فصل: قال أبو حيان في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن إسحاق: وكان أكثر الأسارى فداءً العباس بن عبد المطلب؛ لأنه كان رجلًا موسرًا، فافتدى نفسه بمائة أوقيّة من ذهب وفي البخاري: وقال موسى بن عقبة قال ابن شهاب حدّثني أنس بن مالك: أن رجالًا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله؛ ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه فقال: «لا والله لا تذرون درهمًا» وذكر النقاش وغيره: أن فداء كل واحد من الأسارى كان أربعين أوقية، إلا العباس فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أضعفوا الفداء على العباس» وكلّفه أن يفدي ابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فأدى عنهما ثمانين أوقية، وعن نفسه ثمانين أوقية وأخذ منه عشرون أوقية وقت الحرب.
وذلك أنه كان أحد العشرة الذين ضَمِنوا الإطعام لأهل بدر، فبلغت النَّوبة إليه يوم بَدْر فاقتتلوا قبل أن يُطعم، وبقيت العشرون معه فأخذت منه وقت الحرب؛ فأخذ منه يومئذ مائة أوقيّة وثمانون أوقية.
فقال العباس للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد تركتني ما حييتُ أسأل قريشًا بكَفِّي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أين الذهب الذي تركته عند امرأتك أمّ الفضل»؟ فقال العباس أيّ ذهب؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك قلتُ لها لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولولدك» فقال: يا ابن أخي، من أخبرك بهذا؟ قال: «الله أخبرني».
قال العباس: أشهد أنك صادق، وما علمت أنك رسول الله قطّ إلا اليوم، وقد علمت أنه لم يطلعك عليه إلا عالم السرائر، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، وكفَرتُ بما سواه.
وأمر ابني أخويه فأسلما؛ ففيهما نزلت: {يا أيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى}.
وكان الذي أسر العباسَ أبا اليَسَر كعب بن عمرو أخا بني سلمة، وكان رجلًا قصيرًا، وكان العباس ضخمًا طويلًا، فلما جاء به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «لقد أعانك عليه مَلَك».
الثانية قوله تعالى: {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} أي إسلامًا.
{يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} أي من الفِدية.
قيل في الدنيا.
وقيل في الآخرة.
وفي صحيح مسلم: أنه لما قدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم مال من البحرين قال له العباس: إني فاديت نفسي وفاديت عقيلًا.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذ» فبسط ثوبه وأخذ ما استطاع أن يحمله مختصر.
في غير الصحيح: فقال له العباس هذا خير مما أخذ مني، وأنا بعدُ أرجو أن يغفر الله لي.
قال العباس: وأعطاني زمزم، وما أحِبُّ أن لي بها جميع أموال أهل مكة.
وأسند الطبريّ إلى العباس أنه قال: فيّ نزلت حين أعلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين أوقيّة التي أخذت منّي قبل المفاداة فأبى وقال: «ذلك فَيْءٌ» فأبدلني الله من ذلك عشرين عبدًا كلهم تاجر بمالي.
وفي مصنف أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بِقلادة لها كانت عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص.
قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقّ لها رِقةً شديدة وقال: «إن رأيتم أن تُطلقوا لها أسيرها وتردّوا عليها الذي لها»؟ فقالوا: نعم.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ عليه أوْ وعده أن يُخلِّي سبيل زينب إليه.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار فقال: «كونا ببطن يأجج حتى تمرّ بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها».
قال ابن إسحاق: وذلك بعد بَدْر بشهر.
قال عبد الله بن أبي بكر: حدّثت عن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت: لما قدم أبو العاص مكة قال لي: تجهزّي، فالحقي بأبيك.
قالت: فخرجت أتجهز فلقيتني هند بنت عتبة فقالت: يا بنت محمد؛ ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ فقلت لها: ما أردت ذلك.
فقالت: أيْ بنت عمّ، لا تفعلي، إني امرأة مُوسرة وعندي سِلَع من حاجتك، فإن أردْتَ سلْعة بعتُكَهَا، أو قَرْضًا من نفقة أقرضتك؛ فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال.
قالت: فوالله ما أُراها قالت ذلك إلا لتفعل؛ فخفتها فكتمتها وقلت: ما أريد ذلك.
فلما فرغت زينب من جهازها ارتحلت وخرج بها حَمُوها يقود بها نهارًا كنانةُ بن الربيع.
وتسامع بذلك أهل مكة، وخرج في طلبها هَبّار بن الأسود ونافع بن عبد القيس الفِهري؛ وكان أوّل من سبق إليها هبّار فروعها بالرمح وهي في هَودْجها.
وبرك كنانة ونثر نَبله، ثم أخذ قوسه وقال: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهمًا.
وأقبل أبو سفيان في أشراف قريش فقال: يا هذا، أُمسك عنّا نَبْلك حتى نكلمك؛ فوقف عليه أبو سفيان وقال: إنك لم تصنع شيئًا، خرجت بالمرأة على رءوس الناس، وقد عرفتَ مصيبتنا التي أصابتنا ببَدْر فتظن العرب وتتحدث أن هذا وَهْن منا وضعف خروجك إليه بابنته على رءوس الناس من بين أظهرنا.
ارجع بالمرأة فأقم بها أيامًا، ثم سُلَّها سَلاّ رفيقًا في الليل فألحقها بأبيها؛ فلعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك الآن من ثُؤْرة فيما أصاب منا؛ ففعل.
فلما مرّ به يومان أو ثلاثة سلَّها؛ فانطلقت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذكروا أنها قد كانت ألقت للرّوعة التي أصابتها حين روّعها هَبَّار ابن أم درهم ما في بطنها.
الثالثة قال ابن العربيّ: لما أسِر مَن أسر من المشركين تكلم قوم منهم بالإسلام ولم يمضوا فيه عزيمة ولا اعترفوا به اعترافًا جازما.
ويشبه أنهم أرادوا أن يَقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين.
قال علماؤنا: إن تكلم الكافر بالإيمان في قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمنًا.
وإذا وُجد مثل ذلك من المؤمن كان كافرًا؛ إلا ما كان من الوسوسة التي لا يقدر على دفعها فإن الله قد عفا عنها وأسقطها.
وقد بيّن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الحقيقة فقال: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} أي إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرًا {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك.
وإن كان هذا القول منهم خيرًا ويعلمه الله فيقبل منهم ذلك ويعوّضهم خيرًا مما خرج عنهم ويغفر لهم ما تقدّم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم.
وجمع خيانة خيائن، وكان يجب أن يقال: خوائن لأنه من ذوات الواو، إلا أنهم فرقوا بينه وبين جمع خائنة.
ويقال: خائن وخُوّان وخَوَنَة وخانة. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيتين:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى}
نزلت هذه الآية عقيب بدر في أسرى بدر أعلموا أنّ لهم ميلًا إلى الإسلام وأنهم يؤملونه إن فدوا ورجعوا إلى قومهم، وقيل في عباس وأصحابه قالوا للرسول: آمنا بما جئت ونشهد أنك روسل الله لننصحن لك على قومنا ومعنى {في أيديكم} أي ملكتكم كان الأيدي قابضة عليهم والصحيح أن الأسارى كانوا سبعين والقتلى سبعين كما ثبت في صحيح مسلم وهو قول ابن عباس وابن المسيب وأبي عمرو بن العلاء، وكان عليهم حين جيء بهم إلى المدينة شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال مالك: كانوا مشركين ومنهم العباس بن عبد المطلب أسره أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة وكان قصيرًا والعباس ضخم طويل فلما جاء به قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لقد أعانك عليه ملك» وعن العباس كنت مسلمًا ولكنهم استكرهوني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن يكن ما تقول حقًّا فالله يجريك فأما ظاهر أمرك فقد كنت علينا» وكان أحد الذين ضمنوا إطعام أهل بدر وخرج بالذهب لذلك، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس إفِد ابني أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث، فقال يا محمد تركتني أتكفف قريشًا ما بقيت، فقال له: «أين المال الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل»، فقال العباس: وما يدريك قال: «أخبرني به ربي»، قال العباس: فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنت عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتابًا في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب، قال العباس فأبدلني الله خيرًا من ذلك لي الآن عشرون عبدًا إنّ أدناهم ليضرب في عشرين ألفًا وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي.
وروي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مال البحرين ثمانون ألفًا فتوضّأ لصلاة الظهر وما صل حتى فرّقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول: هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة ومعنى {إنْ يعلم الله} أنْ يتبين للناس علم الله: {في قلوبكم خيرًا} أي إسلامًا كما زعمتم بأن تظهروا الإسلام فإنه سيعطيكم أفضل مما أخذ منكم بالفداء وسيغفر لكم ما اجترحتموه فإن الإسلام يحب ما قبله.
وقرأ الجمهور {من الأسرى} وابن محيصن من أسرى منكرًا وقتادة وأبو جعفر وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وأبو عمرو من السبعة من الأسارى واختلف عن الحسن وعن الجحدري، وقرأ الأعمش يثبكم خيرًا من الثواب، وقرأ الحسن وأبو حيوة وشيبة وحميد مما أخذ مبنيًا للفاعل، وإيتاء هذا الخير، قيل في الدنيا وقيل في الآخرة، وقيل فيهما والظاهر أن الضمير في وإن يريدوا على الأسرى لأنه أقرب مذكور، والخيانة هي كونهم أظهر الإسلام بعضهم ثم ردّوا إلى دينهم فقد خانوا الله لخروجهم مع المشركين، وقال الكرماني: {وإن يريدوا} يعني الأسرى خيانتك يعني نقض ما عهدوا معك فقد خانوا الله بالكفر والشكر قبل العهد، وقيل: قبل بدر فأمكن منهم أو فأمكنك منهم وهزمتهم وأسرتهم، وقال الزمخشري: {خيانتك} أي ينكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم {فقد خانوا الله من قبل} في كفرهم ونقض ما أخذ على كلّ عاقل من مشاقّه {فأمكن منهم} كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة، وقيل المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء، وقال ابن عطية: إن أخلصوا فعل بهم كذا وإن أبطنوا خيانة ما رغبوا أن يؤتمنوا عليه من العهد فلا يسرّهم ذلك ولا يسكنون إليه فإن الله بالمرصاد فهم الذين خانوه بكفرهم وتركهم النّظر في آياته وهو قد بيّنها لهم وجعل لهم إدراكًا يحصلونها به فصار ذلك كعهد متقرّر فجعل جزاؤهم على خيانتهم إياه أن مكّن منهم المؤمنين وجعلهم أسرى في أيديهم {والله عليم} بما يبطنونه من إخلاص أو خيانة {حكيم} فيما يجازيهم انتهى، وقيل الضمير في {وإن يريدوا} عائد على الذين قيل في حقهم:
{وإن جنحوا للسلم} أي وإن يريدوا خيانتك في إظهار الصّلح والجمهور على أن الضمير في {وإن يريدوا} عائد على الأسرى، وروي عن قتادة: إن هذه الآية في قصة عبد الله بن أبي سرح فإن كان قال ذلك على سبيل التمثيل فيمكن، وإن كان على سبيل أنها نزلت في ذلك فلا لأنه إنما بيّن أمره في فتح مكة وهذه نزلت عقيب بدر. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيتين:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}
اختلاف القراء في أسرى والأسارى هو هنا كما سبق في الآية قبل هذه.
خاطب الله النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا، أي قل لهؤلاء الأسرى الذين هم في أيديكم أسرتموهم يوم بدر وأخذتم منهم الفداء، {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} من حسن إيمان، وصلاح نية، وخلوص طوية {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ} من الفداء: أي يعوّضكم في هذه الدنيا رزقًا خيرًا منه، وأنفع لكم، أو في الآخرة بما يكتبه لكم من المثوبة بالأعمال الصالحة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} شأنه المغفرة لعباده والرحمة لهم.
ولما ذكر ما ذكره من العوض لمن علم في قلبه خيرًا ذكر من هو على ضدّ ذلك منهم فقال: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} بما قالوه لك بألسنتهم من أنهم قد آمنوا بك وصدّقوك، ولم يكن ذلك منهم عن عزيمة صحيحة ونية خالصة، بل هو مماكرة ومخادعة، فليس ذلك بمستبعد منهم، فإنهم قد فعلوا ما هو أعظم منه، وهو أنهم خانوا الله من قبل أن تظفر بهم، فكفروا به وقاتلوا رسوله {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} بأن نصرك عليهم في يوم بدر، فقتلت منهم من قتلت وأسرت من أسرت {والله عَلِيمٌ} بما في ضمائرهم {حَكِيمٌ} في أفعاله بهم.