فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني: إنها الحصون.
والثالث: إنها جميع الأسلحة والآلات التي تكون لكم قوّة في الحرب على قتال عدوّكم وقوله تعالى: {ومن رباط الخيل} مصدر بمعنى حبسها في سبيل الله سواء كانت ذكورًا أو إناثًا، وقال عكرمة: المراد الإناث.
وروي عن خالد بن الوليد أنه قال: لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها، وعن أبي محيريز أنه قال: كانت الصحابة يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف، وإناث الخيل عند البيات والغارات، وقيل: ربط الفحول أولى؛ لأنها أقوى على الكرّ والفرّ، ويدلّ للأوّل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا بالله، وتصديقًا بوعده، فإنّ شبعه وريه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة» يعني حسناته، وعن عروة البارقيّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم»، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال: ما أنزل عليّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة {فمن يعمل مثقال ذرّة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرًّا يره} {ترهبون} أي: تخوفون {به} أي: بتلك القوّة أو بذلك الرباط {عدوّ الله وعدوّكم} أي: الكفار من أهل مكة وغيرهم، وذلك إنّ الكفار إذا علموا أنّ المسلمين متأهبون للجهاد مستعدون له مستكملون لجميع الأسلحة وآلات الحرب وإعداد الخيل مربوطة للجهاد خافوهم، فلا يقصدون دخول دار الإسلام بل يصير ذلك سببًا لدخول الكفار في الإسلام أو بذل الجزية للمسلمين {و} ترهبون {آخرين من دونهم} أي: غيرهم وهم المنافقون لقوله تعالى: {لا تعلمونهم}؛ لأنهم معكم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم {الله يعلمهم} أي: إنهم منافقون.
فإن قيل: المنافقون لا يخافون القتال فكيف يوجب ما ذكر الإرهاب؟
أجيب: بأنّ المنافقين إذا شاهدوا قوّة المسلمين، وكثرة آلاتهم وأسلحتهم كان ذلك مما يخوفهم ويقطع طمعهم من أن يصيروا غالبين، فيحملهم ذلك على أن يتركوا الكفر من قلوبهم، وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان، وقيل: هم اليهود، وقيل: الفرس {وما تنفقوا من شيء} وإن قل {في سبيل الله} أي: طاعته جهادًا كان أو غيره {يُوفّ إليكم} قال ابن عباس: أجره، أي: لا يضيع في الآخرة أجره ويعجل الله عوضه في الدنيا {وأنتم لا تظلمون} أي: لا تنقصون من الثواب، ولما سئل ابن عباس عن هذا التفسير تلا قوله تعالى: {آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا} (الكهف). اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)}
قوله: {إِنَّ شَرَّ الدواب} أي: شرّ ما يدب على وجه الأرض {عَندَ الله} أي: في حكمه {الذين كَفَرُواْ} أي: المصرّون على الكفر المتمادون في الضلال.
ولهذا قال: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: إن هذا شأنهم لا يؤمنون أبدًا، ولا يرجعون عن الغواية أصلًا، وجعلهم شرّ الدوابّ لا شرّ الناس إيماء إلى انسلاخهم عن الإنسانية، ودخولهم في جنس غير الناس من أنواع الحيوان لعدم تعقلهم لما فيه رشادهم.
قوله: {الذين عاهدت مِنْهُمْ} بدل من الذين كفروا أو عطف بيان أو في محل نصب على الذمّ.
والمعنى: أن هؤلاء الكافرين الذين همّ شرّ الدوابّ عند الله هم هؤلاء الذين عاهدت منهم، أي أخذت منهم عهدهم، ثُمَّ هم {يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} الذي عاهدتهم {فِي كُلّ مَرَّةٍ} من مرّات المعاهدة، والحال أنهُمْ {لا يَتَّقُونَ} النقض، ولا يخافون عاقبته ولا يتجنبون أسبابه.
وقيل إن مِنْ في قوله: {مِنْهُمْ} للتبعيض، ومفعول عاهدت محذوف، أي الذين عاهدتهم، وهم بعض أولئك الكفرة: يعني الأشراف منهم، وعطف المستقبل وهو {ثم ينقضون} على الماضي، وهو {عاهدت} للدلالة على استمرار النقض منهم، وهؤلاء هم قريظة، عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوا الكفار فلم يفوا بذلك كما سيأتي، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشدّة والغلظة عليهم، فقال: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ في الحرب فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} أي: فإما تصادفنهم في ثقاف، وتلقاهم في حالة تقدر عليهم فيها، وتتمكن من غلبهم {فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} أي: ففرّق بقتلهم والتنكيل بهم من خلفهم من المحاربين لك من أهل الشرك حتى يهابوا جانبك، ويكفوا عن حربك مخافة أن ينزل بهم ما نزل بهؤلاء.
والثقاف في أصل اللغة: ما يشد به القناة أو نحوها، ومنه قول النابغة:
تدعو قعيبًا وقد غض الحديد بها ** غض الثقاف على ضمّ الأنابيب

يقال ثقفته: وجدته، وفلان ثقف: سريع الوجود لما يحاوله، والتشريد: التفريق مع الاضطراب.
وقال أبو عبيدة {شرد بِهِمُ} سمع بهم.
وقال الزجاج: افعل بهم فعلًا من القتل تفرّق به من خلفهم، يقال شردت بني فلان: قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها.
قال الشاعر:
أطوّف في الأباطح كل يوم ** مخافة أن يشردني حكيم

ومنه شرد البعير: إذا فارق صاحبه، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ {فشرد بِهِم} بالذال المعجمة.
قال قطرب: التشريذ بالذال المعجمة هو التنكيل، وبالمهملة هو التفريق.
وقال المهدوي: الذال المعجمة لا وجه لها إلا أن تكون بدلًا من الدال المهملة لتقاربهما، قال: ولا يعرف فشرّذ في اللغة، وقرئ {مّنْ خَلْفِهِمْ} بكسر الميم والفاء.
قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} أي: غشًا ونقضًا للعهد من القوم المعاهدين {فانبذ إِلَيْهِمْ} أي فاطرح إليهم العهد الذي بينك وبينهم {على سَوَاء} على طريق مستوية.
والمعنى: أنه يخبرهم إخبارًا ظاهرًا مكشوفًا بالنقض، ولا يناجزهم الحرب بغتة، وقيل معنى: {على سَوَاء} على وجه يستوي في العلم بالنقض أقصاهم وأدناهم، أو تستوي أنت وهم فيه.
قال الكسائي: السواء العدل، وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله: {فِى سَوَاء الجحيم} [الصافات: 55]، ومنه قول حسان:
يا ويح أنصار النبي ورهطه ** بعد المغيب في سواء الملحد

ومن الأوّل قول الشاعر:
فاضرب وجوه الغدّر الأعداء ** حتى يجيبوك إلى سواء

وقيل: معنى {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاء} على جهر لا على سرّ، والظاهر أن هذه الآية عامة في كل معاهد يخاف من وقوع النقض منه.
قال ابن عطية: والذي يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر بني قريظة انقضى عند قوله: {فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية يأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة، وجملة {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} تعليل لما قبلها، يحتمل أن تكون تحذيرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المناجزة قبل أن ينبذ إليهم على سواء، ويحتمل أن تكون عائدة إلى القوم الذين تخاف منهم الخيانة.
قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} قرأ ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص بالياء التحتية.
وقرأ الباقون بالمثناة من فوق.
فعلى القراءة الأولى يكون الذين كفروا فاعل الحسبان، ويكون مفعوله الأوّل محذوفًا، أي لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم، ومفعوله الثاني سبقوا ومعناه: فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم.
وعلى القراءة الثانية يكون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومفعوله الأول الذين كفروا، والثاني سبقوا، وقرئ {إِنهَّم سَبَقُوا} وقرئ {يحسبن} بكسر الياء، وجملة {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} تعليل لما قبلها، أي إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزًا عن إدراكهم.
وقرأ ابن عامر {أنهم} بفتح الهمزة، والباقون بكسرها، وكلا القراءتين مفيدة لكون الجملة تعليلية.
وقيل المراد بهذه الآية: من أفلت من وقعة بدر من المشركين.
والمعنى: أنهم وإن أفلتوا من هذه الوقعة ونجوا فإنهم لا يعجزون، بل هم واقعون في عذاب الله في الدنيا أو في الآخرة.
وقد زعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم، أن قراءة من قرأ {يحسبنّ} بالتحتية لحن، لا تحلّ القراءة بها، لأنه لم يأت ليحسبنّ بمفعول، وهو يحتاج إلى مفعولين.
قال النحاس: وهذا تحامل شديد.
ومعنى هذه القراءة: ولا يحسبنّ من خلفهم الذين كفروا سبقوا، فيكون الضمير يعود على ما تقدّم إلا أن القراءة بالتاء أبين.
وقال المهدوي: يجوز على هذه القراءة أن يكون الذين كفروا فاعلًا، والمفعول الأوّل محذوف.
والمعنى ولا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم سبقوا.
قال مكي: ويجوز أن يضمر مع سبقوا أن فتسدّ مسد المفعولين، والتقدير: ولا يحسبنّ الذين كفروا أن سبقوا، فهو مثل: {أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ} [العنكبوت: 2] في سدّ أن مسدّ المفعولين.
ثم أمر سبحانه بإعداد القوّة للأعداء، والقوّة كل ما يتقوّى به في الحرب، ومن ذلك السلاح والقسيّ.
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: «{وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة} ألا إن القوّة الرمي، قالها ثلاث مرات» وقيل: هي الحصون، والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متعين.
قوله: {وَمِن رّبَاطِ الخيل}.
قرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة {ومن ربط الخيل} بضم الراء والباء ككتب: جمع كتاب.
قال أبو حاتم: الرباط من الخيل الخمس فما فوقها، وهي الخيل التي ترتبط بإزاء العدو.
ومنه قول الشاعر:
أمر الإله بربطها لعدوّه ** في الحرب إن الله خير موفق

قال في الكشاف: والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة.
ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال. انتهى..
ومن فسر القوّة بكل ما يتقوّى به في الحرب جعل عطف الخيل من عطف الخاص على العام، وجملة {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} في محل نصب على الحال، والترهيب: التخويف، والضمير في {به} عائد إلى {ما} في {ما استطعتم} أو إلى المصدر المفهوم من {وأعدّوا} وهو الإعداد.
والمراد بعدوّ الله وعدوهم هم المشركون من أهل مكة، وغيرهم من مشركي العرب.
قوله: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِم} معطوف على عدوّ الله وعدوّكم.
ومعنى من دونهم: من غيرهم.
قيل هم اليهود.
وقيل فارس والروم، وقيل الجنّ، ورجحه ابن جرير.
وقيل المراد بالآخرين من عدوهم: كل من لا تعرف عداوته، قاله السهيلي.
وقيل: هم بنو قريظة خاصة، وقيل غير ذلك.
والأولى: الوقف في تعيينهم لقوله: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ}.
قوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شيء في سَبِيلِ الله} أي: في الجهاد وإن كان يسيرًا حقيرًا {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} جزاؤه في الآخرة.
فالحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، كما قرّرناه سابقًا.
{وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} في شيء من هذه النفقة التي تنفقونها في سبيل الله، أي من ثوابها، بل يصير ذلك إليكم وافيًا وافرًا كاملًا {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] {أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ} [آل عمران: 195].
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: نزلت: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} الآية في ستة رهط من اليهود فيهم ابن تابوت.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {الذين عاهدت مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} قال: قريظة يوم الخندق مالئوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} قال: نكل بهم من بعدهم.
وأخرج ابن جرير، عنه، في الآية قال: نكل بهم من رواءهم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، في الآية قال: أنذر بهم.