فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ}
بعد هجرتِكم {وجاهدوا مَعَكُمْ} في بعض مغازيكم {فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصارُ وهم الذين جاءوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ألحقهم الله تعالى بالسابقين وجعلهم منهم تفضلًا منه وترغيبًا في الإيمان والهجرة وفي توجيه الخطاب إليهم بطريق الالتفات من تشريفهم ورفعِ محلِّهم ما لا يخفى {وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} آخرَ منهم في التوارث من الأجانب {فِى كتاب الله} أي في حُكمه أو في اللوح أو في القرآن واستُدِل به على توريث ذوي الأرحام {أَنَّ الله بِكُلّ شيء عَلِيمٌ} ومن جملته ما في تعليق التوارثِ بالقرابة الدينيةِ أولًا وبالقرابة النسبيةِ آخِرًا من الحِكَم البالغة. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورةَ الأنفالِ وبراءةٌ فأنا شفيعٌ له يوم القيامة وشاهدٌ أنه بريءٌ من النفاق، وأُعطِيَ عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ منافقٍ ومنافقةٍ وكان العرشُ وحملتُه يستغفرون له أيامَ حياتِه» والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا مَعَكُمْ} أي في بعض أسفاركم، والمراد بهم قيل: المؤمنون المهاجرون من بعد صلح الحديبية وهي الهجرة الثانية، وقيل: من بعد نزول الآية، وقيل: من بعد غزوة بدر، والأصح أن المراد بهم الذين هارجوا بعد الهجرة الأولى {فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار، وفيه إشارة إلى أن السابقين هم السابقون في الشرف وأن هؤلاء دونهم فيه، ويؤيد أمر شرفهم توجيه الخطاب إليهم بطريق الالتفات، وبهذا القسم صارت أقسام المؤمنين أربعة، والتوارث إنما هو في القسمين الأولين على ما علمت؛ وزعم الطبرسي أن ذلك الحكم يثبت لهؤلاء أيضًا فيكون التوارث بين ثلاثة أقسام، وجعل معنى {مّنكُمْ} من جملتكم وحكمهم حكمكم في وجوب الموالاة والموارثة والنصرة ولم أره لأصحابنا.
{وَأُوْلُواْ الأرحام} أي ذوو القرابة {بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} آخر منهم في التوريث من الأجانب {فِي كتاب الله} أي في حكمه أو في اللوح المحفوظ، أخرج الطيالسي والطبراني وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الآية فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب، وأخرج ابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه قال: توارث المسلمون لما قدموا المدينة بالهجروة ثم نسخ ذلك بهذه الآية، واستدل بها على توريث ذوي الأرحام الذين ذكرهم الفرضيون، وذلك لأنها نسخ بها التوارث بالهجرة ولم يفرق بين العصبات وغيرهم فيدخل من لا تسمية لهم ولا تعصيب وهم هم وبها أيضًا احتج ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم على أن ذوي الأرحام أولى من مولى العتاقة، ولما سمع الحبر قال: هيهات هيهات أين ذهب؟ إنما كان المهاجرون يتوارثون دون الاعراب فنزلت، وخالفه سائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضًا على ما قيل.
وأنت تعلم أنه إذا أريد بكتاب الله تعالى آيات المواريث السابقة في سورة النساء أو حكمه سبحانه المعلوم هناك لا يبقى للاستدلال على توريث ذوي الأرحام بالآية وجه، وكذا ما قاله ابن الفرس من أنه قد يستدل بها لمن قال: إن القريب أولى بالصلاة على الميت من الوالي {إنَّ الله بِكُلّ شيء عَلِيمٌ} ومن جملته ما في تعليق التوارث بالقرابة الدينية أولًا على الوجه السابق وبالقرابة النسبية آخرًا من الحكم البالغة. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} أي: من جملتكم، أي: المهاجرون والأنصار، في استحقاق ما استحقيتموه من الموالاة والمناصرة، وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم.
وهل المراد من قوله: {مِنْ بَعْدُ} هو من بعد الهجرة الأولى، أو من بعد الحديبية. وهي الهجرة الثانية، أو من بعد نزول هذه الآية، أو من بعد يوم بدر؟ أقول:
واللفظ الكريم يعمها كلها، والتخصيص بأحدهما تخصيص بلا مخصص.
{وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ} أي: في حكمته وقسمته، أو في اللوح، أو في القرآن، لأن كتاب الله يطلق على كل منها {إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه، التي هي منتهى الصواب والحكمة والصلاح.
تنبيهات:
الأول: إن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والمناصرة عند من فسر ما تقدم من قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وما بعده بالتوارث.
أخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال: كان الرجل يحالف الرجل، ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما من الآخر، فنسخ ذلك آية الأنفال فقال: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ} الخ، إلا أن في إسناده من فيه مقال.
وأما من فسر الموالاة المتقدمة بالنصرة والمعونة والتعظيم، فيجعل هذه الآية إخبارًا منه سبحانه وتعالى بأن القرابات بعضهم أولى ببعض، وذلك أن تلك الآية، لما كانت محتملة للولاية بسبب الميراث، بين الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة، إلا ما خصه الدليل، فيكون المقصود من الآية إزالة هذا الوهم.
قال الرازي: وهذا أولى، لأن تكثير النسخ، من غير ضرورة وحاجة، لا يجوز.
الثاني: استدل بالآية من ورث ذوي الأرحام، وهم من ليسوا بعصبات، ولا ذوي سهام. قال: ويعضده حديث: «الخال وارث من لا وارث له»، وأجاب من منع توريثهم بأن المراد من الآية من ذكر الله من ذوي السهام والعصبات، ومن الحديث: «من كان وارثه الخال فلا وارث له»، ورد بأنها عامة فلا موجب للتخصيص، وبأن معنى الحديث: من كان لا وارث له غيره، لحديث: «أنا عمد من لا عماد له».
ثم إن الذين أثبتوا ميراثهم اختلفوا في أنهم هل يرثون بالقرب، أو بالتنزيل، وهل يرث القريب مع البعيد، وهل يفضل الذكر على الأنثى أو لا؟ والآية محتملة. أفاده بعض مفسري الزيدية.
قال ابن كثير: ليس المراد بقوله: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ} خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا عصبة، بل يدلون بوارث كالخالة والخال، والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم، كما يزعمه بعضهم، ويحتج بالآية ويعتقد ذلك صريحًا في المسألة، بل الحق أن الآية عامة، تشمل جميع القرابات، كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة، والحسن وقتادة وغير واحد، وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالإسم الخاص، ومن لم يورثهم يحتج بأدلة، من أقواها حديث: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث».
قالوا: فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى، فلما لم يكن كذلك، لم يكن وارثًا. انتهى.
ولا يخفى ضعف هذا الإستدلال، إذ لا يلزم من ثبوت الحق تعيين الفرض، على أن معنى الحديث أعطى كل ذي حق حقه مفصلًا ومجملًا، وقد أعطاهم حق الأولوية العامة، ووكل بيان ما يفهم من إجمال الإرث بعمومها لاستنباط الراسخين وفهمهم على قاعدة عمومات التنزيل.
وقد رأيت في هذه المسألة مقالة بديعة أوردها الحسن الصابئ في تاريخ الوزراء في أخبار وزارة أبي الحسن بن الفرات، نأثرها هنا، لأنها جمعت فأوعت، قال رحمه الله:
ونسخة ما كتب به أبو خازم إلى بدر المعتضدي جواب كتابة إليه في أمر المواريث: وصل كتاب الأمير، يذكر أنه احتيج إلى كتابي بالذي أراه واجبًا من مال المواريث لبيت المال، ومالًا أراه واجبًا منه، وتلخيص ذلك وتبيينه- وأنا أذكر للأمير الذي حضرني من الجواب في هذه المسألة والحجة فيما سأل عنه ليقف على ذلك إن شاء الله-.
الناس مختلفون في توريث الأقارب، فروي عن زيد بن ثابت أنه جعل التركة- إذا لم يكن للمتوفى من يرثه من عصبة وذي سهم- لجماعة من المسلمين وبيت مالهم، وكذلك يقول في الفصل بعد السهمان المسماة، إذا لم تكن عصبة، ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة سوى زيد بن ثابت.
وقد خالفه عُمَر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وجعلوا ما يفضل من السهمان ردًا على أصحاب السهام من القرابة، وجعلوا المال لذي الرحم إذا لم يكن وارث سواه.
والسنة تعاضد ما روي عنهم، وتخالف ما روي عن زيد بن ثابت، وتأويل القرآن يوجب ما ذهبوا إليه، وليس لأحد أن يقول في خلاف السنة والتنزيل بالرأي.
قال الله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. فصير القريب أولى من البعيد، وإلى هذا ذهب عمر وعلي وعبد الله رضي الله عنهم ومن تابعهم من الأئمة، وعليه اعتمدوا، وبه تمسكوا- والله أعلم-.
ولو كان في هذه المسألة ما يدل عليه شاهد من الكتاب والسنة، لكان الواجب تقليد الأفضل والأكثر من السابقين الأولين، وترك قبول من سواهم ممن لا يحلق بدرجتهم بسابقته.
وإذا رد أمر الناس إلى التخيير من أقاويل السلف، فهل يحيل أو يشكل على أحد أن زيدًا لا يفي علمه بعلم عمر وعلي وعبد الله؟ وإذا فضلوا في السابقة والهجرة، فمن أين وجب أن يؤخذ بما روي عن زيد بن ثابت، واطراح ما روي عنهم، وقد استدلوا مع ذلك بالكتاب فيما ذهبوا إليه، وبالسنة فيما أفتوا به؟ والرواية ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتوريث من لا فرض له في الكتاب من القرابة.
فمن ذلك ما ذكر لنا عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي عامر الهروي عن المقدام ابن معدي كرب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الخال وارث من لا وارث له يرث ماله، ويعقل عنه».
وكذلك بلغنا عن شَرِيك بن عبد الله عن ليث، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وعن ابن جريج عن عُمَر بن سلم، عن طاوس عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك.
وذكر عن عُبَاْدَة بن أبي عَبَّاد عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عُتْبَة عن محمد بن يحيا بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال: توفي ثابت بن أبي الدحداح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي: «أله فيكم نسب»؟
قال: فدفع تركته إلى ابن أخته فقد أوجب عليه السلام، بما نقلته عنه هذه الرواية، توريث من لا سهم له من القرابة مع عدم أصحاب السهمان المبينة في الكتاب.
وأعطى الجدة السدس من الميراث، ولا فرض لها، وفي ذلك الإتفاق، وفيما صير لها من السدس، دليل على أن من لا سهم له من القرابة في معناها؟ إذا بطلت السهام ولم يكن من أهلها، وأنه أولى بالميراث من الأجنبي.
والمروي عن زيد بن ثابت أنه جعل المفضل عن سهام الفرائض، وكل المال، إذا سقطت السهام بعد أهلها، لجماعة المسلمين، فجعلهم كلها وارثًا، وجعل ما يصير لهم من ذلك- في خلاف مال الفيء المصروف إلى الشحنة وأرزاق المقاتلة وإلى المصالح إذا كان ذلك- يكون فيما روي عنه للناس كافة، وعددهم لا يحصى، فغير ممكن أن يقسم ذلك فيهم وهم متفرقون في أقطار الأرض، مشارقها ومغاربها.
وإذا امتنع ذلك وخرج إلى ما ليس بممكن، فسد وثبت ما قلناه من قول أكابرالأئمة.
وقد تأول بعض المتأولين قول الله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ} فقال فيه: كان الناس يتوارثون بالحلف دون القرابة، فلما أوجب الله المواريث لأهلها من الأقارب، مُنع الحليف بما فرض من السهمان فغلطوا وصرفوا حكم الآية إلى الخصوص، فذلك غير واجب مع عدم الدليل، لأن مخرجها في السمع مخرج العموم.