فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



روي عن ابن سيرين أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون فقال: يشتري به الخيل فتربط في سبيل الله ويغزي عليها. فقيل له: إنما أوصى في الحصون. فقال: ألم تسمع قول الشاعر:
ولقد علمت على توقّي الردى ** أن الحصون الخيل لا مدر القرى

وعن عكرمة أن الخيل هاهنا الإناث لأنها أولى بالربط لتفيد النسل. وقيل: هي الفحول لأنها أقوى على الكر والفر. والظاهر العموم.
ثم ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال: {ترهبون به} أي بما استطعتم {عدو الله وعدوكم} لأن الكفار إذا علموا تأهب المسلمين للقتال لم يجسروا عليهم وخافوهم وربما يدعوهم ذلك إلى الانقياد والطاعة {وآخرين من دونهم} يريد بالأوّلين أهل مكة وبالآخرين اليهود على قول ولكنه لا يجاريه قوله: {لا تعلمونهم الله يعلمهم} والمنافقين على قول. واعترض عليه بأنهم لا يرهبون لانخراطهم في سلك المسلمين ظاهرًا. وأجيب بأن الخائن خائف فلكما اشتدت شوكة المسلمين ازداد المنافقون في أنفسهم خوفًا ورعبًا فربما يدعوهم ذلك إلى الإخلاص. وعن السدي: هم أهل فارس. وروي ابن جريج عن سليمان بن موسى أنهم كفرة الجن وجاء في الحديث إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا دارًا فيها فرس عتيق وروي أن صهيل الخيل يرهب الجن. وقيل: المراد بالآخرين أعداء المرء من دينه فإن المسلم قد يعاديه مسلم آخر. ثم رغبهم في الإنفاق في باب الجهاد فقال: {وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم} أي ثوابه {وأنتم لا تظلمون} لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئًا. ثم رخص في المصالحة إن مال الأعداء إليها فقال: {وإن جنحوا للسلم} الآية جنح له وإليه جنوحًا إذا مال. وإنما قيل {فاجنح لها} لأن السلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب، أو بتأويل الخصلة أو الفعلة. عن ابن عباس ومجاهد أن الآية منسوخة بقوله: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله} [التوبة: 29] وبقوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5] والأوْلى أن يقال: إنها ثابتة فليس بحتم أن يقاتل المشركون أبدًا، أو يجابوا إلى الهدنة أبدًا، وإنما الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وذويه، فإذا رأى الصلاح في الصلح فذاك. والمصلحة قد تظهر عند ضعف المسلمين إما لقلة العدد أو لقلة المال وبعد العدوّ وقد تكون مع القوة للطمع في إسلامهم أو قبولهم الجزية إذا خالطوا المسلمين أو بأن يعينوه على قتال غيرهم. وأما مدة المهادنة فإذا لم يكن بالمسلمين ضعف ورأى الإمام الصلاح في المهادنة فقد قال الشافعي يهادن أربعة أشهر فما دونها لقوله تعالى: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} [التوبة: 2] وذلك كان في أقوى ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك. وإن كان بالمسلمين ضعف جازت الزيادة بحسب الحاجة إلى عشر سنين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حين صالح أهل مكة بالحديبية على وضع القتال عشر سنين: إلا أنهم نقضوا العهد قبل كمال المدة وإن نقضت المدة والحاجة باقية استأنف العقد. ثم قال: {وتوكل على الله} أي فوض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عونًا لك على السلامة وينصرك عليهم. إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء كما كان من شأن قريظة والنضير. وعن مجاهد نزلت فيهم {إنه هو السميع} للأقوال {العليم} بالأحوال.
وفيه زجر عن نقض الصلح ما أمكن. ثم ذكر حكمًا من أحكام المهادنة فقال: {وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك} محسبك وكافيك {الله} والمعنى أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة وجب قبول ذلك الصلح لأن الحكم فيه يبنى على الظاهر كما أن أصل الإيمان مبني على الظاهر. ولا تنافي بين هذه الاية وبين ما تقدم من قوله: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم} [الأنفال: 58] لأن هذه المخادعة محمولة على أمور خيفة تدل على الغل والنفاق، وذلك الخوف محمول على أمارة قوية يدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة. ثم أكد كون الله تعالى كافيًا له بقوله: {هو الذي أيدك بنصره} أي من غير واسطة أسباب معتادة.
{وبالمؤمنين} أي بوساطة الأنصار. ثم بين أنه كيف أيده بالمؤمنين فقال: {وألف بين قلوبهم} قال جمع من المفسرين: هم الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك أشرافهم ودق جماجمهم، فرفع الله تعالى ذلك بلطيف صنعه، والأولى حمله على العموم والتأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغائن في الأمور المستحقرة لم تكد تأتلف أهواؤهم وينتظم شملهم، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله حتى بذلوا دونه المهج والأرواح والأموال فليس ذلك الأمن مقلب القلوب والأحوال. والتحقيق في الباب أن المحبة لا تحصل إلا عند تصور حصول خير من المحبوب. ثم إن كان سبب انعقاد المحبة أمرًا سريع التغير كالمال أو الجاه أو اللذة الجسمانية كانت تلك المحبة بصدد الزوال والاضمحلال، فالمعشوق يريد العاشق لماله، والعاشق يحب المعشوق لاستيفاء لذة بهيمية، فمهما حصل مرادهما كانا متحابين ومتى لم يحصل عادا متباغضين وإن كان سبب انعقاد المودة كمالًا حقيقيًا روحانيًا دائمًا لم يتصور لها تغير وزوال. ثم إن العرب كانوا قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم مقبلين على المفاخرة والتسابق في المار والجاه والتعصب والتفرق، فلا جرم كانوا متحابين تارة ومتباغضين أخرى، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الله تعالى والإعراض عن الدنيا والإقبال على تحصيل السعادة الأبدية الروحانية توحد مطلبهم وصاروا إخوانًا متراحمين متحابين في الله ولله.
{إنه عزيز حكيم} أي قادر قاهر على تقليب القلوب والدواعي فاعل لكل ما يفعل على وجه الإحكام والإتقان أو على حسب المصالح على اختلاف القولين في مسألة الجبر والقدر. قال القاضي: لولا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة لما حصلت هذه الأحوال. ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته، وأجيب بأنه عدول عن الظاهر والآية صريحة في أن العقائد والإرادات والكراهات كلها بخلق الله تعالى وإيجاده، اللهم يا مصرف القلوب ومقلبها ثبت قلبي على دينك ووفقني لمتابعة نبيك إنك قادر على ما تشاء ولا يكون إلا ما تشاء.
ثم إنه سبحانه لما وعد نبيه النصر والكفاية عند مخادعة الأعداء وعده النصر والكفاية على الإطلاق فقال: {يا أيها النبي حسبك الله} ومحل {ومن اتبعك} منصوب بمنزلة زيدًا في قولك حسبك وزيدًا درهم قال الفراء: وليس بكثير في كلامهم أن يقولوا حسبك وأخيك بل المستعمل أن يقال: حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار. فلو كان قوله: {ومن اتبعك} مجرورًا لقيل حسبك وحسب من اتبعك. ومعنى الآية كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصرًا. وجوّز أن يكون محل الرفع أي كفاك الله وكفاك المؤمنون فيكون كقوله: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} ويؤكده ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلًا وست نسوة ثم أسلم عمر فصاروا أربعين فأنزل الله تعالى الآية. ثم بيّن سبحانه أن كفايته مشروطة بالجد والاجتهاد في الجهاد فقال: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال} والتحريض. في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء. وذكروا في اشتقاقه أنه من الحرض وهو الإشراف على الهلاك من شدّة الضنى كأنه ينسبه إلى الهلاك لو تخلف عن المأمور، أو كأنه يأمره أن يبالغ فيه وفي تحصيله حتى يدنو من التلف. وفي قوله: {إن يكن منكم عشرون صابرون} عدّة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم بعون الله وتأييده. واعترض عليه بأنه يلزم منه أن لا يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين، ويمكن أن يجاب بعد تسليم وقوع مثل ذلك أن الخلل لعله يكون من فقدان الشرط وهو الصبر. قال بعض العلماء: هذا خبر في معنى الأمر كقوله: {والوالدات يرضعن} [البقرة: 233] {والمطلقات يتربصن} [البقرة: 228] بدليل قوله: {الآن خفف الله عنكم} والنسخ أبدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر، أو من جهة تعريف الخبر وإقحام الفصل. قال الفراء: قد جمع بين إما وأن في هذه الآية بخلاف قوله: {وما يعذبهم} {وإما يتوب عليهم} لأن الفعل هاهنا في موضع أمر بالاختيار أعني في موضع نصب كقول القائل: اختر ذا أو ذا. كأنهم قالوا: اختر أن تلقى بخلاف تلك الآية فإن الأمر لا يصلح هناك. قال موسى للسحرة ألقوا ما ترغبون فيه ازدراء بشأنهم وقلة مبالاة وثقة بأن الأمر الإلهي يغلب ولن بالكفر كفر. فالجواب من وجوه: أحدها: أنه إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقًا فإذا لم يكن كذلك فلا أمر ألبتة كقول القائل: اسقني الماء من الجرة.
فهذا إنما يكون أمرًا بشرط حصول الماء من الجرة. والثاني: أن موسى علم أنهم جاءوا لذلك فلابد أن يفعلوه ودفع النزاع في التقديم والتأخير. الثالث: أنه أذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليتمكن من الإقدام على إبطاله كمن يريد سماع شبهة ملحد ليبحث عنها ويكشف عن ضعفها يقول له: هات وقل ومراده أن يجيب عنها ويبين لكل أحد ضعفها وسقوطها {فلما ألقوا سحروا أعين الناس} [الأعراف: 116] قال القاضي: لو كان السحر حقًا لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم فثبت أنهم خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه. وقال الواحدي: بل المراد أنهم قلبوا الأعين عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات. وروي أنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق دواخل العصي فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض فخيل إلى الناس أنها تسعى {واسترهبوهم} [الأعراف: 116] أي أرهبوهم والسين زائدة كأنهم استدعوا رهبتهم. وقال الزجاج: اشتدت رهبة الناس فبعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب {وجاؤا بسحر عظيم} [الأعراف: 116] كما زعموا أن ذلك سحر لا يطيقه سحرة أهل الأرض. عن ابن عباس أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن الق عصاك. وفي رواية الواحدي عنه أن المراد بالوحي هاهنا الإلهام وههنا إضمار والتقدير: فألقاها فإذا هي تلقف. قال الجوهري: لقفت الشيء بالكسر ألقفه وتلقفته أيضًا تناولته بسرعة وما في ما يأفكون موصولة أو مصدرية بمعنى ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزوّرونه، أو أفكهم نحوه ودنوت منه وجدت القشعريرة فقال لي: من الرجل؟ قلت له: من العرب سمعت بك وبجمعك ومشيت معه حتى إذا تمكنت منه قتلته بالسيف وأسرعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أني قتلته فأعطاني عصاه وقال: أمسكها فإنها آية بيني وبينك يوم القيامة. وقال عكرمة: إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين فلما كثروا خفف الله عنهم ولهذا قال ابن عباس: أيما رجل فر من ثلاثة فمل يفر، فإن فر من اثنين فقد فر. والحاصل أن الجمهور ادّعوا أن قوله: {الآن خفف الله عنكم} ناسخ لحكم الآية المتقدمة وأنكر ذلك أبو مسلم الأصفهاني قال: لأن لفظ الآية ورد على الخبر. سلمنا أنه بمعنى الأمر لكن لم قلتم إن التقدير ليكن العشرون يغلب فإن قيل: إن إلقاءهم الحبال والعصي معارضة المعجز بالسحر وذلك كفر والأمر صابرين في مقابلة المائتين، ولم لا يجوز أن يكون المراد إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين فليشتغلوا بجهادهم وإذا كان الشرط غير حاصل في حق هؤلاء لقوله: {وعلم أن فيكم ضعفًا} فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم فلا يتصور النسخ.
ولفظ التخفيف لا يقتضي ورود التثقيل قبله لأن مثل هذا الكلام قد تقوله العرب ابتداء. ومما يدل على عدم النسخ تقارن الآيتين، والناسخ يجب أن يكون بعد المنسوخ بزمان. وهذا حاصل قول أبي مسلم وهو إنما يستحق الجواب لو لم يحصل قبله إطباق على حصول هذا النسخ والله تعالى أعلم.
ومعنى قوله: {وعلم أن فيكم ضعفًا} ظهر معلومه فلا يبقى لهشام حجة في مذهبه أنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا بعد وقوعها. والمراد بالضعف قبل الضعف في البدن وقيل في البصيرة والاستقامة في الدين وكانوا متفاوتين في ذلك. والظاهر أن المراد الضعف الإنساني المذكور في قوله: {وخلق الإنسان ضعيفًا} [النساء: 28]. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {يا أيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين}
ليس هذا تكريرًا لما قبله فإن الأوّل مقيد بإرادة الخدع {وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} [الأنفال: 62] فهذه كفاية خاصة، وفي قوله: {يا أيها النبي حَسْبُكَ الله} كفاية عامة غير مقيّدة، أي حسبك الله في كل حال، والواو في قوله: {وَمَنِ اتبعك} يحتمل أن تكون للعطف على الاسم الشريف.
والمعنى: حسبك الله وحسبك المؤمنين، أي كافيك الله وكافيك المؤمنين، ويحتمل أن تكون بمعنى مع كما تقول: حسبك وزيدًا درهم، والمعنى: كافيك وكافي المؤمنين الله، لأن عطف الظاهر على المضمر في مثل هذه الصورة ممتنع كما تقرّر في علم النحو، وأجازه الكوفيون.
قال الفراء: ليس بكثير في كلامهم أن تقول حسبك وأخيك، بل المستعمل أن يقال: حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار، فلو كان قوله: {وَمَنِ اتبعك} مجرورًا لقيل: حسبك الله وحسب من اتبعك، واختار النصب على المفعول معه النحاس، وقيل يجوز أن يكون المعنى: ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله فحذف الخبر.