فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة قال: عظ بهم من سواهم من الناس.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، قال: أخفهم بهم.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يقول: لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن شهاب قال: دخل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد وضعت السلاح وما زلنا في طلب القوم، فاخرج فإن الله قد أذن لك في قريظة، وأنزل فيهم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} قال: لا يفوتونا.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ} قال: الرمي والسيوف والسلاح.
وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، في قوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ} قال: أمرهم بإعداد الخيل.
وأخرج أبو الشيخ، والبيهقي في الشعب، عن عكرمة في الآية قال: القوّة ذكور الخيل، والرباط الإناث.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيب في الآية قال: القوّة الفرس إلى السهم فما دونه.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عكرمة قال: القوّة الحصون.
{ومِنْ رّبَاطِ الخيل} قال: الإناث.
وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} قال: تخزون به عدوّ الله وعدوّكم.
وقد ورد في استحباب الرمي، وما فيه من الأجر أحاديث كثيرة، وكذلك ورد في استحباب اتخاذ الخيل وإعدادها، وكثرة ثواب صاحبها أحاديث لا يتسع المقام لبسطها.
وقد أفرد ذلك جماعة من العلماء بمصنفات. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أَيْ: إِنَّ شَرَّ مَا يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عِنْدَ اللهِ أَيْ فِي حُكْمِهِ الْعَدْلِ عَلَى الْخَلْقِ، هُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ جَمَعُوا مَعَ أَصْلِ الْكُفْرِ الْإِصْرَارَ عَلَيْهِ وَالرُّسُوخَ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يُرْجَى إِيمَانُهُمْ جُمْلَتُهُمْ أَوْ إِيمَانُ جُمْهُورِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ بَيْنَ رُؤَسَاءَ حَاسِدِينَ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مُعَانِدِينَ لَهُ جَاحِدِينَ بِآيَاتِ اللهِ الْمُؤَيِّدَةِ لِرِسَالَتِهِ عَلَى عِلْمٍ، عَلَى التَّقْلِيدِ لَا يَنْظُرُونَ فِي الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ، وَلَا يَبْحَثُونَ فِي الْحُجَجِ وَالْبَيِّنَاتِ، حَتَّى حَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى نَقْضِ الْعُهُودِ، وَنَكْثِ الْأَيْمَانِ بِحَيْثُ لَا حِيلَةَ فِي الْحَيَاةِ مَعَهُمْ أَوْ فِي جِوَارِهِمْ حَيَاةَ سَلْمٍ وَأَمَانٍ كَمَا ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ.
عَبَّرَ عَنْهُمْ بِالدَّوَابِّ وَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَهَائِمِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أَوْ فِيمَا يُرْكَبُ مِنْهَا لِإِفَادَةِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ شِرَارِ الْبَشَرِ فَقَطْ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ مِنْ عَجْمَاوَاتِ الدَّوَابِّ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَنَافِعَ لِلنَّاسِ، وَهَؤُلَاءِ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، وَلَا نَفْعَ لِغَيْرِهِمْ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ لِشِدَّةِ تَعَصُّبِهِمْ لِجِنْسِهِمْ قَدْ صَارُوا أَعْدَاءً لِسَائِرِ الْبَشَرِ. كَمَا قَالَ فِي وَصْفِ أَمْثَالِهِمْ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [25: 44] وَكَمَا قَالَ فِي [الْآيَةِ 22] مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} وَقَدِ اقْتَبَسَ أُسْتَاذُنَا الْإِمَامُ هَذَا الِاسْتِعْمَالَ فَقَالَ فِي مَقَالَةٍ مِنْ مَقَالَاتِ الْعُرْوَةَ الْوُثْقَى: وَكَثِيرٌ مِمَّنْ عَلَى شَكْلِ الْإِنْسَانِ يَحْيَا حَيَاتَهُ هَذِهِ بِرُوحِ حَيَوَانٍ آخَرَ، وَهُوَ يُعَانِي تَحْصِيلَ شَهَوَاتِهَا أَوْ قَالَ كَلِمَةً أُخْرَى قَرِيبَةً مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا يُعَانِيهِ الْإِنْسَانُ فِي إِبْرَازِ مَزَايَا الْإِنْسَانِ.
وَقَالَ: الَّذِينَ كَفَرُوا فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِفِعْلِ الْكُفْرِ دُونَ الْوَصْفِ (الْكَافِرُونَ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَعَرَضَ لَهُمُ الْكُفْرُ، وَهَذَا ظَاهَرٌ فِي جُمْلَةِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كَمَا كَفَرُوا بِمَنْ قَبْلَهُ، وَهُمْ فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ مُتَكَافِلُونَ مُتَشَابِهُونَ، آخِرُهُمْ فِي ذَلِكَ كَأَوَّلِهِمْ، وَهُمْ أَظْهَرُ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ النَّبِيَّ الْكَامِلَ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ مُوسَى فِي التَّوْرَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ مُفْصَلًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَمُجْمَلًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا. وَكَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُبْعَثُ مِنَ الْعَرَبِ؛ لِأَنَّ مِنْ نُصُوصِ التَّوْرَاةِ الْمَوْجُودَةِ إِلَى الْآنِ أَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ لَهُمْ نَبِيًّا مِثْلَ مُوسَى بَيْنَ بَنِي إِخْوَتِهِمْ أَيْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَكَانُوا يَطْمَعُونَ فِي أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّبِيُّ مِنْهُمْ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ يَكْفِي فِي صِحَّةِ خَبَرِ التَّوْرَاةِ ظُهُورُهُ بَيْنَ الْعَرَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ بِزَعْمِهِمْ مُحْتَكَرَةٌ مُحْتَجَنَةٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَى مَا اعْتَادُوا مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ.
وَقَالَ: فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كَفَرُوا لَا تَقْتَضِي الثَّبَاتَ عَلَى الْكُفْرِ دَائِمًا، فَعَطَفَ عَلَيْهَا الْإِخْبَارَ بِأَنَّ كُفْرَهُمْ دَائِمٌ لَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ فِي جُمْلَتِهِمْ، حَتَّى يَيْئَسَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ مِمَّا كَانُوا يَرْجِعُونَ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي وُقُوعَ الْإِيمَانِ مِنْ بَعْضِهِمْ وَقَدْ وَقَعَ، وَهَذَا الْخَبَرُ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، ثُمَّ أَيْأَسَهُمْ مِنْ ثَبَاتِهِمْ عَلَى السَّلْمِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِمُقْتَضَى الْعَهْدِ بَعْدَ إِيئَاسِهِمْ مِنَ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ:
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ فَـ الَّذِينَ هَذِهِ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهَا، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَقَدَ مَعَ يَهُودِ الْمَدِينَةِ عَقِبَ هِجْرَتِهِ إِلَيْهَا عَهْدًا أَقَرَّهُمْ فِيهِ عَلَى دِينِهِمْ، وَأَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَنَقَضَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَهْدَهُ، فَقوله تعالى: {مِنْهُمْ} قِيلَ: مَعْنَاهُ أَخَذْتَ الْعَهْدَ مِنْهُمْ وَقِيلَ: مِنْ صِلَةٌ وَالْمُرَادُ عَاهَدْتَهُمْ، وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ أَيْ عَاهَدْتَ بَعْضَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ طَوَائِفُ يَهُودِ الْمَدِينَةِ، وَلَا يَظْهَرُ التَّبْعِيضُ فِيهِ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْآيَاتُ فِي يَهُودِ بِلَادِ الْعَرَبِ كُلِّهِمْ، وَقِيلَ: قُرَيْظَةُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ مِنْهُمْ، وَقِيلَ: زُعَمَاؤُهُمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا عَقْدَ الْعَهْدِ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْكَلَامِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَإِنَّمَا قَالَ: (يَنْقُضُونَ) بِفِعْلِ الِاسْتِقْبَالِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ نَقَضُوهُ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، لِإِفَادَةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هَفْوَةً رَجَعُوا عَنْهَا، وَنَدِمُوا عَلَيْهَا كَمَا سَيَأْتِي عَنْ بَعْضِهِمْ، بَلْ أَنَّهُمْ يَنْقُضُونَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَإِنْ تَكَرَّرَ، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى عُهُودِ طَوَائِفِ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ فِي جُمْلَتِهِمْ، وَهُمْ ثَلَاثُ طَوَائِفَ كَمَا سَيَأْتِي، وَيَصْدُقُ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَحْدَهُمْ وَكَانُوا أَشَدَّهُمْ كُفْرًا، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تَكَرَّرَ عَهْدُهُ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَعَزَى إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ، نَقَضُوا عَهْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَعَانُوا عَلَيْهِ بِالسِّلَاحِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ ثُمَّ قَالُوا نَسِينَا وَأَخْطَأْنَا، فَعَاهَدَهُمُ الثَّانِيَةَ فَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وَمَالَئُوا الْكُفَّارَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَرَكِبَ زَعِيمُهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَى مَكَّةَ فَحَالَفَهُمْ عَلَى مُحَارَبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ اللهَ فِي نَقْضِ الْعَهْدِ، وَلَا يَتَّقُونَ مَا قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ قِتَالِهِمْ وَالظَّفَرِ بِهِمْ. وَسَيَأْتِي بَعْضُ التَّفْصِيلِ لِمُعَامَلَةِ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَرَسُولِ السَّلَامِ صلى الله عليه وسلم لِلْيَهُودِ بَعْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَهُمْ بِقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} قَالَ الرَّاغِبُ: الثَّقْفُ الْحِذْقُ فِي إِدْرَاكِ الشَّيْءِ وَفِعْلِهِ، وَمِنْهُ اسْتُعِيرَ الْمُثَاقَفَةُ وَرُمْحٌ مُثَقَّفٌ وَمَا يُثَقَّفُ بِهِ الثَّقَّافُ.
(قَالَ): ثُمَّ يَتَجَوَّزُ بِهِ فَيُسْتَعْمَلُ فِي الْإِدْرَاكِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ ثَقَافَةٌ، وَاسْتَشْهَدَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ يَدُلُّ عَلَى إِدْرَاكِهِمْ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهُمْ، وَالظُّهُورِ عَلَيْهِمْ. وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّهُمْ سَيُحَارِبُونَهُ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ نَقْضَ الْعَهْدِ يَكُونُ بِالْحَرْبِ، أَوْ بِمَا يَقْتَضِيهَا وَيَسْتَلْزِمُهَا، وَذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، إِذْ كَانَ قَبْلَ وُقُوعِهِ عَقِبَ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَالْمَعْنَى: فَإِنْ تُدْرِكْ هَؤُلَاءِ النَّاقِضِينَ لِعَهْدِهِمْ، وَتُصَادِفْهُمْ فِي الْحَرْبِ ظَاهِرًا عَلَيْهِمْ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أَيْ: فَنَكِّلْ بِهِمْ تَنْكِيلًا يَكُونُونَ بِهِ سَبَبًا لِشُرُودِ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ وَتَفَرُّقِهِمْ كَالْإِبِلِ الشَّارِدَةِ النَّادَّةِ اعْتِبَارًا بِحَالِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِمَنْ خَلْفَ يَهُودِ الْمَدِينَةِ: كُفَّارُ مَكَّةَ وَأَعْوَانُهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْقَبَائِلِ الْمُوَالِيَةِ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ تَوَاطَئُوا مَعَ الْيَهُودِ النَّاكِثِينَ لِعَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قِتَالِهِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بِالْإِثْخَانِ فِي هَؤُلَاءِ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ تَكَرَّرَتْ مُسَالَمَتُهُ لَهُمْ، وَتَجْدِيدُهُ لِعَهْدِهِمْ بَعْدَ نَقْضِهِ، لِئَلَّا يَنْخَدِعَ مَرَّةً أُخْرَى بِكَذِبِهِمْ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَحُبِّ السَّلْمِ، وَعُدَّةُ الْحَرْبِ ضَرُورَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ تُتْرَكُ إِذَا زَالَتِ الضَّرُورَةُ الدَّافِعَةُ إِلَيْهَا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي سَتَأْتِي فِي آيَةِ: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [61] وَهَؤُلَاءِ الْيَهُودُ أَوْهَمُوهُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ أَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ فِي السَّلْمِ مُعْتَذِرِينَ عَنْ نَقْضِهِمْ لِلْعَهْدِ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ مُخَادِعِينَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْإِثْخَانِ فِيهِمْ لِتَرْبِيَتِهِمْ، وَاعْتِبَارِ أَمْثَالِهِمْ بِحَالِهِمْ دُونَ حُبِّ الْحَرْبِ أَوِ الطَّمَعِ فِي غَنَائِمِهَا، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أَيْ: لَعَلَّ مَنْ خَلْفَهُمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ يَتَّعِظُونَ وَيَعْتَبِرُونَ، فَلَا يُقْدِمُونَ عَلَى الْقِتَالِ، وَلَا يَعُودُ الْمُعَاهِدُ مِنْهُمْ لِنَقْضِ الْعَهْدِ وَنَكْثِ الْأَيْمَانَ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ مُنَزِّلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِي السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ الْحَرْبَ لَيْسَتْ مَحْبُوبَةً عِنْدَ اللهِ، وَلَا عِنْدَ رَسُولِهِ لِذَاتِهَا، وَلَا لِمَا فِيهَا مِنْ مَجْدِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هِيَ ضَرُورَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ يُقْصَدُ بِهَا مَنْعُ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَةِ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ، وَدَحْضُ الْبَاطِلِ، وَاكْتِفَاءُ شَرِّ عَمَلِهِ، بِنَاءً عَلَى سُنَّةِ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [13: 17] وَتُسَمَّى فِي عُرْفِ عَصْرِنَا سُنَّةَ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ.
وَهَذَا الْإِرْشَادُ الْحَرْبِيُّ فِي اسْتِعْمَالِ الْقَسْوَةِ مَعَ الْبَادِئِينَ بِالْحَرْبِ، وَالنَّاقِضِينَ فِيهَا لِعُهُودِ السَّلْمِ، وَالتَّنْكِيلِ بِالْبَادِئِينَ بِالشَّرِّ، لِتَشْرِيدِ مَنْ وَرَاءَهُمْ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ قُوَّادِ الْحَرْبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ مَعَ ذَلِكَ الِانْتِقَامَ، وَشِفَاءَ مَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الْأَحْقَادِ، وَالسَّعْيَ لِإِذْلَالِ الْعِبَادِ، وَالتَّمَتُّعَ بِالْغَنَائِمِ مِنْ مَالٍ وَعَقَارٍ، دُونَ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّرْبِيَةِ بِالِاعْتِبَارِ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ مَنْ لَا ثِقَةَ بِعُهُودِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُخْشَى مِنْهُمْ نَقْضَهَا عِنْدَمَا تَسْنَحُ لَهُمْ غِرَّةٌ فَقَالَ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} أَيْ: وَإِنْ تَتَوَقَّعْ مَنْ قَوْمٍ خِيَانَةً بِنَقْضِ عَهْدِكَ مَعَهُمْ بِأَنْ يَظْهَرَ لَكَ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْقَرَائِنِ مَا يُنْذِرُ بِهِ، فَاقْطَعْ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ الْخِيَانَةِ لَكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، بِأَنْ تَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ، أَيْ تُعْلِمَهُمْ بِفَسْخِهِ، وَعَدَمِ تَقَيُّدِكَ بِهِ، وَلَا اهْتِمَامِكَ بِأَمْرِهِمْ فِيهِ- شَبَّهَ مَا لَا ثِقَةَ بِوَفَائِهِمْ بِهِ مِنْ عُهُودِهِمْ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُلْقَى بِاحْتِقَارٍ، وَيُرْمَى كَالنَّوَى الَّتِي يَلْفِظُهَا الْآكِلُ، وَيَرْمِيهَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ- انْبِذْهُ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ، أَيْ عَلَى طَرِيقٍ سَوِيٍّ وَاضِحٍ لَا خِدَاعَ فِيهِ، وَلَا اسْتِخْفَاءَ وَلَا خِيَانَةَ، وَلَا ظُلْمَ وَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَقُولُ أَعْلِمْهُمْ قَبْلَ حَرْبِكَ إِيَّاهُمْ أَنَّكَ قَدْ فَسَخْتَ الْعَهْدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ وَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ سَوَاءً، فَلَا يَتَوَهَّمُوا أَنَّكَ نَقَضْتَ الْعَهْدَ بِنَصْبِ الْحَرْبِ مَعَهُمْ. اهـ.
وَأَمَّا الَّذِينَ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ بِالْفِعْلِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى نَبْذِ الْمُسْلِمِينَ عَهِدَهُمْ إِلَيْهِمْ، بَلْ يُنَاجِزُونَ الْحَرْبَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَقَضَتْ قُرَيْشٌ عَهْدَ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِمُظَاهَرَةِ بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ الَّذِينَ كَانُوا فِي ذِمَّتِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا النَّبْذِ لِعَهْدِ مَنْ ذُكِرَ، بَلِ الْعِلَّةُ لَهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُبِيحُ لِأَهْلِهِ الْخِيَانَةَ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ تَقَعُ مِنْ أَكْمَلِ الْبَشَرِ الَّذِي كَانَ يُلَقِّبُهُ أَهْلُ وَطَنِهِ مُنْذُ تَمْيِيزِهِ بِالْأَمِينِ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللهُ لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} بِنَقْضِ عُهُودِهِمْ مَعَ النَّاسِ، وَلَا يُغَيِّرُ ذَلِكَ، فَالْخِيَانَةُ مَبْغُوضَةٌ عِنْدَ اللهِ بِجَمِيعِ صُوَرِهَا وَمَظَاهِرِهَا، فَلَا وَسِيلَةَ إِذًا لِاتِّقَاءِ ضَرَرِ خِيَانَةِ الْمُعَاهِدِينَ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُهَا مِنْهُمْ مَعَ عَدَمِ إِبَاحَةِ مُعَامَلَتِهِمْ بِمِثْلِهَا مَعَ بَقَاءِ الْعَهْدِ مِنْ جِهَتِنَا، وَعَدَمِ جَوَازِ حُسْبَانِهِ كَمَا يَقُولُ الْأَقْوِيَاءُ مِنْ مُلُوكِ أُورُبَّةَ: قُصَاصَةُ وَرَقٍ- إِلَّا نَبْذُ عَهْدِهِمْ جَهْرًا، وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْوَسِيلَةُ مَانِعَةً مِنْ خِيَانَةِ الْعُقَلَاءِ مِنْهُمْ، الَّذِينَ يَتَّقُونَ عَاقِبَةَ نَقْضِ الْعَهْدِ إِذَا كَانُوا ضُعَفَاءَ لَا يَتَجَرَّءُونَ عَلَى الْخِيَانَةِ إِلَّا إِذَا كَانُوا آمِنِينَ مِنْ مُعَامَلَةِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ مُعَامَلَةَ الْأَعْدَاءِ الْمُحَارِبِينَ وَمُنَاجِزَتِهِمْ إِيَّاهُمُ الْقِتَالَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ}.
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: ثَلَاثَةٌ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ فِيهِنَّ سَوَاءٌ- مَنْ عَاهَدْتَهُ فَوَفِّ بِعَهْدِهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، فَإِنَّمَا الْعَهْدُ لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَحِمٌ فَصِلْهَا مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَمَنِ ائْتَمَنَكَ عَلَى أَمَانَةٍ فَأَدِّهَا إِلَيْهِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا. وَرُوِيَ فِيهَا عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ، وَكَانَ يَسِيرُ حَتَّى يَكُونَ قَرِيبًا مِنْ أَرْضِهِمْ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَهُ عَمْرُو بْنُ عَنْبَسَةَ رضي الله عنه فَقَالَ: وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَشُدُّ عَقْدَهُ وَلَا يَحِلُّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمْرُهَا وَيَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ قَالَ: فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالْجُيُوشِ. فَهَذَا صَحَابِيٌّ وَعَظَ قَائِدًا صَحَابِيًّا مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ فِي وَقْتِ عَهْدِ السَّلْمِ فَاتَّعَظَ وَرَجَعَ.