فصل: مطلب إنذار اللّه إلى النّاس بانتهاء معاهدات الحرب وعدم صحة عزل أبي بكر من إمارة الحج وتهديد الكفار إذا لم يؤمنوا بعد هذا الانذار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد أمهلهم اللّه تعالى مدة كافية ليختاروا الطّريق الذي يرضونه لأنفسهم لئلا يقولوا أعجلنا وضيق علينا الأجل، فقال جل قوله: {فَسِيحُوا} أيها المشركون والمنافقون {فِي الْأَرْضِ} آمنين مطمئنين على أنفسكم وأموالكم وأعراضكم وبلادكم وذراريكم وإمائكم لا يعارضكم معارض ولا ينازعكم منازع مدة {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} لا مدة لكم بعدها وهي كافية لأن تتحروا وتتذاكروا وتتشاوروا وتلموا شعئكم وتجمعوا شملكم وتتعاهدوا وتتواثقوا وتتعاقدوا بعضكم مع بعض وتعملوا كلّ ما تريدون من خير أو شر {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ} أيها الكافرون والمنافقون مهما كنتم ومهما التف إليكم ممن هو على شاكلتكم وما جمعتموه من عدة وعدد {غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} ولا فائتين أمره، فهو غالب لكم وقاهركم لأنكم عاجزون أمام عظمته خائبين مخزيين مهما كنتم {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ} أجمع ومن والاهم على كفرهم لا محالة، وناصر المؤمنين عليهم.
وفي هذه الآية إشارة إلى دعوتهم للإسلام إذ أخبرهم بمصير الباقين على كفرهم ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على أثر نزول هذه الآية العظيمة أعلن إلى جميع المعاهدين معه أن من كانت مدة عهده أقل من هذه المدة التي ضربها اللّه تعالى رفعه إليها، ومن كانت معاهدته أكثر حطه إليها، ومن كان عهده دون أجل أجله بها، وذكر لكل منهم انه بعد انقضاء هذا الأجل فكل من يبقى على كفره يكون محاربا للّه ورسوله، وإنه يقتل حيث أدرك، ويؤسر ويسبى وتنهب أمواله وأملاكه ولا ينجيه من القتل إلّا ان يسلم ويتوب من كفره ونفاقه ويخلص إيمانه للّه تعالى ويصدق رسوله عن يقين صادق طوعا ورضاء وهذه الآية العظيمة نزلت في غرة شوال السّنة التاسعة من الهجرة، والمراد بالبراءة هنا انقطاع العصمة تقول برئت من فلان إذا قطعت العصمة بينك وبينه ولم تبق بينكما علاقة ما، وتباعد أحدكما عن الآخر فلم تبق بينكما مناسبة ولا رابطة، وهي كناية عن الإنذار بالحرب ومن هنا أخذت الحكومات عادة قطع المناسبات بسحب السّفراء من الدّول المخالفة لها عند إرادة حربها قبل أن يبادروها بالحرب ثم يتقدموا لها بالإنذار.
وقيل ان الخطاب لحضرة الرّسول وأصحابه الكرام لأنه هو الذي عاقد المشركين، وأصحابه عالمون راضون بما عاهدهم به موافقون عليه والرّاضي بالشيء الموافق عليه كفاعله قال تعالى: {وَأَذانٌ} إعلام وبلاغ وإخطار وإنذار {مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} عامة وقع من اللّه تعالى وأنزله على رسوله ليذيعه عليهم {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} يوم عرفة التاسع من ذي الحجة السّنة التاسعة من الهجرة ليطلع عليها العام والخاص وليذيعه كلّ من يسمعه على بلاده وغيرهم، ولا أعظم من هذا الجمع المجمّع من أنحاء البلاد والقرى والأمصار فلا يبقى أحد إلّا وبلغه هذا الإنذار الخطير وسمي يوم عرفة هذا بيوم الحج الأكبر لأنه معظم الحج، ولأنه صادف يوم جمعة ووقع فيه هذا الإخطار العظيم، ولأن العرب كانوا يسمون العمرة حجا أصغر، وحاء عن علي كرم اللّه وجهه أن رجلا أخذ بلجام دابته فقال له ما الحج الأكبر؟ قال يومك هذا خل عن دابتي وكان يوم عرفة يوم الجمعة وعن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وقف يوم النّحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: هذا يوم الحج الأكبر.
فكان يوم عرفة يوم الجمعة الذي أنزلت فيه {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية 4 من المائدة المارة ومن ذلك اليوم قد تعورف على أنه إذا صادف يوم عرفة يوم الجمعة يكون الحج حجا أكبر، أي أكبر أجرا من غيره لتوالي الخطب فيه، ولفضل يوم الجمعة على سائر الأيام، وهو عيد المسلمين، وحج الفقراء والمساكين.

.مطلب إنذار اللّه إلى النّاس بانتهاء معاهدات الحرب وعدم صحة عزل أبي بكر من إمارة الحج وتهديد الكفار إذا لم يؤمنوا بعد هذا الانذار:

ثم بيّن تعالى هذا الأذان بقوله جل قوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} برئ منهم أيضا- على أن رسوله مرفوع- وقرأه بعضهم منصوبا عطفا على لفظة الجلالة، أي أن اللّه برئ وأن رسوله بريء منهم.
ولا تجوز قراءة الجر على زعم الجر بالتوهم أو بالمجاورة أو بالتبعية، ويكفر مستحلها لما فيها من الكفر بنسبة البراءة من اللّه تعالى لحضرة رسوله وحبيبه وصفيه ومختاره من خلقه.
حكي أن أعرابيا سمع رجلا يقرؤها فقال إن كان اللّه بريئا من رسوله فانا منه بريء فلبّبه الرّجل إلى عمر، أي مسكه من لبته، وأخذة، وحكى قراءته إلى عمر، فزجره ونهاه عن أن يعود إليها، وأمر بتعليم العربية.
وقال آخرون إن سبب الأمر بتعليم العربية قصة أبي الأسود الدّؤلي مع ابنته التي حكاها إلى سيدنا علي كرم اللّه وجهه، وانه هو الذي أمر بتعليم العربية، والكل وارد وجائز، قال تعالى: {فَإِنْ تُبْتُمْ} أيها الكفار والمنافقون بعد هذا الإنذار فآمنتم وأخلصتم {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} في الدّنيا حيث تأمنون على أنفسكم وأموالكم وأهليكم ودياركم وما ملكت أيمانكم، وفي الآخرة تأمنون من عذاب اللّه وتنالوا جنته {وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} وأعرضتم عن التوبة المدعوين إليها وبقيتم على ما أنتم عليه {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ}
ولا خالصين من عذابه ولا سابقين عقابه إذ لا مهرب منه إلّا إليه، ولا تكرار هنا لأن الأولى جاءت في معرض التهديد لمدة نقض العهد، وهذه في معرض الوعيد لمن لم يتب وأصر على عناده.
ثم خاطب رسوله بما فيه تقريعهم فقال عز قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [3] لا تطيقه قواهم ولا نجاة لهم منه، وهذه الآية جاءت على طريق التهكم، لأن البشارة عادة تكون في النّعم لا في النّقم على حد قولهم انهم قوم تحيتهم الضّرب وإكرامهم الشّتم.
وقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} الآية: 5 من سورة الدّخان تهكما به وتقريعا.
واعلم أن ابتداء هذا الأجل الذي أشرنا إليه آنفا على القول الصحيح وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، لأن يوم التبليغ لا يحسب لأن يوم النّزول الذي هو غرة شوال وانتهاؤها اليوم العاشر من ربيع الآخر السّنة العاشرة من الهجرة، لأن العبرة بتاريخ التبليغ بالنسبة للمبلغين، وكان المبلغ لهذا سيدنا علي كرم اللّه وجهه، وذلك أن عادة العرب المطرّدة بينهم أن لا يبرم العهد ولا ينقضه إلا المعاهد نفسه أو واحد من أهل بيته، ولما كان حضرة الرّسول لم يحج في السّنة التاسعة وقد أمّر على الحج سيدنا أبا بكر رضي اللّه عنه وقد أمر اللّه رسوله بإبلاغ ما جاء في أول هذه السّورة للناس، ولم يمكن إجراء هذا التبليغ من قبل الصّديق أمير الحج للسبب المذكور، أرسل ابن عمه عليا كرم اللّه وجهه ليتلو أوائل هذه السورة على النّاس نيابة عنه في الموقف، ليطلع عليه كلّ النّاس، والشّاهد يعلم الغائب روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة ان أبا بكر بعثه في الحجة التي أمّره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع في رهط ليؤذنوا في النّاس يوم النّحر أن لا يحج بعد اليوم مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان! وفي رواية ثم أردفه النّبي صلّى اللّه عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة فأذن معنا في أهل منى ببراءة أن لا يحج بالبيت بعد اليوم مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان! ولا يفهم من هذا الحديث عزل أبي بكر عن الإمارة بل دوامها بدليل إرساله أبا هريرة يؤذن في النّاس في رهط معه، وما كان إرسال علي كرم اللّه وجهه من قبل حضرة الرّسول بعد إلّا بسبب ما تقدم لأن العهد لا يقرّره إلّا سيد القبيلة ولا ينقضه إلّا هو ولا ينوب عنه في التبليغ به إلّا رجل منه فلو أن أبا بكر مبلغ ما يتعلق بنقض العهود من هذه السّورة لأنكره النّاس ولن يعبئوا به لأنهم يقولون هذا مخالف لما نعهده ونعرفه فلا نعتبره، لأنهم كانوا ينقيدون بعوائدهم كقانون لا يخرمونها أبدا، ومما يؤيد دوام إمارة أبي بكر صلاة سيدنا علي خلفه في الموسم، فلو أنه جاء بدلا منه لصلى هو بالناس، لذلك فإن كلّ ما جاء في قضية عزل أبي بكر عن إمارة الحج لا صحة له البتة، إذ لا دليل على إبقاء إمارته أقوى من الصلاة، واعلم انه لا تكرار في الأذانين، لأن الأوّل يفيد براءة اللّه ورسوله من عهود المشركين وهو إعلان بثبوت البراءة أي قول اللّه تعالى: {بَراءَةٌ} إلخ هو الأذان الأوّل.
والأذان الثاني وهو قوله تعالى: {وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ} يفيد الإخبار بوجوب الإعلام في براءة اللّه ورسوله منهم، ولذلك علقه بالناس أي إذا أعرضوا وأصروا على ما هم عليه فإنه لا يتولاهم ولا ينصرهم بل يهلكهم ويخذلهم والتكرار لا يسمى تكرارا إلّا إذا كان الثاني عين الأوّل باللفظ والمعنى والمغزى، فإذا كان كلّ يرمي لشيء آخر لا يسمى تكرارا قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هذا استثناء من المدة المضروبة يعني أن اللّه تعالى يبرأ من عهود المشركين كلها بعد تلك المدة إلّا من عاهدهم الرّسول وهم بنو حمزة، حي من كنانة {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا} من شروط العهد الذي عاهدتموهم عليه {وَلَمْ يُظاهِرُوا} يعاونوا ويمالئوا {عَلَيْكُمْ أَحَدًا} من أعدائكم فهؤلاء إذا وفوالكم بالشروط فضموا إليها هذان الشّرطان {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ} التي ضربتموها لهم ولا تجروهم مجرى الكافرين والمنافقين الّذين نكثوا عهودهم وأخلوا شروطها إذ لا يقاس الموفي بالغادر ولا يعامل معاملته، واتّقوا اللّه في ذلك {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [4] مخالفته الموفين بعهودهم المحافظين على أقوالهم، وإنما خصّ اللّه تعالى هذه الطّائفة ليعلّم النّاس ويحذرهم من أن يسووا بين النّاقض عهده النّاكث به والقائم به المحافظ عليه، وما عام إلّا وخصص: قال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} الأربعة المضروبة في هذه المدة، وسماها حرما وليس كلها حرم لحرمة نقض العهد فيها ولأنها صارت محرمة بتخصيصها لانتهاء عهود المعاهدين حتى صار النّاس يعدون أيامها عدا لما يترتب على انقضائها من أمور عظيمة، ومن قال أنها الأشهر الحرم الأربعة المعهودة المعلومة فلا دليل يؤيد قوله، إلا إذا أراد أن أولها عشرون من ذي الحجة والمحرم كله من الأشهر الحرم وآخرها هو ربيع الأوّل وعشر من ربيع الثاني أدخلها معها فسمّاها كلها حرما تسامحا لأن صفر والرّبيعين ليسوا من الحرم، أما إذا أراد بها غرة شوال الذي كان بها نزول الآية فقد أخطأ أيضا ولم يصب الهدف إذ ليس شوال من الأشهر الحرم، ورجب لم يدخل فيها إذ لا عبرة لتاريخ النّزول، لأن النّاس لا يعلمون به، وإنما العبرة لتاريخ التبليغ، بدليل قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} أي بعد الإنذار الكائن في التاسع من ذي الحجة، تأمل.
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} في الحل والحرم قاتلوا أولم يقاتلوا لأنهم أنذروا وأمهلوا لكي يؤمنوا ولمّا لم يفعلوا فلم تبق لهم حرمة {وَخُذُوهُمْ} أسرى واسلبوا أموالهم: {وَاحْصُرُوهُمْ} في قراهم وديارهم وضيقوا عليهم في ملاجئهم وامنعوهم من الفرار من مكة حتى يؤمنوا أو يهلكوا {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} ممر يمرون به أو مجاز يجتازونه أو محل يختفون فيه أو مغارات يختبئون بها أو سريا ينفذون منه لمحل يقبهم أو غيره، فضيقوا عليهم الطّرق كافة حتى يؤخذوا من كلّ جهة فيضطروا إلى الإيمان قسرا {فَإِنْ تابُوا} من شركهم وآمنوا إيمانا صحيحا {وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} اتركوهم لأنهم صاروا مثلكم لا فضل لكم عليهم إلّا بقدم الإسلام وزيادة التقوى {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} كثير المغفرة لما سبق منهم بعد أن تابوا وأنابوا {رَحِيمٌ} [5] بعباده لا تضيق رحمته التي وسعت كلّ شيء عمن التجأ إلى بابه ورجع إليه من خلقه بل يقبل توبتهم ويرفع القتل والسّبي عنهم ما لم يكونوا في حالة يأس من الحياة.
قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ} استأمنك يا سيد الرّسل ودخل في جوارك وأمانك بعد انسلاخ المدة المذكورة أو في أثنائها {فَأَجِرْهُ} آمنه على نفسه وماله وأهله ولا تقتله {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} ويعرف ما له من الثواب إن آمن وما عليه من العقاب إن بقي على كفره، فإن آمن بعد ذلك فقد نجا، وإلّا فلا سبيل لك عليه حالة كونه في جوارك وما دام في أمانك {ثُمَّ} بعد أن تيأس من إيمانه لا تقتله أيضا بل {أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} دار قومه التي يأمن فيها بأن توصله إليها بأمانتك وتحت خفارتك كما أتاك آمنا لئلا تنسب إلى الغدر أو التغرير أو غيره لأنه بعد أن أصر على كفره فإن تركته وشأنه يخشى عليه من أن يفتك به قبل وصوله أهله من قبل أصحابك بحجة انه كافر لا أمان له فتخفر ذمتك واعلم ان قبول المستأمن وإبلاغه إلى المحل الذي جاء منه أو الذي يأمن فيه على نفسه وماله وأهله واجب على المستأمن والمجير وكلّ من يعقل ويعلم واجبات نفسه وغيره ويحفظ سمعته وسيرته {ذلِكَ} الأمر بأمن المستأمنين على كفرهم {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} ما يراد منهم في الآخرة ولا ما يكلفونه في الدّنيا فهم محتاجون إلى الإرشاد، فإذا نصحوا وتبينت لهم معالم الدّين ولم يقبلوا فتكون عليهم الحجة، ومن أنذر فقد اعذر وهذه الآية عامة محكمة واجب العمل بها إلى يوم القيامة.
قال تعالى على سبيل التعجب: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} وهم غير مؤمنين بها أي لا يكون لهؤلاء عهد عندهما البتة لأنهم ينقضون عهودهم وينكثون مواثيقهم ويخلفون وعودهم ويغدرون من استأمنهم، وهكذا شأن كلّ من لا يؤمن باليوم الآخر، لأن من يؤمن به يخاف الحساب والعقاب فيفي بوعده وعهده.
ثم استثنى جل جلاله من ذلك طائفة خاصة بينها بقوله عز قوله: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} ولم ينكثوا كبني حمزة فهؤلاء تربصوا بهم لانقضاء عهدهم واتركوهم الآن {فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ} على العهد ووفوا لكم بشروطه {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} على الوفاء وإياكم أن تنكثوا بهم وبكل معاهد لأن المحافظة على المواثيق من سمات المؤمنين وواجباتهم، واتقوا اللّه في عهودكم كلها واحذروه من أن تنقضوا شيئا منها {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [7] نقض العهود وخلف الوعود والموفين بها والعهد هو العقد الموثق باليمين، والبراءة خاصة بالمعاهدين، والأذان المذكور بالآيتين لفظه عام فيهم وفي غيرهم قال تعالى: {كَيْفَ} يكون للمشركين عهد وهم إن يظفروا بكم {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} بعد توكيد الأيمان {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا} حلفا وقرابة {وَلا ذِمَّةً} عهدا وميثاقا {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ} بكثرة ما يحلفون لكم وما يعطونكم من عهد ووعد وميثاق {وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ} عن الوفاء بشيء من ذلك {وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ} [8] خارجون عن الطّاعة لا مروءة تمنعهم عن الكذب ولا شمائل تردعهم عن النّكث ولا شهامة تردهم عن الغدر، وهكذا شأن الكافرين إذ لا يتقيدون بشيء من ذلك لعدم خوف العاقبة من اللّه وعدم الحياء من النّاس، ولم يقل تعالى قوله كلهم فاسقون لأن منهم من يوفي بعهده ووعده ويؤمن من غدره {اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} من متاع الدّنيا الفاني وأعرضوا عن ثواب اللّه الباقي {فَصَدُّوا} أنفسهم وغيرهم {عَنْ سَبِيلِهِ} المستقيم وطريقه القويم وشريعته العادلة {إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} [9] من أنواع الكفر وفنون صرف النّاس عن الإيمان، وكيف لا تقاتلون هؤلاء وهم أبدا {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} ولا تكرار هنا أيضا، لأن الأولى مقيدة بقوله فيكم بما يفيد الخصوص، وهذه عامة مطلقة في كلّ مؤمن قدروا عليه فإنهم يقتلونه ويسلبونه ويستحلون ماله ودمه، إذ لا دين يزجرهم عن ذلك، فإذا ظفرتم بهم فلا تبقوا عليهم، كما إنهم إذا ظفروا بكم لم يبقوا عليكم، ولا تظنوا أن هذا اعتداء منكم عليهم، لأنكم أنذرتموهم ونصحتموهم وصبرتم عليهم حينما كانوا يؤذونكم ولم يرتدعوا ولم يرأفوا بكم {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [10] عليكم الّذين بدؤوكم بنقض العهود ومع هذا {فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ} اقبلوهم لأنهم صاروا مثلكم، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فأنتم وإياهم بالحقوق سواء، لأنهم صاروا إخوانكم {فِي الدِّينِ} الجامع بينكم، ولا تكرار في هذه الآية أيضا لأن الأولى سيقت إثر الأمر بالقتل وشبهه فكان جوابها أمرا وهو {فَخَلُّوا} وهذه الآية سيقت بعد الحكم عليهم بالاعتداء فكان جوابها حكما وهو {فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ} لتساويهم في أحكامه وهذه أجلب لقلوبهم من تلك للفرق الظّاهر بين تخلية سبيلهم وبين إثبات الأخوة الدّينية لهم، وفيها دلالة على تحريم دماء أهل القبلة {وَنُفَصِّلُ الْآياتِ} الدالات على أحكامنا في خلقنا ونبيّنها بيانا كافيا ونوضحها توضيحا شافيا {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [11] معانيها ويفقهون مداركها.