فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى الْمَرْتَبَةَ الْعُلْيَا لِلْمُؤْمِنِينَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لَهُمْ فِي حَالِ الْقُوَّةِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْعَزِيمَةِ، قَفَّى عَلَيْهِ بَيَانَ مَا دُونَهَا مِنْ مَرْتَبَةِ الضَّعْفِ وَهِيَ مَا يُسَمَّى الرُّخْصَةَ، فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {ضُعْفًا} بِضَمِّ الضَّادِ، وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِفَتْحِهَا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ، وَعَنِ الْخَلِيلِ أَنَّ الضَّمَّ لِمَا كَانَ فِي الْبَدَنِ، وَالْفَتْحَ لِمَا كَانَ فِي الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ أَوِ النَّفْسِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ {وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعَفَاءَ} جَمْعُ ضَعِيفٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ حَالِ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ فِي بَدْرٍ، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [8: 6] فَالضَّعْفُ عَلَى هَذَا عَامٌّ يَشْمَلُ الْمَادِّيَّ وَالْمَعْنَوِيَّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَقَلَّ حَالَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكُفَّارِ فِي الْقِتَالِ أَنَّ تَرْجَحَ الْمِائَةُ مِنْهُمْ عَلَى الْمِائَتَيْنِ وَالْأَلْفُ عَلَى الْأَلْفَيْنِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ رُخْصَةٌ خَاصَّةٌ بِحَالِ الضَّعْفِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْآيَاتُ وَهُوَ وَقْتُ غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا لَا يَجِدُونَ مَا يَكْفِيهِمْ مِنَ الْقُوتِ، وَلَمْ يَكُنْ لَدَيْهِمْ إِلَّا فَرَسٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِقَصْدِ لِقَاءِ الْعِيرِ غَيْرُ مُسْتَعِدِّينَ لِلْحَرْبِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الْمُشْرِكِينَ الْكَامِلِي الْعُدَّةِ وَالْأُهْبَةِ. وَلَمَّا كَمَلَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ الْقُوَّةُ، كَمَا أَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونُوا فِي حَالِ الْعَزِيمَةِ، كَانُوا يُقَاتِلُونَ عَشْرَةَ أَضْعَافِهِمْ أَوْ أَكْثَرَ وَيَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَهَلْ تَمَّ لَهُمْ فَتْحُ مَمَالِكِ الرُّومِ وَالْفُرْسِ وَغَيْرِهِمْ إِلَّا بِذَلِكَ؟ وَكَانَ الْقُدْوَةَ الْأُولَى فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِهِ وَمِنْ بَعْدِهِ! كَانَ الْجَيْشُ الَّذِي بَعَثَهُ صلى الله عليه وسلم إِلَى مُؤْتَةَ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ لِلْقِصَاصِ مِمَّنْ قَتَلُوا رَسُولَهُ (الْحَارِثَ بْنَ عُمَيْرٍ الْأَزْدِيَّ) إِلَى أَمِيرِ بُصَرَى ثَلَاثَةَ آلَافٍ، وَأَقَلُّ مَا رُوِيَ فِي عَدَدِ الْجَيْشِ الَّذِي قَاتَلَهُمْ مِنَ الرُّومِ وَمُنْتَصِرَةِ الْعَرَبِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفًا، وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ أَنَّهُ كَانَ مِائَةَ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ وَمِائَةَ أَلْفٍ مِنْ عَرَبِ لَخْمٍ وَجُذَامَ، فَمَنْ شَكَّ أَوْ شَكَّكَ فِي هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، فَمَاذَا يَقُولُ فِي وَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ الشَّهِيرَةِ؟ رَوَى الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّ الْجُمُوعَ الَّتِي جَمَعَهَا هِرَقْلُ لِلْمَعْرَكَةِ الْفَاصِلَةِ فِيهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَرَبِ مِنَ الرُّومِ وَالشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَأَرْمِينِيَّةَ كَانَتْ زُهَاءَ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَكَانَ يَأْتِيهَا الْمَدَدُ خَشْيَةَ الْهَزِيمَةِ، وَكَانَ عَدَدُ جَيْشِ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَرَوَوْا أَنَّ قَتْلَى الرُّومِ بَلَغَتْ سَبْعِينَ أَلْفًا- فَمَنْ شَكَّ أَوْ مَارَى فِي الْعَدَدِ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعَارِكِ الْفَاصِلَةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَهَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يُمَارِيَ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ فِي جُمْلَةِ الْمَعَارِكِ الَّتِي فَتَحَ بِهَا الصَّحَابَةُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- تِلْكَ الْمَمَالِكَ الْوَاسِعَةَ عَلَى قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَكَوْنِهِمْ كَانُوا فِي مَجْمُوعِهَا أَوْ أَكْثَرِهَا أَقَلَّ مِنْ عُشْرِ أَعْدَائِهِمْ؟ أَنَّى وَهُوَ عَيْنُ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي يُفِيدُ عِلْمَ الْيَقِينِ؟!
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْغَلَبِ: بِإِذْنِ اللهِ فَقَدْ فَسَّرُوهُ هُنَا بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ تَعَالَى، وَأَصْلُ الْإِذْنِ فِي اللُّغَةِ إِبَاحَةُ الشَّيْءِ وَالرُّخْصَةُ فِي فِعْلِهِ، وَلاسيما إِذَا كَانَ الشَّأْنُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا فَيَكُونُ حَاصِلُ الْإِذْنِ إِزَالَةَ الْمَنْعِ، وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْقَوْلِ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالْفِعْلِ لِمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَالْإِذْنُ مِنَ اللهِ تَعَالَى إِمَّا أَمْرُ تَكْلِيفٍ أَوْ إِبَاحَةٍ وَتَرْخِيصٍ وَهُوَ مِنْ مُتَعَلَّقِ صِفَةِ الْكَلَامِ. فَالْأَوَّلُ- كَقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [22: 39] وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} [4: 64] وَالثَّانِي كَقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [2: 255] وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [11: 105] وَقَوْلِهِ: {وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ} [33: 46]- وَإِمَّا أَمْرُ تَكْوِينٍ أَيْ بَيَانٍ لِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى أَوْ فِعْلِهِ أَوْ تَقْدِيرِهِ أَوْ إِقْدَارِهِ لِمَنْ شَاءَ عَلَى مَا شَاءَ فَيَكُونُ مِنْ مُتَعَلَّقِ الْإِرَادَةِ وَمِنْ مُتَعَلَّقِ الْقُدْرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [5: 110] وَقَوْلِهِ: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [7: 58] أَيْ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَوْلِهِ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ} [2: 249] أَيْ بِأَقْدَارِهِ وَمَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَفِي مَعْنَاهَا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا، وَقَدْ خَتَمَ كُلًّا مِنْهُمَا بِقوله تعالى: {وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [2: 249] وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ لَا نُدْرِكُ حَقِيقَتَهَا وَكُنْهَهَا، وَإِنَّمَا نَعْلَمُ عِلْمَ يَقِينٍ أَنَّ مَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى مَعَهُ فَهُوَ الْغَالِبُ الْمَنْصُورُ وَلَنْ يَغْلِبَهُ أَحَدٌ، فَنُفَسِّرُهَا بِمَعِيَّةِ الْمَعُونَةِ وَالنَّصْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنَ [الْآيَةِ 46] مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي سِيَاقِ الْحَرْبِ وَغَزْوَةِ بَدْرٍ، وَقَدْ أَحَلْتُ فِيهِ عَلَى تَفْسِيرِ مِثْلِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [2: 153] وَقَدْ قُلْتُ هُنَاكَ: ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمْ يَقُلْ مَعَكُمْ، لِيُفِيدَ أَنَّ مَعُونَتَهُ إِنَّمَا تَمُدُّهُمْ إِذَا صَارَ الصَّبْرُ وَصْفًا لَازِمًا لَهُمْ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ آيَةَ الْعَزِيمَةِ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الرُّخْصَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِالتَّخْفِيفِ فِيهَا، وَلَكِنَّ الرُّخْصَةَ لَا تُنَافِي الْعَزِيمَةَ، وَلاسيما وَقَدْ عُلِّلَتْ هُنَا بِوُجُودِ الضَّعْفِ، وَنَسْخُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِالْأَمْرِ بِهِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا مَعًا. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فُرِضَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشْرَةٍ، فَجَاءَ التَّخْفِيفُ فَقَالَ: {الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} قَالَ: فَلَمَّا خَفَّفَ اللهُ عَنْهُمْ مِنَ الْعِدَّةِ نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خَفَّفَ عَنْهُمُ. اهـ.
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ فِي شَرْحِ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ: كَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَفِي رِوَايَةِ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ: نَقَصَ مِنَ النَّصْرِ. اهـ.
وَأَقُولُ: مَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ الصَّبْرَ فِي مُقَاتَلَةِ الضِّعْفَيْنِ دُونَ الصَّبْرِ فِي مُقَاتَلَةِ الْعَشْرَةِ الْأَضْعَافِ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ الْعَدَدِيَّةِ. وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ النَّصْرَ عَلَى الضِّعْفَيْنِ أَقَلُّ أَوْ أَنْقَصُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى الْعَشْرَةِ الْأَضْعَافِ، وَكِلَاهُمَا لَازِمٌ ضَرُورِيٌّ لِلْآخَرِ. وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ الْأُصُولِيِّ الَّذِي زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ مِنْ كَوْنِ الْآيَةِ الْأُولَى عَزِيمَةً أَوْ مُقَيَّدَةً بِحَالِ الْقُوَّةِ، وَالثَّانِيَةِ رُخْصَةً مُقَيَّدَةً بِحَالِ الضَّعْفِ، وَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهَوَيْهِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْهُ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِالنَّسْخِ، قَالَ الْحَافِظُ: فِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ عِنْدَهُ مُسْنَدَةٌ بَلْ مُعْضَلَةٌ وَصَنِيعُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَتَبِعَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ يَقْتَضِي أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. اهـ.
وَأَقُولُ: حَسْبُنَا أَنَّ الْحَافِظَ لَمْ يَقِفْ لَهَا عَلَى سَنَدٍ مُتَّصِلٍ، عَلَى أَنَّ النَّسْخَ فِي عُرْفِ الصَّحَابَةِ أَعَمُّ مِنَ النَّسْخِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ يَجْعَلُونَ حُكْمَ الثَّانِيَةِ الْوُجُوبَ، وَحُكْمَ الْأُولَى النَّدْبَ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِتَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي جَعَلَ بَعْضُهُمْ لِرِوَايَتِهِ حُكْمَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، قَالَ الْحَافِظَ فِي الْفَتْحِ: وَهَذَا قَالَهُ الْحَافِظُ تَوْقِيفًا عَلَى مَا يَظْهَرُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِقْرَاءِ. اهـ.
وَنَقُولُ: إِنَّ التَّوْقِيفَ مِنَ الشَّارِعِ مُسْتَبْعَدٌ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ ابْنَ عَبَّاسٍ الَّذِي كَانَ عِنْدَ نُزُولِ السُّورَةِ صَغِيرَ السِّنِّ، فَلَمْ يَحْضُرْ غَزْوَةَ بَدْرٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ يَقُولُهُ فِيهَا يَوْمَئِذٍ، وَكَوْنُهُ سَمِعَهُ بَعْدَ سِنِينَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِسَمَاعِهِ مُسْتَبْعَدٌ جِدًّا، فَالْوَجْهُ الْمُخْتَارُ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فُهِمَ مِنْهُ مَعْنَاهُ أَنَّ قِتَالَ الْمِثْلَيْنِ فَرْضٌ لَا يُنَافِي أَنَّ قِتَالَ الْعَشْرَةِ نَدْبٌ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ رُوَاتِهِ عَنْهُ بِالنَّسْخِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ فِي أَحْكَامِ الْحَدِيثِ مِنَ الْفَتْحِ عِنْدَ قَوْلِهِ فَجَاءَ التَّخْفِيفُ مَا نَصُّهُ: فِي رِوَايَةِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ الْأُخْرَى وَزَادَ فَفُرِضَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَفِرَّ رَجُلٌ مِنْ رَجُلَيْنِ، وَلَا قَوْمٌ مِنْ مِثْلَيْهِمْ. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ ثَبَاتِ الْوَاحِدِ الْمُسْلِمِ إِذَا قَاوَمَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ، وَتَحْرِيمِ الْفِرَارِ عَلَيْهِ مِنْهُمَا سَوَاءٌ طَلَبَاهُ أَوْ طَلَبَهُمَا، وَسَوَاءٌ وَقَعَ ذَلِكَ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ مَعَ الْعَسْكَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَسْكَرٌ. وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ تَفْسِيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَجَّحَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لِوُجُودِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ فِي الرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ وَلَفْظِهِ وَمِنْ نُسْخَةٍ عَلَيْهَا خَطُّ الرَّبِيعِ نُقِلَتْ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ لِلْآيَةِ آيَاتٍ فِي كِتَابِهِ: إِنَّهُ وَضَعَ عَنْهُمْ أَنْ يَقُومَ الْوَاحِدُ بِقِتَالِ الْعَشَرَةِ، وَأَثْبَتَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُومَ الْوَاحِدُ بِقِتَالِ الِاثْنَيْنِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنَ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ فِي الْبَابِ وَسَاقَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْمُنْفَرِدَ لَوْ طَلَبَاهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ أُهْبَةٍ جَازَ لَهُ التَّوَلِّي عَنْهُمَا جَزْمًا؟ وَإِنْ طَلَبَهُمَا فَهَلْ يَحْرُمُ؟ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا، لَكِنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآثَارِ الْمُتَضَافِرَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَأْبَاهُ وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، وَأَعْرَفُ النَّاسِ بِالْمُرَادِ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَا أَطْلَقَهُ إِنَّمَا هُوَ فِي صُورَةِ مَا إِذَا قَاوَمَ الْوَاحِدُ الْمُسْلِمُ مِنْ جُمْلَةِ الصَّفِّ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ اثْنَيْنِ مِنَ الْكُفَّارِ. أَمَّا الْمُفْرَدُ وَحْدَهُ بِغَيْرِ الْعَسْكَرِ فَلَا؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ إِنَّمَا عُهِدَ بِالْجَمَاعَةِ دُونَ الشَّخْصِ الْمُنْفَرِدِ، وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ أَصْحَابِهِ سَرِيَةً وَحْدَهُ، وَقَدِ اسْتَوْعَبَ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي غَالِبِهَا التَّصْرِيحُ بِمَنْعِ تَوَلِّي الْوَاحِدِ عَنِ الِاثْنَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِهَا بِقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ} [2: 207] وَبِقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [4: 84] اهـ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ الْقِرَاءَاتِ اللَّفْظِيَّةِ فِي الْآيَتَيْنِ أَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ وَنَافِعًا وَابْنَ عَامِرٍ قَرَءُوا {يَكُنْ} الْمُسْنَدَ إِلَى الْمِائَةِ فِي الْآيَتَيْنِ بِالتَّاءِ عَلَى التَّأْنِيثِ اللَّفْظِيِّ، وَوَافَقَهُمْ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ فِي {يَكُنْ} الَّتِي فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَمَّا {يَكُنْ} الْمُسْنَدُ إِلَى عِشْرُونَ صَابِرُونَ فَقَرَأَهَا الْجَمِيعُ بِالتَّذْكِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ جَمْعُ مُذَكَّرٍ مَوْصُوفٌ بِمِثْلِهِ. وَمِنْ مَبَاحِثِ الْبَلَاغَةِ فِيهِمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْمُرَادَ فِي تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ فِي الْقِتَالِ، مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ صَابِرِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ أَوْ فَوْقَ صَبْرِهِمْ، وَيَكُونُ الْكَافِرُونَ مِنَ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ مَا يَفْقَهُهُ الْمُؤْمِنُونَ. فَكَانَ مِنْ إِيجَازِ الْقُرْآنِ أَنَّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنْ قَيَّدَ الْعِشْرِينَ بِوَصْفِ صَابِرِينَ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِذَلِكَ الْمِائَةَ، وَقَيَّدَ الْغَلَبَ فِي قِتَالِ الْمِائَةِ لِلْأَلْفِ بِأَنْ يَكُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ فِي غَلَبِ الْعِشْرِينَ لِلْمِائَةِ مِنْهُمْ، وَكُلٌّ مِنَ الْقَيْدَيْنِ مُرَادٌ، فَأَثْبَتَ فِي كُلٍّ مِنَ الشَّرْطَيْنِ مَا حَذَفَ نَظِيرَهُ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي الْبَدِيعِ بِالِاحْتِبَاكِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَصَفَ الْمِائَةَ فِي آيَةِ التَّخْفِيفِ بِالصَّابِرَةِ؛ لِأَنَّ الصَّبْرَ شَرْطٌ لابد مِنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ وَكُلِّ عَدَدٍ مَعَ عَدَمِ وَصْفِ الْمِائَةِ فِي الْأُولَى، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْعَدَدِ الْقَلِيلِ كَالْعِشْرِينِ دُونَ الْكَثِيرِ كَالْمِائَةِ وَالْأَلْفِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَلْفِ اسْتِغْنَاءً بِمَا قَبْلَهُ وَبِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} وَهُوَ مَعَ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: {بِإِذْنِ اللهِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي الْغَلَبِ أَنْ يَكُونَ لِلصَّابِرِينَ عَلَى غَيْرِ الصَّابِرِينَ، وَكَذَا عَلَى مَنْ هُمْ أَقَلُّ مِنْهُمْ صَبْرًا، وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْغُرُورِ بِدِينِهِمْ، لِئَلَّا يَظُنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ وَحْدَهُ يَقْتَضِي النَّصْرَ وَالْغَلَبَ وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لِكَمَالِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا الصَّبْرُ وَالْعِلْمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ هُنَا بِالْفِقْهِ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)}
أخرج البخاري وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان من طريق سفيان عن عمرو بن دينارعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزل: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا} فكتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، وأن لا يفر عشرون من مائتين، ثم نزلت: {الآن خفف الله عنكم...} الآية. فكتب أن لا يفر مائة من مائتين قال سفيان: وقال ابن شبرمة رضي الله عنه: وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا، إن كانا رجلين أمرهما وإن كانا ثلاثة فهو في سعة من تركهم.
وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا فإن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين} فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: افترض أن يقاتل كل رجل عشرة، فثقل ذلك عليهم وشق عليهم، فوضع عنهم ورد عنهم إلى أن يقاتل الرجل الرجلين، فأنزل الله في ذلك {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} إلى آخر الآيات.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: افترض عليهم أن يقاتل كل رجل عشرة، فثقل ذلك عليهم وشق عليهم، فوضع عنهم ورد عنهم إلى أن يقاتل الرجل الرجلين، فأنزل الله في ذلك {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} إلى آخر الآيات.
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال} ثقلت على المسلمين فاعظموا أن يقاتل عشرون مائتين، ومائة ألفًا، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى، فقال: {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفًا...} الآية. قال: فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم، وإن كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتحرزوا عنهم، ثم عاتبهم في الأسارى وأخذ المغانم ولم يكن أحد قبله من الأنبياء عليهم السلام يأكل مغنمًا من عدوّ هو لله.