فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهاجر لوط عليه السلام: {وقال إنّي مهاجر إلى ربّي إنه هو العزيز الحكيم} [العنكبوت: 26]، وهاجر موسى عليه السلام بقومه، وهاجر محمد صلى الله عليه وسلم وهاجر المسلمون بإذنه إلى الحبشة، ثم إلى المدينة يثرب، ولما استقرّ المسلمون من أهل مكّة بالمدينة غلب عليهم وصف المهاجرين وأصبحت الهجرة صفة مدح في الدين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التفضيل: «لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار» وقال للأعرابي: «ويحك إنّ شأنها شديد وقال لا هجرة بعد الفتح».
والإيواء تقدّم عند قوله تعالى: {فآواكم وأيدكم بنصره} في هذه السورة [26].
والنصر تقدّم عند قوله تعالى: {واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئًا} إلى قوله: {ولا هم ينصرون} في سورة [البقرة: 123].
والمراد بالنصر في قوله: {ونصروا} النصر الحاصل قبل الجهاد وهو نصر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأنّهم يحمونهم بما يحمون به أهلهم، ولذلك غلب على الأوس والخزرج وصف الأنصار.
واسم الإشارة في قوله: {أولئك بعضهم أولياء بعض} لإفادة الاهتمام بتمييزهم للإخبار عنهم، وللتعريض بالتعظيم لشأنهم، ولذلك لم يؤت بمثله في الإخبار عن أحوال الفرق الأخرى.
ولمّا أطلَق الله الولاية بينهم احتمل حملَها على أقصى معانيها، وإن كان موردُها في خصوص ولاية النصر، فإنّ ذلك كورُود العامّ على سبب خاص قال ابن عباس: {أولئك بعضهم أولياء بعض} يعني في الميراث جعل بين المهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام، حتّى أنزل الله قوله: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} [الأنفال: 75] أي في الميراث فنسختها، وسيأتي الكلام على ذلك.
فحملها ابن عبّاس على ما يشمل الميراث، فقال: كانوا يتوارثون بالهجرة، وكان لا يرث من آمن ولم يهاجر الذي آمن وهاجر، فنسخ الله ذلك بقوله: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} [الأنفال: 75].
وهذا قول مجاهد وعِكرمة وقتادة والحسن.
وروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود، وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وقال كثير من المفسّرين هذه الولاية هي في الموالاة والمؤازرة والمعاونة دون الميراث اعتدادًا بأنّها خاصّة بهذا الغرض، وهو قول مالك بن أنس والشافعي.
وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر وأهل المدينة، ولا تشمل هذه الآية المؤمنين غير المهاجرين والأنصار.
قال ابن عباس: كان المهاجر لا يتولّى الأعرابي ولا يرثه (وهو مؤمن) ولا يرث الأعرابي المهاجر أي ولو كان عاصبًا.
وقوله تعالى: {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء} جاء على أسلوب تقسيم الفرق فعطف كما عطفت الجمل بعده، ومع ذلك قد جعل تكملة لحكم الفرقة المذكورة قبله فصار له اعتباران، وقد وقع في المصحف مع الجملة التي قبله، آية واحدة نهايتها قوله تعالى: {والله بما تعملون بصير}.
فإن وصف الإيمان أي الإيمان بالله وحده يقابله وصف الشرك، وأنّ وصف الهجرة يقابله وصف المكث بدار الشرك، فلمّا بيّن أول الآية ما لأصحاب الوصفين: الإيمان والهجرة، من الفضل وما بينهم من الولاية انتقلت إلى بيان حال الفريق الذي يقابل أصحاب الوصفين وهو فريق ثالث، فبيّنت حكم المؤمنين الذين لم يهاجروا فأثبتت لهم وصف الإيمان، وأمرت المهاجرين والأنصار بالتبرّئى من ولايتهم حتّى يهاجروا، فلا يثبت بينهم وبين أولئك حكم التوراث ولا النصر إلاّ إذا طلبوا النصر على قوم فتنوهم في دينهم.
وفي نفي ولاية المهاجرين والأنصار لهم، مع السكوت عن كونهم أولياء للذين كفروا، دليل على أنّهم معتبرون مسلمين، ولكنّ الله أمر بمقاطعتهم حتّى يهاجروا؛ ليكون ذلك باعثًا لهم على الهجرة.
والولاية بفتح الواو في المشهور وكذلك قرأها جمهور القرّاء، وهي اسم لمصدر تولاه، وقرأها حمزة وحده بكسر الواو.
قال أبو علي: الفتح أجود هنا، لأنّ الولاية التي بكسر الواو في السلطان يعني في ولايات الحكم والإمارة.
وقال الزّجاج: قد يجوز فيها الكسر، لأنّ في تولّى بعض القوم بعضًا جنسًا من الصناعة كالقِصارة والخِياطة، وتبعه في الكشاف وأراد إبطال قول أبي علي الفارسي أنّ الفتح هنا أجود.
وما قاله أبو علي الفارسي باطل، والفتح والكسر وجهان متساويان مثل الدلالة بفتح الدال وكسرها.
والظرفية التي دلت عليها (في) من قوله تعالى: {وإن استنصروكم في الدين} ظرفية مجازية، تؤول إلى معنى التعليل، أي: طلبوا أن تنصروهم لأجل الدين، أي لرد الفتنة عنهم في دينهم إذ حاول المشركون إرجاعهم إلى دين الشرك وجب نصرهم؛ لأنّ نصرهم للدّين ليس من الولاية لهم بل هو من الولاية للدين ونصرِه، وذلك واجب عليهم سواء استنصرهم الناس أم لم يستنصروهم إذا توفّر داعي القتال، فجعل الله استنصار المسلمين الذين لم يهاجروا من جملة دواعي الجهاد.
و{عليكم النصر} من صيغ الوجوب، أي: فواجب عليكم نصرهم، وقدم الخبر وهو {عليكم} للاهتمام به.
و{أل في النصر} للعهد الذكري لأنّ {استنصروكم} يدلّ على طلب نصر والمعنى: فعليكم نصرهم.
والاستثناء في قوله: {إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} استثناء من متعلِّق النصر وهو المنصور عليهم، ووجه ذلك أنّ الميثاق يقتضي عدم قتالهم إلاّ إذا نكثوا عهدهم مع المسلمين، وعهدهم مع المسلمين لا يتعلّق إلاّ بالمسلمين المتميزين بجماعة ووطن واحد، وهم يومئذ المهاجرون والأنصار، فأمّا المسلمون الذين أسلموا ولم يهاجروا من دار الشرك فلا يتحمّل المسلمون تبعاتهم، ولا يدخلون فيما جرُّوه لأنفسهم من عداوات وإحَن، لأنّهم لم يصدروا عن رأي جماعة المسلمين، فما ينشأ بين الكفار المعاهدين للمسلمين، وبين المسلمين الباقين في دار الكفر لا يعدّ نكثًا من الكفار لعهد المسلمين، لأن من عذرهم أن يقولوا: لا نعلم حين عاهدناكم أنّ هؤلاء منكم، لأنّ الإيمان لا يُطلع عليه إلاّ بمعاشرة، وهؤلاء ظاهر حالهم مع المشركين يساكنونهم ويعاملونهم.
وقوله: {والله بما تعملون بصير} تحذير للمسلمين لئلاّ يحملهم العطف على المسلمين على أن يقاتلوا قومًا بينهم وبينهم ميثاق.
وفي هذا التحذير تنويه بشأن الوفاء بالعهد، وأنّه لا ينفضه إلاّ أمر صريح في مخالفته. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
الفئة الأولى في هذه الآية هم المهاجرون وقال فيهم الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} [الأنفال: 72].
والفئة الثانية هم الأنصار الذين قال فيهم الحق تبارك وتعالى: {والذين آوَواْ ونصروا} [الأنفال: 72].
ثم يوحد الله تعالى بين المهاجرين والأنصار فيقول عز وجل: {أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72].
وبعض من العلماء فسر قول الحق: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} على أنها تشمل الالتحام الكامل، لدرجة أنه كان يرث بعضهم بعضا أولًا- حسب قول العلماء- إلى أن نزلت آيات الإرث فألغت ذلك التوارث الذي كان بينهم.
وقول الحق تبارك وتعالى: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} [الأنفال: 75].
أبعدت هذا المعنى، وبعض العلماء قال: إن الولاية هي النصر، وهي المودة، وهي التمجيد، وهي الإكبار، فقالوا: هذه صفات الولاية، وهناك آية أخرى عن الأنصار يقول فيها الحق تبارك وتعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9].
وقد عرفنا الكثير عن الإيثار من الأنصار الذي قد بلغ مرتبة لا يتسامى إليها البشر أبدًا إلا بصدق الإيمان، ذلك أن الرجل الذي يعيش في نعمة وله صديق أو حبيب يحب أن يتحفه بمشاركته في نعمته، فإذا كان عنده سيارة مثلًا يعطيها له ليستخدمها، وإذا كان له بيت جميل قد يدعوه للإقامة فيه بعض الوقت، وإذا كان عنده ثوب جميل أو فاكهة نادرة قد يعطيه منها، إلا المرأة فهي النعمة التي يأنف الرجل أن يشاركه فيها أحد.
ولكن عندما وصل المهاجرون إلى المدينة وتركوا نساءهم في مكة، كان الأنصاري يجيء للمهاجر ويقول له: انظر إلى نسائي والتي تعجبك منهن أطلقها لتتزوجها. هذه مسألة لا يمكن أن يصنعها إلا الإيمان الكامل، وحين يصنعها الإيمان، فهذا الإيمان يجدع أنف الغيرة ويمنعها أن تتحرك، ولا يكون هناك من له أكثر من زوجة ومن هو محروم من المرأة.
وقد حدد الحق لنا ميزة كل طائفة من طوائف المؤمنين وبين أحكامهم: فالطائفة الأولى المهاجرون الذين آمنوا وتركوا دينهم الذي ألفوه، ثم هاجروا وتركوا أوطانهم وبيوتهم وأموالهم وزوجاتهم وأولادهم وجمالهم وزروعهم، ثم بعد ذلك عملوا لينفقوا على أنفسهم بمال يكتسبونه وينفقون منه أيضًا على الجهاد؛ مع أنهم تركوا أموالهم وكل ما يملكون في مكة، فكأنهم ضحوا بالمال وضحوا بالنفس. ودخلوا وهم قلة بلغت ما بلغت فلن تزيد عن ثلاثمائة ودخلوا في معركة مع الكثرة المشركة، ولم يكونوا واثقين من النصر ولكنهم كانوا يطلبون الشهادة.
إذن فهم آمنوا، هذه واحدة، وهاجروا، وهذه الثانية، وجاهدوا بأموالهم هذه الثالثة، وجاهدوا بأنفسهم هذه الرابعة، وكانوا أسوة لأنهم سبقوا إلى الإيمان والجهاد فشجعوا غيرهم على أن يؤمنوا، ولذلك فلهم أجر من سن سنة حسنة، ولهم أجر من عمل بها، وهؤلاء هم السابقون الأولون ولهم منزلة عالية وعظيمة عند الله عز وجل.
والطائفة الثانية الأنصار وهم الذين آووا هذه واحدة، ونصروا هذه الثانية، وأحبوا من هاجر إليهم، هذه الثالثة. وهؤلاء جمعهم الله في الولاية أي النصرة والمودة والتعظيم والإكبار. ثم يأتي القول من الحق تبارك وتعالى: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72].
وهؤلاء هم الطائفة الثالثة الذين آمنوا وتركوا دينهم الذي ألفوه. ولكنهم لم يهاجروا ولم يتركوا أوطانهم ولا أولادهم ولا أزواجهم ولا أموالهم، إذن فيهم خصلة تمدح وخصلة ثانية ليست في صالحهم؛ فموقفهم بين بين، ولكن لأنهم لم يهاجروا لذلك يأتي الحكم من الله: {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72].
إذن فهذه الطائفة آمنت ولم تهاجر، ولكن عدم هجرتهم لا يجعل لهم عليكم ولاية، إلا أن قوله تبارك وتعالى: {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72].
وفي هذا تشجيع لهم حتى يهاجروا، كأن تقول لابنك: ليس لك عندي مكافأة حتى تذاكر. وفي هذا تشجيع له على المذاكرة. ولم يقطع الله سبحانه وتعالى أمامهم الطريق إلى الهجرة لأنهم ربما فهموا أن الهجرة لم تكن إلا في الأفواج الأولى لأنه قال: و{الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ} أي أن الباب مفتوح.
وكلمة {هاجروا} مأخوذة من الفعل الرباعي هاجر، والاسم هجرة والفعل هاجر. وهجر غير هاجر. فقد يترك الإنسان مكانًا يقيم فيه فيكون هذا معناه هجر أي ترك وهو عن قلة وضيق تدفع إلى الهرب، إنما هاجر لابد أن يكون هناك تفاعل بين اثنين ألجأه إلى أن يهاجر، إذن فهناك عمليتان، اضطهاد الكفار للمسلمين؛ لأنهم لو لم يضطهدوهم وعاشوا في أمان يعلنون إيمانهم وإسلامهم، ما حدثت الهجرة. ولكن الاضطهاد الذي لاقاه المسلمون كان تفاعلًا أدى إلى هجرتهم، والمتنبي يقول:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ** ألا تفارقهم فالراحلون همو

أي أنك إذا تركت قومًا دون أن يكرهوك على ذلك تكون أنت الذي رحلت عنهم، ولكن المهاجرة التي قام بها المسلمون كانت بسبب أن الكفار ألجأوهم إلى ذلك، إذن هجر تكون من جهة واحدة، واسم الهجرة مأخوذ من هاجر، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول: إن الدار التي اضطهدتم فيها كان يصح أن تهجروها. ويوضح الحق سبحانه وتعالى: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} [الأنفال: 72].
أي لابد أن يكون هناك التضامن الإيماني دون الولاية الكاملة للمؤمنين الذين لم يهاجروا. فالإيمان له حقه في قوله تعالى: {وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} [الأنفال: 72].
ولكن النصر هنا مشروط بشرط آخر هو:
{إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} [الأنفال: 72].
فاحفظوا هذا الميثاق لأن نقض العهود الميثاقية ليس من تعاليم الدين الإسلامي. ولكن ما دام بينكم وبينهم ميثاق فيجب أن تتم التسوية عن طريق التفاهم. فعليكم احترام ما اتفقتم وتعاهدتم عليه. ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} [الأنفال: 72].
أي يعلم ويرى كل ما تصنعون وقد جمعهم الله سبحانه وتعالى كمؤمنين في آية واحدة وكلهم في مراتب الإيمان وهم قسم واحد. اهـ.