فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والذي يغلب على الظن أن ثلاث عشرة آية من أولها إلى قوله تعالى: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13] نزلت متتابعة، كما سيأتي في خبر بعث علي بن أبي طالب ليؤذن بها في الموسم.
وهذا ما اتفقت عليه الروايات.
وقد قيل: إن ثلاثين آية منها، من أولها إلى قوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة: 30] أذن بها يوم الموسم، وقيل: أربعين آية: من أولها إلى قوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِي الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] أذن به في الموسم، كما سيأتي أيضا في مختلف الروايات، فالجمع بينها يغلب الظن بأن أربعين آية نزلت متتابعة، على أن نزول جميع السورة دفعة واحدة ليس ببعيد عن الصحة.
وعدد آيها، في عد أهل المدينة ومكة والشام والبصرة: مائة وثلاثون آية، وفي عدّ أهل الكوفة مائة وتسع وعشرون آية.
اتفقت الروايات على أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة تبوك، في رمضان سنة تسع، عقد العزم على أن يحج في شهر ذي الحجة من عامه ولكنه كره عن اجتهاد أو بوحي من الله مخالطة المشركين في الحج معه، وسماع تلبيتهم التي تتضمن الإشراك، أي قولهم في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.
وطوافهم عراة، وكان بينه وبين المشركين عهد لم يزل عاملا لم ينقض- والمعنى أن مقام الرسالة يربأ عن أن يسمع منكرا من الكفر ولا يغيره بيده لأن ذلك أقوى الإيمان-.
فأمسك عن الحج تلك السنة، وأمر أبا بكر الصديق على أن يحج بالمسلمين، وأمره أن يخبر المشركين بأن لا يحج بعد عامه ذلك مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، وأكثر الأقوال على أن براءة نزلت قبل خروج أبي بكر من المدينة، فكان ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم صادرا عن وحي لقوله تعالى في هذه السورة: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [بالتوبة: 17، 18]- وقوله- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} الآية.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة بسبب دم كان لنبي بكر عند خزاعة قبل البعثة بمدة.
واقتتلوا فكان ذلك نقضا للصلح.
واستصرخت خزاعة النبي صلى الله عليه وسلم فوعدهم بالنصر وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة ثم حنين ثم الطائف، وحج بالمسلمين تلك السنة سنة ثمان عتاب بن أسيد، ثم كانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من تبوك أمر أبا بكر الصديق على الحج وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة براءة ليقرأ ها على الناس ثم أردفه بعلي بن أبي طالب ليقرأ على الناس ذلك.
وقد يقع خلط في الأخبار بين قضية بعث أبي بكر الصديق ليحج بالمسلمين عوضا عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين قضية بعث علي بن أبي طالب ليؤذن في الناس بسورة براءة في تلك الحجة اشتبه به الغرضان على من أراد أن يتلبس وعلى من لبس عليه الأمر فأردنا إيقاظ البصائر لذلك.
فهذا سبب نزولها، وذكره أول أغراضها.
فافتتحت السورة بتحديد مدة العهود التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وما يتبع ذلك من حالة حرب وأمن وفي خلال مدة الحرب مدة تمكينهم من تلقي دعوة الدين وسماع القرآن.
وأتبع بأحكام الوفاء والنكث وموالاتهم.
ومنع المشركين من دخول المسجد الحرام وحضور مناسك الحج.
وإبطال مناصب الجاهلية التي كانوا يعتزون بأنهم أهلها.
وإعلان حالة الحرب بين المسلمين وبينهم.
وإعلان الحرب على أهل الكتاب من العرب حتى يعطوا الجزية، وأنهم ليسوا بعيدا من أهل الشرك وأن الجميع لا تنفعهم قوتهم ولا أموالهم.
وحرمة الأشهر الحرام.
وضبط السنة الشرعية وإبطال النسيء الذي كان عند الجاهلية.
وتحريض المسلمين على المبادرة بالإجابة إلى النفير للقتال في سبيل الله ونصر النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله ناصر نبيه وناصر الذين ينصرونه.
وتذكيرهم بنصر الله رسوله يوم حنين، وبنصره إذ أنجاه من كيد المشركين بما هيأ له من الهجرة إلى المدينة.
والإشارة إلى التجهيز بغزوة تبوك.
وذم المنافقين المتثاقلين والمعتذرين والمستأذنين في التخلف بلا عذر.
وصفات أهل النفاق من جبن وبخل وحرص على أخذ الصدقات مع أنهم ليسوا بمستحقيها.
وذكر أذاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول.
وأيمانهم الكاذبة وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف وكذبهم في عهودهم وسخريتهم بضعفاء المؤمنين.
والأمر بضرب الجزية على أهل الكتاب.
ومذمة ما أدخله الأحبار والرهبان في دينهم من العقائد الباطلة، ومن التكالب على الأموال.
وأمر الله بجهاد الكفار والمنافقين.
ونهي المؤمنين عن الاستعانة بهم في جهادهم والاستغفار لهم.
ونهي نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على موتاهم.
وضرب المثل بالأمم الماضية.
وذكر الذين اتخذوا مسجد الضرار عن سوء نية، وفضل مسجد قباء ومسجد الرسول بالمدينة.
وانتقل إلى وصف حالة الأعراب من محسنهم ومسيئهم ومهاجرهم ومتخلفهم.
وقوبلت صفات أهل الكفر والنفاق بأضدادها صفات المسلمين وذكر ما أعد لهم من الخير.
وذكر في خلال ذلك فضل أبي بكر.
وفضل المهاجرين والأنصار.
والتحريض على الصدقة والتوبة والعمل الصالح.
والجهاد وأنه فرض على الكفاية.
والتذكير بنصر الله المؤمنين يوم حنين بعد يأسهم.
والتنويه بغزوة تبوك وجيشها.
والذين تاب الله عليهم من المتخلفين عنها.
والامتنان على المسلمين بأن أرسل فيهم رسولا منهم جبله على صفات فيها كل خير لهم.
وشرع الزكاة ومصارفها والأمر بالفقه في الدين ونشر دعوة الدين.
اعلم أنه قد ترك الصحابة الذين كتبوا المصحف كتابة البسملة قبل سورة براءة كما نبهت عليه عند الكلام على سورة الفاتحة.
فجعلوا سورة براءة عقب سورة الأنفال بدون بسملة بينهما، وتردد العلماء في توجيه ذلك.
وأوضح الأقوال ما رواه الترمذي والنسائي، عن ابن عباس، قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمان الرحيم.
فقال عثمان: إن رسول الله كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول ضعوا هذه في السورة التي فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيها بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمان الرحيم.
ونشأ من هذا قول آخر: وهو أن كتبة المصاحف في زمن عثمان اختلفوا في الأنفال.
وبراءة، هل هما سورة واحدة أو هما سورتان، فتركوا فرجة فصلا بينهما مراعاة لقول من عدهما سورتين، ولم يكتبوا البسملة بينهما مراعاة لقول من جعلهما سورة واحدة، وروى أبو الشيخ، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب: أنهم إنما تركوا البسملة في أولها، لأن البسملة أمان وبشارة، وسورة براءة نزلت بنبذ العهود والسيف، فلذلك لم تبدأ بشعار الأمان، وهذا إنما يجري على قول من يجعلون البسملة آية من أول كل سورة عدا سورة براءة، ففي هذا رعي لبلاغة مقام الخطاب كما أن الخاطب المغضب يبدأ خطبته بأما بعد دون استفتاح.
وشأن العرب وإذا كان بينهم عهد فأرادوا نقضه، كتبوا إلى القوم الذين ينبذون إليهم بالعهد كتابا ولم يفتتحوه بكلمة باسمك اللهم فلما نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين بعث عليا إلى الموسم فقرأ صدر براءة ولم يبسمل جريا على عادتهم في رسائل نقض العهود.
وقال ابن العربي في الأحكام: قال مالك فيما روى عنه ابن وهب، وابن القاسم، وابن عبد الحكم: إنه لما سقط أولها، أي سورة براءة سقط بسم الله الرحمان الرحيم معه.
ويفسر كلامه ما قاله ابن عطية: روي عن مالك أنه قال: بلغنا أن سورة براءة كانت نحو سورة البقرة ثم نسخ ورفع كثير منها وفيه البسملة فلم يروا بعد أن يضعوه في غير موضعه.
وما نسبه ابن عطية إلى مالك عزاه ابن العربي إلى ابن عجلان فلعل في نسخة تفسير ابن عطية نقصا.
والذي وقفنا عليه من كلام مالك في ترك البسملة من سورة الأنفال وسورة براءة: هو ما في سماع ابن القاسم في أوائل كتاب الجامع الأول من العتبية قال مالك في أول براءة إنما ترك من مضى أن يكتبوا في أول براءة بسم الله الرحمان الرحيم، كأنه رآه من وجه الاتباع في ذلك، كانت في آخر ما نزل من القرآن.
وساق حديث ابن شهاب في سبب كتابة المصحف في زمن أبي بكر وكيف أخذ عثمان الصحف من حفصة أم المؤمنين وأرجعها إليها.
قال ابن رشد في البيان والتحصيل ما تأوله مالك من أنه إنما ترك من مضى أن يكتبوا في أول براءة بسم الله الرحمان الرحيم من وجه الاتباع، المعنى فيه والله أعلم أنه إنما ترك عثمان بن عفان ومن كان بحضرته من الصحابة المجتمعين على جمع القرآن البسملة بين سورة الأنفال وبراءة، وإن كانتا سورتين بدليل أن براءة كانت آخر ما أنزل الله من القرآن، وأن الأنفال أنزلت في بدر سنة أربع، اتباعا لما وجدوه في الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر وكانت عند حفصة.
ولم يذكر ابن رشد عن مالك قولا غير هذا. اهـ.

.قال سيد قطب:

التعريف بالسورة هذه السورة مدنية من أواخر ما نزل من القرآن- إن لم تكن هي آخر ما نزل من القرآن- ومن ثم قد تضمنت أحكاما نهائية في العلاقات بين الأمة المسلمة وسائر الأمم في الأرض؛ كما تضمنت تصنيف المجتمع المسلم ذاته، وتحديد قيمه ومقاماته، وأوضاع كل طائفة فيه وكل طبقة من طبقاته، ووصف واقع هذا المجتمع بجملته وواقع كل طائفة منه وكل طبقة وصفا دقيقا مصورا مبينا.
والسورة- بهذا الاعتبار- ذات أهمية خاصة في بيان طبيعة المنهج الحركي للإسلام ومراحله وخطواته- حين تراجع الأحكام النهائية التي تضمنتها مع الأحكام المرحلية التي جاءت في السور قبلها- وهذه المراجعة تكشف عن مدى مرونة ذلك المنهج وعن مدى حسمه كذلك. وبدون هذه المراجعة تختلط الصور والأحكام والقواعد، كما يقع كلما انتزعت الآيات التي تتضمن أحكاما مرحلية فجعلت نهائية؛ ثم أريد للآيات التي تتضمن الأحكام النهائية أن تفسر وتؤول لتطابق تلك الأحكام المرحلية؛ وبخاصة في موضوع الجهاد الإسلامي، وعلاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى. مما نرجو أن يوفقنا الله لإيضاحه وبيانه في هذا التقديم؛ وفي ثنايا استعراض النصوص القرآنية للسورة.
ومن مراجعة نصوص السورة مراجعة موضوعية؛ ومراجعة ما جاء في الروايات المأثورة عن أسباب النزول وملابساته؛ ومراجعة أحداث السيرة النبوية كذلك.. يتبين أن السورة بجملتها نزلت في العام التاسع من الهجرة.. ولكنها لم تنزل دفعة واحدة.. ومع أننا لا نملك الجزم بالمواقيت الدقيقة التي نزلت فيها مقاطع السورة في خلال العام التاسع، إلا أنه يمكن الترجيح بأنها نزلت في ثلاث مراحل.. المرحلة الأولى منها كانت قبل غزوة تبوك في شهر رجب من هذا العام. والمرحلة الثانية كانت في أثناء الاستعداد لهذه الغزوة ثم في ثناياها. والمرحلة الثالثة كانت بعد العودة منها. أما مقدمات السورة من أولها إلى نهاية الآية الثامنة والعشرين منها فقد نزلتمتأخرة في نهاية السنة التاسعة قبيل موسم الحج في ذي القعدة أو في ذي الحجة.. وهذا- على الإجمال- هو كل ما يمكن ترجيحه والاطمئنان إليه.