.
ومشهد الناس الذين تزحمهم هذه الأحجار.. في النار.
وفي مقابل ذلك المشهد المفزع يعرض المشهد المقابل. مشهد النعيم الذي ينتظر المؤمنين:
{وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقًا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهًا ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون}.
وهي ألوان من النعيم يستوقف النظر منها- إلى جانب الأزواج المطهرة- تلك الثمار المتشابهة، التي يخيل إليهم أنهم رزقوها من قبل- أما ثمار الدنيا التي تشبهها بالاسم أو الشكل، وأما ثمار الجنة التي رزقوها من قبل- فربما كان في هذا التشابه الظاهري والتنوع الداخلي مزية المفاجأة في كل مرة.. وهي ترسم جوًا من الدعابة الحلوة، والرضى السابغ، والتفكه الجميل، بتقديم المفاجأة بعد المفاجأة، وفي كل مرة ينكشف التشابه الظاهري عن شيء جديد!
وهذا التشابه في الشكل، والتنوع في المزية، سمة واضحة في صنعة البارئ تعالى، تجعل الوجود أكبر في حقيقته من مظهره. ولنأخذ الإنسان وحده نموذجا كاشفًا لهذه الحقيقة الكبيرة.. الناس كلهم ناس، من ناحية قاعدة التكوين: رأس وجسم وأطراف. لحم ودم وعظام وأعصاب. عينان وأذنان وفم ولسان. خلايا حية من نوع الخلايا الحية. تركيب متشابه في الشكل والمادة.. ولكن أين غاية المدى في السمات والشيات؟ ثم أين غاية المدى في الطباع والاستعدادات؟ إن فارق ما بين إنسان وإنسان- على هذا التشابه- ليبلغ أحيانًا أبعد مما بين الأرض والسماء!
وهكذا يبدو التنوع في صنعة البارئ هائلا يدير الرؤوس: التنوع في الأنواع والأجناس، والتنوع في الأشكال والسمات، والتنوع في المزايا والصفات.. وكله.. كله مرده إلى الخلية الواحدة المتشابهة التكوين والتركيب.
فمن ذا الذي لا يعبد الله وحده، وهذه آثار صنعته، وآيات قدرته؟ ومن ذا الذي يجعل لله اندادًا، ويد الإعجاز واضحة الآثار، فيما تراه الأبصار، وفيما لا تدركه الأبصار؟
بعد ذلك يجيء الحديث عن الأمثال التي يضربها الله في القرآن:
{إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلًا يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}.
وهذه الآيات تشي بأن المنافقين الذين ضرب الله لهم مثل الذي استوقد نارًا ومثل الصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق- وربما كان اليهود كذلك والمشركون- قد اتخذوا من ورود هذه الأمثال في هذه المناسبة، ومن وجود أمثال أخرى في القرآن المكي الذي سبق نزوله وكان يتلى في المدينة، كالذي ضربه الله مثلا للذين كفروا بربهم {كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون}.
وكالذي ضربه الله مثلا لعجز آلهتهم المدعاة عن خلق الذباب: {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب}.
نقول: إن هذه الآيات تشي بأن المنافقين- وربما كان اليهود والمشركون- قد وجدوا في هذه المناسبة منفذًا للتشكيك في صدق الوحي بهذا القرآن، بحجة أن ضرب الأمثال هكذا بما فيها من تصغير لهم وسخرية منهم لا تصدر عن الله، وأن الله لا يذكر هذه الأشياء الصغيرة كالذباب والعنكبوت في كلامه!.. وكان هذا طرفًا من حملة التشكيك والبلبلة التي يقوم بها المنافقون واليهود في المدينة، كما كان يقوم بها المشركون في مكة.
فجاءت هذه الآيات دفعًا لهذا الدس، وبيانا لحكمة الله في ضرب الأمثال، وتحذيرًا لغير المؤمنين من عاقبة الاستدراج بها، وتطمينًا للمؤمنين أن ستزيدهم إيمانًا.
{إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها}.
فالله رب الصغير والكبير، وخالق البعوضة والفيل، والمعجزة في البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل. إنها معجزة الحياة. معجزة السر المغلق الذي لا يعلمه إلا الله.. على أن العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل، إنما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير. وليس في ضرب الأمثال ما يعاب وما من شأنه الاستحياء من ذكره. والله- جلت حكمته- يريد بها اختبار القلوب، وامتحان النفوس:
{فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم}.
ذلك أن إيمانهم بالله يجعلهم يتلقون كل ما يصدر عنه بما يليق بجلاله؛ وبما يعرفون من حكمته. وقد وهبهم الإيمان نورًا في قلوبهم، وحساسية في أرواحهم، وتفتحًا في مداركهم، واتصالًا بالحكمة الإلهية في كل أمر وفي كل قول يجيئهم من عند الله.
{وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلًا}.
وهو سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته، المقطوع الصلة بسنة الله وتدبيره. ثم هو سؤال من لا يرجو لله وقارًا، ولا يتأدب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرفات الرب. يقولونها في جهل وقصور في صيغة الاعتراض والاستنكار، أو في صورة التشكيك في صدور مثل هذا القول عن الله!
هنا يجيئهم الجواب في صورة التهديد والتحذير بما وراء المثل من تقدير وتدبير:
{يضل به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يضل به إلا الفاسقين}.
والله- سبحانه- يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي في طريقها، ويتلقاها عباده، كل وفق طبيعته واستعداده، وكل حسب طريقه ومنهجه الذي اتخذه لنفسه.
والابتلاء واحد.. ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق.. الشدة تسلط على شتى النفوس، فأما المؤمن الواثق بالله وحكمته ورحمته فتزيده الشدة التجاء إلى الله وتضرعًا وخشية. وأما الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعدًا، وتخرجه من الصف إخراجًا. والرخاء يسلط على شتى النفوس، فأما المؤمن التقي فيزيد الرخاء يقظة وحساسية وشكرًا. وأما الفاسق أو المنافق فتبطره النعمة ويتلفه الرخاء ويضله الابتلاء.. وهكذا المثل الذي يضربه الله للناس.
{يضل به كثيرًا}. ممن لا يحسنون استقبال ما يجيئهم من الله، {ويهدي به كثيرًا} ممن يدركون حكمة الله.
{وما يضل به إلا الفاسقين}. الذين فسقت قلوبهم من قبل وخرجت عن الهدى والحق، فجزاؤهم زيادتهم مما هم فيه!
ويفصل السياق صفة الفاسقين هؤلاء، كما فصل في أول السورة صفة المتقين؛ فالمجال ما يزال- في السورة- هو مجال الحديث عن تلك الطوائف، التي تتمثل فيها البشرية في شتى العصور:
{الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون}.
فأي عهد من عهود الله هو الذي ينقضون؟ وأي أمر مما أمر الله به أن يوصل هو الذي يقطعون؟ وأي لون من الفساد في الأرض هو الذي يفسدون؟
لقد جاء السياق هنا بهذا الإجمال لأن المجال مجال تشخيص طبيعة، وتصوير نماذج، لا مجال تسجيل حادثة، أو تفصيل واقعة.. إن الصورة هنا هي المطلوبة في عمومها. فكل عهد بين الله وبين هذا النموذج من الخلق فهو منقوض؛ وكل ما أمر الله به أن يوصل فهو بينهم مقطوع؛ وكل فساد في الأرض فهو منهم مصنوع.. إن صلة هذا النمط من البشر بالله مقطوعة، وإن فطرتهم المنحرفة لا تستقيم على عهد ولا تستمسك بعروة ولا تتورع عن فساد. إنهم كالثمرة الفجة التي انفصلت من شجرة الحياة، فتعفنت وفسدت ونبذتها الحياة.. ومن ثم يكون ضلالهم بالمثل الذي يهدي المؤمنين؛ وتجيء غوايتهم بالسبب الذي يهتدي به المتقون.
وننظر في الآثار الهدامة لهذا النمط من البشر الذي كانت الدعوة تواجهه في المدينة في صورة اليهود والمنافقين والمشركين؛ والذي ظلت تواجهه وما تزال تواجهه اليوم في الأرض مع اختلاف سطحي في الأسماء والعنوانات!
{الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}.
وعهد الله المعقود مع البشر يتمثل في عهود كثيرة: إنه عهد الفطرة المركوز في طبيعة كل حي.. أن يعرف خالقه، وأن يتجه إليه بالعبادة. وما تزال في الفطرة هذه الجوعة للاعتقاد بالله، ولكنها تضل وتنحرف فتتخذ من دون الله أندادًا وشركاء.. وهو عهد الاستخلاف في الأرض الذي أخذه الله على آدم- كما سيجيء-: {فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. وهو عهوده الكثيرة في الرسالات لكل قوم أن يعبدوا الله وحده، وأن يحكموا في حياتهم منهجه وشريعته.. وهذه العهود كلها هي التي ينقضها الفاسقون. وإذا نقض عهد الله من بعد ميثاقه، فكل عهد دون الله منقوض. فالذي يجرؤ على عهد الله لا يحترم بعده عهدًا من العهود.
{ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل}.
والله أمر بصلات كثيرة.. أمر بصلة الرحم والقربى. وأمر بصلة الإنسانية الكبرى. وأمر قبل هذا كله بصلة العقيدة والأخوة الإيمانية، التي لا تقوم صلة ولا وشيجة إلا معها.. وإذا قطع ما أمر الله به أن يوصل فقد تفككت العرى، وانحلت الروابط، ووقع الفساد في الأرض، وعمت الفوضي.
{ويفسدون في الأرض}.
والفساد في الأرض ألوان شتى، تنبع كلها من الفسوق عن كلمة الله، ونقض عهد الله، وقطع ما أمر الله به أن يوصل. ورأس الفساد في الأرض هو الحيدة عن منهجه الذي اختاره ليحكم حياة البشر ويصرفها. هذا مفرق الطريق الذي ينتهي إلى الفساد حتمًا، فما يمكن أن يصلح أمر هذه الأرض، ومنهج الله بعيد عن تصريفها، وشريعة الله مقصاة عن حياتها. وإذا انقطعت العروة بين الناس وربهم على هذا النحو فهو الفساد الشامل للنفوس والأحوال، وللحياة والمعاش؛ وللأرض كلها وما عليها من ناس وأشياء.
إنه الهدم والشر والفساد حصيلة الفسوق عن طريق الله.. ومن ثم يستحق أهله أن يضلهم الله بما يهدي به عباده المؤمنين.
وعند هذا البيان الكاشف لآثار الكفر والفسوق في الأرض كلها يتوجه إلى الناس باستنكار كفرهم بالله المحيي المميت الخالق الرازق المدبر العليم:
{كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم}.
والكفر بالله في مواجهة هذه الدلائل والآلاء كفر قبيح بشع، مجرد من كل حجة أو سند.. والقرآن يواجه البشر بما لابد لهم من مواجهته، والاعتراف به، والتسليم بمقتضياته. يواجههم بموكب حياتهم وأطوار وجودهم. لقد كانوا أمواتًا فأحياهم. كانوا في حالة موت فنقلهم منها إلى حالة حياة ولا مفر من مواجهة هذه الحقيقة التي لا تفسير لها إلا بالقدرة الخالقة. إنهم أحياء، فيهم حياة. فمن الذي أنشأ لهم هذه الحياة؟ من الذي أوجد هذه الظاهرة الجديدة الزائدة على ما في الأرض من جماد ميت؟ إن طبيعة الحياة شيء آخر غير طبيعة الموت المحيط بها في الجمادات. فمن أين جاءت؟ إنه لا جدوى من الهروب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على العقل والنفس؛ ولا سبيل كذلك لتعليل مجيئها بغير قدرة خالقة ذات طبيعة أخرى غير طبيعة المخلوقات.
من أين جاءت هذه الحياة التي تسلك في الأرض سلوكا آخر متميزًا عن كل ما عداها من الموات؟ لقد جاءت من عند الله.. هذا هو أقرب جواب.. وإلا فليقل من لا يريد التسليم: أين هو الجواب!
وهذه الحقيقة هي التي يواجه بها السياق الناس في هذا المقام: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم}.
كنتم أمواتًا من هذا الموات الشائع من حولكم في الأرض؛ فأنشأ فيكم الحياة {فأحياكم}. فكيف يكفر بالله من تلقى منه الحياة؟
{ثم يميتكم}.
ولعل هذه لا تلقى مراء ولا جدلًا، فهي الحقيقة التي تواجه الأحياء في كل لحظة، وتفرض نفسها عليهم فرضًا، ولا تقبل المراء فيها ولا الجدال.
{ثم يحييكم}.
وهذه كانوا يمارون فيها ويجادلون؛ كما يماري فيها اليوم ويجادل بعض المطموسين، المنتكسين إلى تلك الجاهلية الأولى قبل قرون كثيرة. وهي حين يتدبرون النشأة الأولى، لا تدعو إلى العجب، ولا تدعو إلى التكذيب.
{ثم إليه ترجعون}.
كما بدأكم تعودون، وكما ذرأكم في الأرض تحشرون، وكما انطلقتم بإرادته من عالم الموت إلى عالم الحياة، ترجعون إليه ليمضي فيكم حكمه ويقضي فيكم قضاءه.
وهكذا في آية واحدة قصيرة يُفتح سجل الحياة كلها ويُطوى، وتُعرض في ومضة صورة البشرية في قبضة البارئ: ينشرها من همود الموت أول مرة، ثم يقبضها بيد الموت في الأولى، ثم يحييها كرة أخرى، وإليه مرجعها في الآخرة، كما كانت منه نشأتها في الأولى.. وفي هذا الاستعراض السريع يرتسم ظل القدرة القادرة، ويلقي في الحس إيحاءاته المؤثرة العميقة.
ثم يعقب السياق بومضة أخرى مكملة للومضة الأولى:
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم}.
ويكثر المفسرون والمتكلمون هنا من الكلام عن خلق الأرض والسماء، يتحدثون عن القبلية والبعدية. ويتحدثون عن الاستواء والتسوية.. وينسون أن قبل وبعد اصطلاحان بشريان لا مدلول لهما بالقياس إلى الله تعالى؛ وينسون أن الاستواء والتسوية اصطلاحان لغويان يقربان إلى التصور البشري المحدود صورة غير المحدود.. ولا يزيدان.. وما كان الجدل الكلامي الذي ثار بين علماء المسلمين حول هذه التعبيرات القرآنية، إلا آفة من آفات الفلسفة الإغريقية والمباحث اللاهوتية عند اليهود والنصارى، عند مخالطتها للعقلية العربية الصافية، وللعقلية الإسلامية الناصعة.. وما كان لنا نحن اليوم أن نقع في هذه الآفة، فنفسد جمال العقيدة وجمال القرآن بقضايا علم الكلام!!
فلنخلص إذن إلى ما وراء هذه التعبيرات من حقائق موحية عن خلق ما في الأرض جميعًا للإنسان، ودلالة هذه الحقيقة على غاية الوجود الإنساني، وعلى دوره العظيم في الأرض، وعلى قيمته في ميزان الله، وما وراء هذا كله من تقرير قيمة الإنسان في التصور الإسلامي؛ وفي نظام المجتمع الإسلامي.
{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا}.
إن كلمة {لكم} هنا ذات مدلول عميق وذات إيحاء كذلك عميق. إنها قاطعة في أن الله خلق هذا الإنسان لأمر عظيم. خلقه ليكون مستخلفًا في الأرض، مالكًا لما فيها، فاعلًا مؤثرًا فيها. إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض؛ والسيد الأول في هذا الميراث الواسع. ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول؛ إنه سيد الأرض وسيد الآلة! إنه ليس عبدًا للآلة كما هو في العالم المادي اليوم. وليس تابعًا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم كما يدعي أنصار المادية المطموسون، الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه، فيجعلونه تابعًا للآلة الصماء وهو السيد الكريم! وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان، ولا أن تستذله أو تخضعه أو تستعلي عليه؛ وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان، مهما يحقق من مزايا مادية، هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني. فكرامة الإنسان أولًا، واستعلاء الإنسان أولًا، ثم تجيء القيم المادية تابعة مسخرة.
والنعمة التي يمتن الله بها على الناس هنا- وهو يستنكر كفرهم به- ليست مجرد الإنعام عليهم بما في الأرض جميعًا، ولكنها- إلى ذلك- سيادتهم على ما في الأرض جميعًا، ومنحهم قيمة أعلى من قيم الماديات التي تحويها الأرض جميعًا. هي نعمة الاستخلاف والتكريم فوق نعمة الملك والانتفاع العظيم.
{ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات}.
ولا مجال للخوض في معنى الاستواء إلا بأنه رمز السيطرة، والقصد بإرادة الخلق والتكوين. كذلك لا مجال للخوض في معنى السماوات السبع المقصودة هنا وتحديد أشكالها وأبعادها. اكتفاء بالقصد الكلي من هذا النص، وهو التسوية للكون أرضه وسمائه في معرض استنكار كفر الناس بالخالق المهيمن المسيطر على الكون، الذي سخر لهم الأرض بما فيها، ونسق السماوات بما يجعل الحياة على الأرض ممكنة مريحة.
{وهو بكل شيء عليم}.
بما أنه الخالق لكل شيء، المدبر لكل شيء. وشمول العلم في هذا المقام كشمول التدبير. حافز من حوافز الإيمان بالخالق الواحد، والتوجه بالعبادة للمدبر الواحد، وإفراد الرازق المنعم بالعبادة اعترافًا بالجميل.
وهكذا تنتهي الجولة الأولى في السورة.. وكلها تركيز على الإيمان، والدعوة إلى اختيار موكب المؤمنين المتقين. اهـ.