فصل: قال الصابوني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن ثم نراهم يقولون مثلا: إن الله سبحانه يقول: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله}. ويقول: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم}. ويقول: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}.. ويقول عن أهل الكتاب: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.
فالإسلام إذن لا يقاتل إلا الذين يقاتلون أهل دار الإسلام في داخل حدود هذه الدار أو الذين يهددونها من الخارج! وأنه قد عقد صلح الحديبية مع المشركين. وأنه قد عقد معاهدة مع يهود المدينة ومشركيها! ومعنى ذلك- في تصورهم المهزوم- أن لا علاقة للإسلام إذن بسائر البشر في أنحاء الأرض. ولا عليه أن يعبدوا ما يعبدون من دون الله. ولا عليه أن يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله في الأرض كلها ما دام هو آمنا داخل حدوده الاقليمية! وهو سوء ظن بالإسلام وسوء ظن بالله- سبحانه!- تمليه الهزيمة أمام الواقع البائس النكد الذي يواجههم؛ وأمام القوى العالمية المعادية التي لا طاقة لهم بها في اللحظة الحاضرة!
وهان الأمر لو أنهم حين يهزمون روحيا أمام هذه القوى لا يحيلون هزيمتهم إلى الإسلام ذاته؛ ولا يحملونه على ضعف واقعهم الذي جاءهم من بعدهم عن الإسلام أصلا! ولكنهم يأبون إلا أن يحملوا ضعفهم هم وهزيمتهم على دين الله القوي المتين!
إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعا معينا. وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة. وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام. ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى؛ وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين.. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدما في تحسين ظروفها؛ وفي إزالة العوائق من طريقها، حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية.
إن النصوص الأخيرة تقول في شأن المشركين:
{براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}.
وتقول في شأن أهل الكتاب:
{قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}.
فإذا كان المسلمون اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام؛ فهم- اللحظة وموقتا- غير مكلفين بتحقيقها- ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها- ولهم في الأحكام المرحلية سعة يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عندما يكونون في الحال التي يستطيعون معها تنفيذها.. ولكن عليهم ألا يلووا أعناق النصوص النهائية لتوافق أحكام النصوص المرحلية. وعليهم ألا يحملوا ضعفهم الحاضر على دين الله القوي المتين. وعليهم أن يتقوا الله في مسخ هذا الدين وإصابته بالهزال بحجة أنه دين السلم والسلام! إنه دين السلم والسلام فعلا، ولكن على أساس إنقاذ البشرية كلها من عبادة غير الله، وإدخال البشرية كافة في السلم كافة.. إنه منهج الله هذا الذي يراد البشر على الارتفاع إليه، والاستمتاع بخيره؛ وليس منهج عبد من العبيد؛ ولا مذهب مفكر من البشر؛ حتى يخجل الداعون إليه من إعلان أن هدفهم الأخير هو تحطيم كل القوى التي تقف في سبيله؛ لإطلاق الحرية للناس أفرادا في اختياره..
إنه حين تكون المذاهب التي يتبعها الناس مذاهب بشرية من صنع العبيد؛ وحين تكون الأنظمة والشرائع التي تصرف حياتهم من وضع العبيد أيضا. فإنه في هذه الحالة يصبح لكل مذهب ولكل نظام الحق في أن يعيش داخل حدوده آمنا، ما دام أنه لا يعتدي على حدود الآخرين، ويصبح من حق هذه المذاهب والأنظمة والأوضاع المختلفة أن تتعايش وألا يحاول أحدها إزالة الآخر!
فأما حين يكون هناك منهج إلهي وشريعة ربانية، ووضع العبودية فيه لله وحده؛ وتكون إلى جانبه مناهج ومذاهب وأوضاع من صنع البشر العبودية فيها للعباد.. فإن الأمر يختلف من أساسه. ويصبح من حق المنهج الإلهي أن يجتاز الحواجز البشرية؛ ويحرر البشر من العبودية للعباد؛ ويتركهم أحرارا في اختيار العقيدة التي يختارونها في ظل الدينونة لله وحده.
والمهزومون الذين يحاولون أن يلووا أعناق النصوص ليا ليخرجوا من الحرج الذي يتوهمونه في انطلاق الإسلام وراء حدوده الأولى ليحرر البشر في الأرض كلها من العبودية لغير الله. ينسون هذه الحقيقة الكبرى.. وهي أن هناك منهجا ربانيا العبودية فيه لله وحده يواجه مناهج بشرية العبودية فيها للعبيد!!!
إن للجهاد المطلق في هذا الدين مبرراته النابعة من ذات المنهج الإلهي؛ فليراجعها المهزومون الذين يحملون هزيمتهم وضعفهم على هذا الدين. لعل الله أن يرزقهم القوة من عنده؛ وأن يجعل لهم الفرقان الذي وعد به عباده المتقين!
وأخيرا فإن هذه السورة لم تكتب البسملة في أولها كبقية السور- في مصحف عثمان رضي الله عنه وهوعمدة المصاحف- وقد روى الترمذي- بإسناده- عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال- وهي من المثاني- وإلى براءة- وهي من المئين- وقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر{بسم الله الرحمن الرحيم} ووضعتموها في السبع الطوال؟ ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان وهو تتنزل عليه السور ذات العدد. فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: «ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا». وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة. وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن. وكانت قصتها شبيهة بقصتها. وخشيت أنها منها. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: {بسم الله الرحمن الرحيم}، ووضعتهما في السبع الطوال.
وهذه الرواية أقرب الروايات إلى تقديم تفسير مقبول لوضع السورتين هكذا، وعدم الفصل بينهما بسطر: (بسم الله الرحمن الرحيم). كما أنها تفيدنا في تقرير أن وضع الآيات في السور، وترتيبها في مواضعها، كان يتم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته. وأن سورا متعددة كانت تظل مفتوحة في الوقت الواحد؛ فإذا نزلت آية أو آيات في مناسبة واقعة تواجه واقعا قائما. أو تكمل حكما أو تعد له، وفق المنهج، الحركي الواقعي لهذا الدين، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توضع في موضعها من سورتها.. وبذلك كانت هناك حكمة معينة في أن تتضمن كل سورة ما تضمنته من الآيات، وحكمة معينة كذلك في ترتيبها في مواضعها من السورة.
ولقد لاحظنا- كما أثبتنا ذلك مرارا في التعريف بالسور- أن هناك شخصية خاصة لكل سورة؛ وسمات معينة تحدد ملامح هذه الشخصية. كما أن هناك جوا معينا وظلالا معينة. ثم تعبيرات بعينها في السورة الواحدة. تؤكد هذه الملامح، وتبرز تلك الشخصية! ولعل في الفقرة السابقة، وفي حديث ابن عباس قبلها، ما يفسر هذه الظاهرة الواضحة التي أثبتناها مرارا في التعريف بالسور في هذه الظلال.
والآن نكتفي بهذا القدر في التعريف المجمل بالسورة؛ وننتقل إلى مواجهة النصوص القرآنية في سياقها. وعلى الله التوفيق ومنه التيسير. اهـ.

.قال الصابوني:

سورة التوبة مدنية وآياتها تسع وعشرون ومائة.

.بين يدي السورة:

هذه السورة الكريمة من السور المدنية التي تعنى بجانب التشريع، وهي من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري عن البراء بن عازب أن آخر سورة نزلت سورة براءة، وروى الحافظ ابن كثير: أن أول هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من غزوة تبوك، وبعث أبا بكر الصديق أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيها من الأحكام نزلت في (السنة التاسعة) من الهجرة، وهي السنة التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو الروم، واشتهرت بين الغزوات النبوية بغزوة تبوك وكانت في حر شديد، وسفر بعيد، حين طابت الثمار، وأخلد الناس إلى نعيم الحياة، فكانت إبتلاء لإيمان المؤمنين، وامتحانا لصدقهم وإخلاصهم لدين الله، وتمييزا بينهم وبين المنافقين..
ولهذه السورة الكريمة هدفان أساسيان- إلى جانب الأحكام الأخرى- هما: أولا: بيان القانون الإسلامي في معاملة المشركين، وأهل الكتاب. ثانيا: إظهار ما كانت عليه النفوس حينما استنفرهم الرسول لغزو الروم.
أما بالنسبة للهدف الأول فقد عرضت السورة إلى عهود المشركين فوضعت لها حدا، ومنعت حج المشركين لبيت الله الحرام، وقطعت الولاية بينهم وبين المسلمين، ووضعت الأساس في قبول بقاء أهل الكتاب في الجزيرة العربية، وإباحة التعامل معهم، وقد كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين عهود ومواثيق، كما كان بينه وبين أهل الكتاب عهود أيضا، ولكن المشركين نقضوا العهود وتآمروا مع اليهود عدة مرات على حرب المسلمين، وخانت طوائف اليهود بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع ما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهودهم مرات ومرات، فلم يعد من الحكمة أن يبقى المسلمون متمسكين بالعهود وقد نقضها أعداؤهم، فنزلت السورة الكريمة بإلغاء تلك العهود ونبذها إليهم على وضوح وبصيرة، لأن الناكثين لا يتورعون عن الخيانة كلما سنحت لهم الفرصة، وبذلك قطع الله تعالى ما بين المسلمين والمشركين من صلات، فلا عهد، ولا صلح، ولا تعاهد، ولا سلم، ولا أمان، بعد أن منحهم الله فرصة كافية هي السياحة في الأرض (أربعة أشهر) ينطلقون فيها آمنين، ليتمكنوا من النظر والتدبر في أمرهم، ويختاروا ما يرون فيه المصلحة لهم.. وفي ذلك نزل صدر السورة الكريمة {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} الآيات. ثم تلتها الآيات في قتال الناقضين للعهود من أهل الكتاب {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} الآية، وقد تناول الحديث عنهم ما يقرب من عشرين آية، كشف الله سبحانه فيها القناع عن خفايا أهل الكتاب، وما انطوت عليه نفوسهم من خبث، ومكر، وحقد على الإسلام والمسلمين.
وعرضت السورة للهدف الثاني، وهو شرح نفسيات المسلمين حين استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو الروم، وقد تحدثت الآيات عن المتثاقلين منهم والمتخلفين، والمثبطين وكشفت الغطاء عن فتن المنافقين، باعتبار خطرهم الداهم على الإسلام والمسلمين، وفضحت أساليب نفاقهم، وألوان فتنتهم وتخذيلهم للمؤمنين، حتى لم تدع لهم سترا إلا هتكته، ولا دخيلة إلا كشفتها، وتركتهم بعد هذا الكشف والإيضاح تكاد تلمسهم أيدي المؤمنين، وقد استغرق الحديث عن المنافقين معظم السورة بدءا من قوله تعالى: {لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك..} إلى قوله تعالى: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم} ولهذا سماها بعض الصحابة الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وكشفت أسرارهم، قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن سورة براءة فقال: تلك الفاضحة، ما زال ينزل: (ومنهم) (ومنهم)، حتى خفنا ألا تدع منهم أحدا، وروي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: إنكم تسمونها سورة التوبة، وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحدا من المنافقين إلا نالت منه، وهذا هو السر في عدم وجود البسملة فيها، قال ابن عباس: سألت علي بن أبي طالب لم لم يكتب في براءة [بسم الله الرحمن الرحيم]؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وبراءة نزلت بالسيف، ليس فيها أمان، وقال سفيان بن عيينة: إنما لم تكتب البسملة في صدر هذه السورة، لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت بالمنافقين، وبالسيف، ولا أمان للمنافقين. وبالجملة فإن هذه السورة الكريمة قد تناولت الطابور الخامس المندس بين صفوف المسلمين ألا وهم (المنافقون) الذين هم أشد خطرا من المشركين، ففضحتهم وكشفت أسرارهم ومخازيهم، وظلت تقذفهم بالحمم حتى لم تبق منهم ديارا، فقد وصل بهم الكيد في التآمر على الإسلام، أن يتخذوا بيوت الله أوكارا للتخريب والتدمير، وإلقاء الفتنة بين صفوف المسلمين، في مسجدهم، الذي عرف باسم (مسجد الضرار) وقد نزل في شأنه أربع آيات في هذه السورة {والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل..} الآيات ولم يكد النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي حتى قال لأصحابه: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه» فهدموه وكفى الله الإسلام والمسلمين شرهم، وكيدهم، وخبثهم، وفضحهم إلى يوم الدين.

.التسمية:

تسمى هذه السورة بأسماء عديدة أوصلها بعض المفسرين إلى أربعة عشر اسما، قال العلامة الزمخشري: لهذه السورة عدة أسماء: (براءة، والتوبة، والمقشقشة، والمبعثرة، والمشردة، والمخزية، والفاضحة، والمثيرة، وا لحافرة، والمنكلة، والمدمدمة، وسورة العذاب) قال: لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين، وتبحث عنها، وتثيرها وتحفر عنها، وتفضحهم، وتنكل بهم، وتشردهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم. اهـ.