فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)}
هذا بيان لحكم القسم المقابل لقوله: {إن الذين آمنوا وهاجروا} [الأنفال: 72] وما عطف عليه.
والواو للتقسيم والإخبار عنهم بأنّ بعضهم أولياء بعض خبر مستعمل في مدلوله الكنائي: وهو أنّهم ليسوا بأولياء للمسلمين، لأنّ الإخبار عن ولاية بعضهم بعضًا ليس صريحة ممّا يهمّ المسلمين لولا أنّ القصد النهي عن موالاة المسلمين إيّاهم، وبقرينة قوله: {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} أي: إنْ لا تفعلوا قطع الولاية معهم، فضمير تفعلوه عائِد إلى ما في قوله: {بعضهم أولياء بعض} بتأويل: المذكور، لظهور أنْ ليس المراد تكليف المسلمين بأن ينفذوا ولاية الذين كفروا بعضهم بعضًا، لولا أنّ المقصود لازم ذلك وهو عدم موالاة المسلمين إيّاهم.
والفتنة اختلال أحوال الناس، وقد مضى القول فيها عند قوله: {حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} [البقرة: 102] وقوله: {والفتنة أشد من القتل} في سورة [البقرة: 191]، وقد تقدّم القول فيها آنفًا في هذه السورة.
والفتنة تحصل من مخالطَة المسلمين مع المشركين، لأنّ الناس كانوا قريبي عهد بالإسلام، وكانت لهم مع المشركين أواصر قرابة وولاء ومودّة ومصاهرة ومخالطة، وقد كان إسلام من أسلم مثيرًا لحنق المشركين عليه، فإذا لم ينقطع المسلمون عن موالاة المشركين يخشى على ضعفاء النفوس من المسلمين أن تجذبهم تلك الأواصر وتفتنهم قوة المشركين وعزّتهم، ويقذف بها الشيطان في نفوسهم، فيحِنّوا إلى المشركين ويعودوا إلى الكفر.
فكان إيجاب مقاطعتهم؛ لقصد قطع نفوسهم عن تذكّر تلك الصلات، وإنسائهم تلك الأحوال، بحيث لا يشاهدون إلاّ حال جماعة المسلمين، ولا يشتغلوا إلاّ بما يقوّيها، وليكونوا في مزاولتهم أمور الإسلام عن تفرّغ بال من تحسّر أو تعطّف على المشركين، فإنّ الوسائل قد يسري بعضها إلى بعض، فتفضي وسائل الرأفة والقرابة إلى وسائل الموافقة في الرأي، فلذا كان هذا حسمًا لوسائل الفتنة.
والتعريف في {الأرض} للعهد والمراد أرض المسلمين.
والفساد ضدّ الصلاح، وقد مضى عند قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة [البقرة: 30].
والكبير حقيقته العظيم الجسم.
وهو هنا مستعار للشديد القوي من نوعه مثل قوله تعالى: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} [الكهف: 5].
والمراد بالفساد هنا: ضد صلاح اجتماع الكلمة، فإنّ المسلمين إذا لم يظهروا يدا واحدة على أهل الكفر لم تظهر شوكتهم، ولأنّه قد يحدث بينهم الاختلاف من جرّاء اختلافهم في مقدار مواصلتهم للمشركين، ويرمي بعضهم بعضًا بالكفر أو النفاق، وذلك يفضي إلى تفرّق جماعتهم، وهذا فساد كبير، ولأنّ المقصود إيجاد الجامعة الإسلامية، وإنّما يظهر كمالها بالتفاف أهلها التفافًا واحدًا، وتجنّب ما يضادها، فإذا لم يقع ذلك ضعف شأن جامعتهم في المرأى وفي القوة.
وذلك فساد كبير. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)}
فالكفار- كما نعلم- وكما تحدثنا الآية الكريمة بعضهم أولياء بعض.
فإن لم يتجمع المؤمنون ليترابطوا ويكونوا على قلب رجل واحد، فالكفار يتجمعون بطبيعة كفرهم ومعاداتهم للإسلام. وإن لم يتجمع المسلمون بالترابط نجد قول الحق تحذيرًا لهم من هذا: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].
فسبحانه يريد لنا أن نعلم أننا إن لم نعش كمسلمين متحدين ننحاز لبعضنا البعض في جماعة متضامنة، وتآلف وإيمان، إن لم نفعل ذلك فسوف تكون هناك فتنة شديدة وفساد كبير. لماذا؟. لأن المؤمنين إن لم يتجمعوا ذابوا مع الكافرين، وستوجد ذبذبة واختلال في التوازن الإيماني جيلًا بعد جيل. ولو حدث مثل هذا الذوبان، سيتربى الأولاد والأطفال في مجتمع يختلط فيه الكفر بالإيمان، فيأخذوا من هذا، ويأخذوا من ذاك، فلا يتعرفون على قيم دينهم الأصيلة، وقد يضعف المسلمون أمام إغراء الدنيا فيتبعون الكافرين. ولكن إن عاش المسلمون متضامنين متعاونين تكون هناك وقاية من أمراض الكفر، وكذلك لا يجتريءعليهم خصومهم.
أما إذا لم يتجمعوا ولم يتحدوا فقد يتجرأ عليهم الخصوم ويصبحون قلة هنا، وقلة هناك وتضيع هيبتهم، ولكن إذا اتحدوا كانوا أقوياء، ليس فقط بإيمانهم، ولكن بقدرتهم الإيمانية التي تجذب غير المسلمين لأهذا الدين. وينشأ الفساد الكبير حين لا يتضامن المسلمون مع بعضهم البعض فيجتريء عليهم غير المسلمين ويصبحون أذلةً وهم أغلبيةٌ، ولا يهابهم أحد مع كثرة عددهم، ولا يكونون أسوة سلوكية. بل يكونون أسوة سيئة للإسلام. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73].
فهل هذا توجيه من الله جل جلاله لهم، أو إخبار بواقع حالهم؟
لقد طلب الحق سبحانه وتعالى من المؤمنين أن يكونوا أولياء بعض، ولكن هل قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} هو طلب للكافرين، كما هو طلب من الله للمؤمنين؟ نقول: لا، لأن الذين كفروا لا يقرأ ون كلام الله عز وجل، وإذا قرأوه لا يعملون به.
إذن فهذا إخبار بواقع كوني للكافرين. فعندما يطلب الله سبحانه وتعالى من المؤمنين أن يكونوا أولياء بعض، فهذا تشريع يطلب الله لأن يحرص عليه المؤمنون، أما إذا قال إن الكفار بعضهم أولياء بعض. فهذا إخبار بواقع كوني لهم.
إن الإسلام جاء على أهل أصنام من قريش، ويهود في المدينة هم أهل كتاب، وكذلك كان الأوس والخزرج كفارًا مثل قريش؛ ولكن الإسلام جمعهم وجعل بعضهم أولياء بعض، وكان بين الأوس والخزرج وبين اليهود قبل الإسلام عداء، وإن لم يصل إلى الحرب؛ لأنهم كانوا يحتاجون لمال اليهود وعلمهم وأشياء أخرى، وكان اليهود يستفتحون على الأوس والخزرج بمجيء النبي محمد المذكور عندهم في التوراة ويقولون لهم: أطل زمان نبي سنتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم.
إذن كان اليهود يتوعدون الكفار، لما بينهم من عداء عقدي وديني، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر اليهود برسالته والتحموا مع كفار قريش وقالوا: {هؤلاء أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلًا} [النساء: 51].
أي أن كفار قريش أهدى من الذين آمنوا بمحمد، فالولاء بين الكافرين واليهود جاء لهم بعد أن كانوا أعداء، لكنهم اتحدوا بعد ذلك ضد المؤمنين، فإذا كان هذا حدث بين الكفار واليهود؛ فيجب على المؤمنين أن يكون بعضهم أولياء بعض؛ لأنهم اجتمعوا على شيء يعاديه الجميع. وهذا ينفي مسألة الإرث التي قال بها بعض العلماء من أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض أي يرث بعضهم بعضا؛ لأنه لو كان هذا صحيحًا فكأن الله شرع للكافرين- أيضا- أن يرث بعضهم بعضًا؛ لأنه استخدم كلمة أولياء بالنسبة لهم أيضًا. والحق سبحانه وتعالى لم يشرع للكافرين.
وبعد أن بينا أقسام المؤمنين الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفنا أنهم أربعة، ذكرنا ثلاثة منهم هم المهاجرون والأنصار والذين آمنوا ولم يهاجروا، وبقي من هذه الأقسام الذين آمنوا وهاجروا بعد ذلك. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)}
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طريق أبي مالك رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل من المسلمين لنورثن ذوي القربى منا من المشركين، فنزلت: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} قال: نزلت في مواريث مشركي أهل العرب.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} يعني في المواريث {إلا تفعلوه} يقول: أن لا تأخذوا في المواريث بما أمرتكم به.
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المهاجرون بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة، والطلقاء من قريش، والعتقاء من ثقيف، بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة».
وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافرًا، ولا كافر مسلمًا، ثم قرأ {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}».
وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن يحيى بن أبي كثير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون أمانته وخلقه فانكحوه كائنًا ما كان، فإن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير». اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {إلاَّ تَفْعَلُوه} الهاءُ تعودُ إمَّا على النَّصرِ، أو الإرث، أو الميثاق، أي: حِفْظه أو على جميع ما تقدَّم ذكره، وهو معنى قول الزمخشري: ألاَّ تفعلُوا ما أمرتكُم به.
وقرأ العامة {كبير} بالباء الموحدة، وقرأ الكسائيُّ فيما حكى عنه أبو موسى الحجازي {كثير} بالثَّاءِ المثلثة، وهذا قريب ممَّا في البقرة.
والمعنى: قال ابن عبَّاسٍ: «ألاَّ تأخُذُوا في الميراثِ بِمَا أمرتُكُم بِهِ» وقال ابنُ جريجٍ: إلاَّ تتعاونُوا وتتناصَرُوا.
وقال غيرهم: إن لم تفعلوا ما أمرتكم به في هذه التَّفاصيل المذكورة تحصل فتنة في الأرض، قوة الكفر، وفساد كبير، وضعف الإسلام. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)}
قَطَعَ العصمةَ بينهم وبين المؤمنين، فالمؤمنِ للأجانبِ مُجَانِبٌ، وللأقارب مقارِبٌ. والكفَّارُ بعضهم لبعضهم، كما قيل: طيرُ السماءِ على أُلاَّفِها تقعُ. اهـ.

.تفسير الآية رقم (74):

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما تقدمت أنواع المؤمنين: المهاجر والناصر والقاعد، وذكر أحكام موالاتهم، أخذ يبين تفاوتهم في الفضل فقال: {والذين آمنوا} أي بالله وما أتى منه: {وهاجروا} أي فيه من يعاديه سابقين مع نبيه صلى الله عليه وسلم {وجاهدوا} أي بما تقدم من المال والنفس أو بأحدهما {في سبيل الله} أي الذي له صفات الكمال فبذلوا الجهد في إذلالهم كما بذل الأعداء الجهد في إذلالهم، ولم يذكر آلة الجهاد لأنها- مع تقدم ذكرها لازمة {والذين آووا} أي من هاجر إليهم {ونصروا} أي حزب الله، وأعلم بقوله: {أولئك} أي الصنفين الأولين خاصة {هم المؤمنون حقًا} أي حق الإيمان، لأنهم حققوا أيمانهم: المهاجر بالانسلاخ من كل ما يحبه من الأمور الدنيوية، والناصر من جميع أهل الكفر بإيواء أهل الله ونصرتهم.
ولما بين وصفهم، بين ما حباهم به بقوله دالًا على أن الإنسان محل النقصان، فهو- وإن اجتهد حتى كان من القسم الأعلى- لا ينفك عن مواقعة ما يحتاج فيه إلى الغفران: {لهم مغفرة} أي لزلاتهم وهفواتهم، لأن مبنى الآدمي على العجز اللازم عنه التقصير وإن اجتهد، والدين متين فلن يشاده أحد إلا غلبه؛ ولما ذكر تطهيرهم بالمغفرة، ذكر تزكيتهم بالرحمة فقال: {ورزق} أي من الغنائم وغيرها في الدنيا والآخرة {كريم} أي لا كدر فيه بوجه، لا في قطعه ولا في نقصانه ولا في شيء من شأنه. اهـ.