فصل: مطلب أسباب ضرب الجزية على أهل الكتاب وما هي ومعاملتهم بالحسنى وبيان مثالبهم التي يفعلونها ويأمرون بها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الحكم الشّرعي:
لا يجوز لكافر أن يدخل حرم مكة المشرفة ذميا كان أو مستأمنا، ويجب على الإمام إذا أتاه رسول كافر من دار الكفر أن يخرج هو إليه لا أن يدخله الحرم، ولهذا فإن جميع سفراء الدّول قد خصص لإقامتهم محلات في جدة خلافا للدول الأخرى فإنهم يسكنون في العاصمة نفسها، وبما أن عاصمة الحجاز مكة المكرمة وقد حرمها اللّه على الكفرة جعلت إقامتهم في جدة أما بقية الأراضي الحجازية مما بين اليمامة ونجد واليمن والمدينة المنورة وما بين جبلي طي وطريق العراق فيجوز لهم دخولها بالإذن على أن لا يقيموا بها أكثر من ثلاثة أيّام.
ويدخل الحرم في المسجد الحرام لأن دخولهم فيه قريب من نفس المسجد، يؤيد هذا قوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} وهو إنما أسري به من بيت أم هانيء، وهو من الحرم فأطلق عليه لفظ المسجد لأن مكة حكمه، وأما بقية البلاد الإسلامية السّائرة فللكافر الإقامة فيها بعهد وأمان وزمة ولا يدخلون المساجد إلّا بإذن من أمير مسلم، روى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول لأخرجن اليهود والنّصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلّا مسلما.
زاد في رواية لغير مسلم، وأوصى فقال:
أخرجوا من المشركين من جزيرة العرب قال تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} مواتية غير ممتنعة وقوة وقهر وغلب، يقال لكل من أعطى شيئا كرها عن غير طيب نفس أعطى عن يد {وَهُمْ صاغِرُونَ} [29] أذلاء مهانون.
الحكم الشّرعي:
تؤخذ الجزية من أهل الكتاب عامة ومن مشركي العجم، أما العرب المشركون فالإيمان أو السّيف، إذ لا تقبل منهم الجزية إذا أرادوا البقاء على كفرهم، وتؤخذ من المجوس، أخرج مالك عن جعد بن محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم، فقال عبد الرّحمن ابن عوف أشهد أني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب.

.مطلب أسباب ضرب الجزية على أهل الكتاب وما هي ومعاملتهم بالحسنى وبيان مثالبهم التي يفعلونها ويأمرون بها:

ومن قال إنها لا تؤخذ من أهل الكتاب العرب فقوله رد عليه.
وبما رواه أنس أن النّبي صلّى اللّه عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر رومة، فأخذه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية، أخرجه أبو داود، وهو رجل من العرب من غسان وأقل الجزية من كلّ حالم أي محتلم عاقل دينار في كلّ سنة أخرجه أبو داود.
وعن معاذ بن جبل عن رسول اللّه لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كلّ حالم دينارا أو عدله من المعاقربة (ثياب تكون في اليمن) وأكثرها على الغني أربعة دنانير وعلى المتوسط اثنان، والفقير واحد فقط، وأخرج مالك في الموطأ عن أسلم أن عمر ضرب على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهما، ومع ذلك شرط عليهم أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيّام لمن يؤمهم أو يمرّ بهم في غزوة أو تجارة أو زيارة أو غيرها.
وليس القصد من أخذ الجزية إقرارهم على دينهم بل حقن دمائهم وإمانة لهم لعلهم يرغبون في الحريّه الكاملة فيؤمنون، وعليه فيجب على المسلمين كافة أن يعاملوهم معاملة حسنة ويحفظوا مالهم وعرضهم وذراريهم وخدمهم وأن يروهم كلّ ما يأمر به الإسلام من محاسن الأخلاق وعلو الآداب واللّين والعطف والرّقة أملا بدخولهم في الإسلام عن رغبة وشوق واختيار لا عن كراهية وبغض واضطرار، لأنهم أهل كتاب فلربما يعيدون نظرهم إلى كتبهم فيفكرون فيها ويدققون ما ترمي إليه من صدق نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وصحة دينه الذي تشير إليه كتبهم، وإنما أمهلوا فلم يقاتلهم الرّسول ولم يأمر بقتالهم وقد قبل منهم الجزية لهذه الغاية وحرمة لآبائهم الّذين انقرضوا على شريعة التوراة والإنجيل الصّحيحين، لذلك علينا معشر المؤمنين أن نقوم بواجبهم ونخترم حقوقهم ونريهم مكارم الأخلاق ومحاسن هذا الدين الحنيف ونعاملهم كمعاملة بعضنا لبعض بل أحسن، وقد أمرنا اللّه بالآداب وحسن الخلق الذي مدح رسوله عليه في كتابه ليركن إليه النّاس عن طيب نفس وليتعشّق النّاس دينه الحق وقوله الصّدق الذي أمر اللّه النّاس باتباعه وأمر الأنبياء وأتباعهم باتباعه، ولهذا أمر اللّه تعالى رسوله بعدم قتالهم إذا أرادوا الجزية وتركهم لعلهم يتذكرون في هذا.
ولما أمر اللّه تعالى بقتال طوائف من اليهود والنّصارى الموصوفين بالآية المتقدمة ليؤمنوا أو بضرب عليهم الجزية ذكر وجه كفرهم بقوله عز قوله: {وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وحاشا اللّه أن يكون له ولد، وإنما قالوا ما قالوه افتراء من تلقاء أنفسهم كما قالت طائفة من العرب بهتا الملائكة بنات اللّه، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا، فكل من له لبّ سليم أو عقل كامل لا يقول هذا سواء أكان من النّصارى أو اليهود أو غيرهم، وإنما تقول الجهلة الّذين لا فطنة لهم بسبب ما أتاهم اللّه من المعجزات التي لا يتصور صدورها من البشر، ولم يعلموا أن اللّه يظهر على يد من يشاء من عباده الخوارق، أما ما جاء في الإنجيل بلفظ الأب فلا يراد منه معنى الأبوة التي مصدرها التوالد، بل المراد منه المربّي، فهو جل جلاله بهذا المعنى أب للخلق كافة، قال الفيلسوف الشّهير (رينان) إن عيسى عليه السّلام عند ما قال أبي عن اللّه لم يرد أن اللّه أبوه حقا، وإنما عنى بذلك أنه كالأب في الحنان والعطف.
بل هو أشد حنانا وعطفا على خلقه من آبائهم.
فانظر أيها المدرك قول هذا، واعلم أن القائلين بأن عيسى ابن اللّه من أهل الكتاب وأراد النّبوة نفسها بمعنى الوالد فهو في عداد المشركين، إذ لا فرق بين من يعبد الوثن الجامد وبين من يعبد الإنسان أو الملك أو الكوكب، راجع تفسير الآية [259] من البقرة والآية [5] من آل عمران المارتين تقف على سبب اتخاذ عزير وعيسى ابنين للّه، تعالى عن ذلك، وقد جاء في رواية عطية الصّوفي عن ابن عباس أنه قال إنما قالت اليهود ذلك لأن عزيرا كان فيهم وكانت التوراة عندهم فأضاعوها وعملوا بغير الحق فرفع اللّه عنهم التابوت وأنساهم التوراة، فقال عزير عليه السّلام قد ردّ اللّه إلي التوراة فعلمهم إياها، فلما نزل إليهم التابوت عرضوا ما تعلموه من عزير عليها، فوجدوه موافقا لما في التابوت حرفيّا، فقالوا ما أوتي هذا إلّا لكونه ابنا للّه، وقد أماته اللّه مئة عام ثم أحياه، راجع الآية المذكورة في البقرة، وأما النّصارى فبقوا بعد رفع عيسى إحدى وثمانين سنة يصلون ويصومون، فاختلفوا مع اليهود وقتل برلص اليهودي من النّصارى ما قتل، وقال اليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفره والنّار مصيرنا فعرقب فرسه وندم وتنصر وقال: قد نوديت إلى اللّه قبل توبتي، فأحبه النّصارى، وعمد إلى أحدهم المسمى نسطورا فعلمه أن عيسى ومريم والإله ثلاثة، وعلم منهم رجلا اسمه يعقوب بأن عيسى ليس بإنسان بل هو ابن اللّه، وعلم آخر اسمه ملكان بأن عيسى هو اللّه، وكان تعلم الإنجيل وجمع الثلاثة المذكورين، وقال لهم إني رأيت عيسى في المنام وقد رضي عني وأني سأذبح نفسي تقربا إليه، واذهبوا أنتم فادعوا النّاس إلى ما علمتكم، وذبح نفسه فذهب لثلاثة المذكورون إلى بيت المقدس وإلى الرّوم وكلّ منهم دعا النّاس إلى ما أمر به وتعلم من بولص المذكور لعنه اللّه كيف اختلق هذه الفرية من نفسه وضحى بنفسه للتمسك به وإكفار النّاس، وهو أول من يدخل في قوله تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيمة ومن أوزار الّذين يضلّونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون} الآية [25] من سورة النّحل وراجع الآيات 19، 75، 76 من سورة المائدة المارة، قال تعالى: {ذلِكَ} القول الذي ابتدعوه واختلفوه {قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ} غير مستند إلى نقل ولا منتم إلى علم مجرد عن الحقيقة افتروه على الله: {يُضاهِؤُنَ} بتقولهم هذا ويشابهون به {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} بأن يوافقوا ما قالوه من أن الملائكة بنات اللّه قال تعالى في حق هؤلاء العرب: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ} [الآية 57] من سورة النحل {قاتَلَهُمُ اللَّهُ} جميعا {أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)} يصرفون الحق إلى الباطل والصّدق إلى الكذب وفي هذه الجملة معنى التعجب وهو راجع إلى الخلق لأن الخالق لا يتعجب من شيء.
واعلم أن ما ذاع على ألسنة النّاس في قولهم أي شيء خلقه اللّه وتعجب منه ويريدون الإبل في قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الآية 18] من سورة الغاشية فهو من هذا القبيل لا كما يزعم العوام تأمل.
واعلم أن هؤلاء اليهود والنّصارى {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} لأنهم أطاعوهم في معصيته واتبعوهم فيما يحللون ويحرمون حسب شهواتهم وأهوائهم فكأنهم عبدوهم {وَ} أن النّصارى اتخذوا {الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} إلها لاعتقادهم البنوة فيه والحلول في ذات اللّه كما اتخذت اليهود عزيرا ابنا للّه {وَما أُمِرُوا} من قبل أنبيائهم ولا في كتبهم المنزلة عليهم من الله: {إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهًا واحِدًا} وهو الإله العظيم الذي {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [31] به من خلقه وإنهم بدّلوا وغيروا أحكام اللّه المنزلة إليهم على لسان رسلهم اتباعا لقادتهم ورؤسائهم قال عبد اللّه بن المبارك:
وهل بدّل الدّين إلّا الملوك ** وأحبار سوء ورهبانها

ولولا هؤلاء الكذابون المشغوفون يحب الرّياسة لما وقع شيء من ذلك ولكن إرادة اللّه قضت به أولا فلا يقع شيء في كونه إلّا بإرادته فآمن من آمن بحسن يقينه وكفر من كفر بسوء حاله طبق ما هو مقدر في علمه {يُرِيدُونَ} هؤلاء بعملهم هذا {أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ} دينه المنير المؤيد بالبراهين الواضحة والحجج الدّامغة والدلائل السّاطعة التي هي في شدة بيانها وكمال ظهورها كالنور {بِأَفْواهِهِمْ} بمجرد أقوالهم الكاذبة الصّادرة عن غير رويّة وتفكر ونظر {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ} [3] ذلك الإتمام فإنه سيتمه رغم أنوفهم وهذا وعد قد أنجزه اللّه لرسوله حال حياته وقد أظهر دينه وأعلاه على سائر الأديان وهو حتى الآن قامع رءوس الكافرين والمبتدعين بحقه وصدقه ولا يزال إن شاء اللّه كذلك حتى يرث الأرض ومن عليها قال صلّى اللّه عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى} أي القرآن الهادي للناس أجمع لو اتبعوا أحكامه وأوامر المنزل عليه وعملوا فيهما {وَدِينِ الْحَقِّ} الإسلام الذي لا أحق منه قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [الآية 85] من آل عمران المارة: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [33] وسيتم هذا عند نزول سيدنا عيسى عليه السّلام، إذ لا يبقى دين في زمنه غير دين الإسلام، ولا يبقى على وجه الأرض إلّا مسلم وكافر، ثم ينهار الإسلام أولا بأول حتى لا يبقى من يقول اللّه، فتقوم السّاعة على شرار الخلق وكلهم إذ ذاك أشرار، فإنا للّه وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلّا باللّه.
روي عن أبي هريرة في حديث نزول عيسى قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ويهلك في زمنه الملل كلها إلّا الإسلام.
يدل على هذا قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [الآية 15]8 من سورة النّساء المارة، ونظير هاتين الآيتين الآيتان 9 و10 من سورة الصّف المارة، وقد عدّد اللّه تعالى في هذه الآيات مثالب بني إسرائيل، وسبق أن بينا قسما منها في الآيات من 40- 60 من سورة البقرة في معرض تعداد النّعم عليهم، وكذلك في الآيات ص62- 123 ومن 130- 147 من البقرة أيضا وآيات أخر منها ومن غيرها، مما يدل على أنهم لم يقابلوا نعم اللّه التي أسبغها عليهم بالشكر بل بالإنكار والجحود، وأوامره بالعناد والكفر، حتى توصلوا إلى قتل أنبيائهم قاتلهم اللّه وأخزاهم في الدّنيا والآخرة.