فصل: مطلب مثالب المنافقين ومصارف الصّدقات وسبب وجوبها وتحريم السّؤال:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أي لا يرجع بشيء أصلا.
وهذه الآية تشير إلى وجوب الجهاد في كل وقت وحال لأنها تنصّ على أن التشاغل عنه منكر، ولذلك عابهم اللّه عليه.
ثم ذكر ما يترتب على عدم إجابتهم والمسارعة للجهاد فقال: {إِلَّا} إن لم {تَنْفِرُوا} إلى ما استنصركم إليه رسولكم وتخرجوا حالا إلى جهاد عدوكم الذي يوجهكم اليه وتتقاعسوا عن تلبية أمره لقتال أعداء اللّه أعدائكم الحريصين على استئصالكم {يُعَذِّبْكُمْ} ربكم الذي أمر نبيكم بذلك إرادة عزكم وإكرامكم {عَذابًا أَلِيمًا} في الدّنيا بالذل والهوان والخزي والعار، وفي الآخرة بالعذاب الأليم وإحراقكم بنار الجحيم، ويوشك أن يدمركم حال مخالفته {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} يلبون دعوته ويسرعون لما أمرهم به دون توان رهبة من اللّه ورسوله ورغبة في إعلاء كلمته وإهلاك أعدائه وانتشار دعوته وإعزاز المسلمين وإذلال الكافرين.
ونظير هذه الآية في المعنى الآية الأخيرة من سورة محمد عليه الصلاة والسّلام والآية الثالثة من سورة الجمعة المارتين {وَلا تَضُرُّوهُ} أيها المخالفون أمره {شَيْئًا} أبدا بعدم تلبيتكم أمره كما أنه لا يضرّه شيء إذا أبادكم وأتى بغيركم بل يعود الضّرر كله عليكم {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [39] لا يعجزه شيء لأن إهلاككم وإحداث قوم غيركم يكون بكلمة كن ليس إلا.
ثم أكد تعالى استغناء رسوله عنهم إذا شاء بقوله: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ} حين يستنصركم لما به صلاحكم ونجاحكم {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} من قبل وأغناه عنكم في حادثة بدر والأحزاب وغيرهما، وهو قادر الآن أيضا على نصره {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} حين عزموا على قتله أو إخراجه من مكة أو حبسه فأذن اللّه له بالخروج من بينهم وأعمى أبصار أعدائه عن أن يروه حين خروجه وهم على بابه بانتصاره مصلتين سيوفهم لقتله حين خروجه، وحتى عليهم التراب ولم يروه وأعمى الّذين لحقوه من أن يدركوه وأعجزهم من أن يمسكوه حينما كان {ثانِيَ اثْنَيْنِ} هو وصاحبه أبو بكر فقط لا ثالث لهما إلّا اللّه، وقد حفظه ورعاه {إِذْ هُما فِي الْغارِ} الواقع في الجبل الكائن عن يمين مكة على مسيرة ثلاث فراسخ وكان يسمع قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ} أبي بكر رضي اللّه عنه الذي من أنكر صحبته فقد كفر لجحده ما نص اللّه عليه في كتابه.
روى البخاري ومسلم عن أبي بكر قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على روسنا، فقلت يا رسول اللّه لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما؟ وقد بقينا فيه ثلاثا بحمى اللّه فقط وخفارة ملائكة الكرام.
ولما ضاق ذرع أبي بكر أنزل اللّه على رسوله قوله جل قوله يا محمد قل لصاحبك {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا} ومن كان اللّه معه لا يخاف ولا يحزن ولا ينبغي له أن يضيق صدره مما يقدره عليه {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ} أمنه وطمأنينته {عَلَيْهِ} وعلى صاحبه {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها} وهم الملائكة الّذين تولوا حفظهما وصرفوا وجوه الكفار عنهما في الغار، فلم يروهما مع وقوفهم عليهما، لما رأوا من أعشاش الحمام ونسج العنكبوت وكأنها قديمة مما أيقنهم أنه لم يكن في الغار أحد، ولم يدخل إليه من عهد قديم، وكذلك كلأه ورفيقه حينما خرجا من الغار وأعمى المشركين عنهم وفعل ما فعل بسراقة كما بيناه في قصة الهجرة المندرجة آخر الجزء الثاني، فراجعها، وقد أيده بهذه الجنود أيضا في حوادث بدر والأحزاب وحنين وأحد بعد الهزيمة {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى} لأنها مدعاة إلى الكفر به {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} بالرفع والواو فيها للحال وقرأ بعضهم كلمة بالنصب عطفا على كلمة الأولى وليست بشيء، وقراءة الرّفع أولى وأبلغ لأن كلمة اللّه عالية ولا تزال عالية سامية، وهي نداء للاسلام ودعاء للإيمان ولذلك فإنها {هِيَ الْعُلْيا} في الماضي والحال والاستقبال إلى الأبد إن شاء الله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} غالب قوي على أعلائها ودوامها ورفعة شأنها وشأن الإسلام على غيرهم {حَكِيمٌ} [40] بإعلاء كلمته وإعظامها وإذلال كلمة الكفر وإدنائها، فيعلي الإيمان وأهله بعزته، ويهين الكفر وملته بعظمته، قال الزهري: لما دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الغار أرسل اللّه زوجا من الحمام فباضتا في أسفل النّقب ونسجت العنكبوت بيتا.
وقال صلّى اللّه عليه وسلم اللّهم أعم أبصارهم، فجعل الطّلب يضربون يمينا وشمالا حوالي الغار ويقولون لو دخلاه لتكسر البيض وتفسخ نسج العنكبوت، وأنشد أبو بكر رضي اللّه عنه:
قال النّبي ولم يجزع يوقرني ** ونحن في سدف في ظلمة الغار

لا تخش شيئا فإن اللّه ثالثنا ** وقد تكفل لي منه بإظهار

وإنما كيد من نخشى بوادره ** كيد الشّياطين قد كادت لكفار

واللّه مهلكهم طرا بما صنعوا ** وجاعل المنتهى منهم إلى النّار

وهذا البحث قد مر في الآيتين 31 و36 من الأنفال، وفي [الآية 40] من سورة العنكبوت.
قال الأبوصيري:
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ** خير البرية لم تنسج ولم تحم

إلخ الأبيات من البردة.
وقال في الهمزية:
أخرجوه منها وآواه ** غار وحمته حمامة ورقاء

إلخ الأبيات، وقيل في هاتين القصيدتين ما مدح خير البرية بأحسن من البردة والهمزية، وهو كذلك، لأنهما جامعتان مانعتان، وكلّ المداح عيال على صاحبهما رحمهم اللّه.
قال تعالى: {انْفِرُوا خِفافًا} نشطين سراعا حال النّداء بلا توان {وَثِقالًا} متروين بكمال الاستعداد ركبانا ومشاة شبانا وشيوخا، فقراء وأغنياء، عزلا ومسلحين، عزبانا ومتأهلين، مشاغيل وبطّالا، فيدخل في كلمتي خفافا وثقالا كل من لم يستثنه اللّه الآتي ذكرهم في الآيتين 93 و94 من هذه السّورة، والمنقطعين إلى طلب العلم المشار إليهم في [الآية 123] الآتية، وكذلك الّذين هم في ثغور المسلمين، والّذين على ذراريهم وأموالهم وادارتهم.
ولا نسخ في هذه الآية لأن عمومها مقيد بالمستثنى منها كالآية [18] من سورة الفتح المارة، والقاعدة أن العام يحمل على الخاص، والمطلق على المقيد دائما، ولهذا فإن هذه الآية محكمة {وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} وهذا الأمر للوجوب بهما أو بأحدهما، فمن لم يقدر عليهما معا لأجل إعلاء كلمة اللّه ونصرة دينه وإعزاز لأمته أن يجاهد فيهما {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فليكن بأحدهما {ذلِكُمْ} الجهاد بالمال والنّفس {خَيْرٌ لَكُمْ} مع القدرة عليهما عند اللّه في الآخرة وعند النّاس في الدّنيا، لما يترتب عليه من المصالح، لأن التخلف عنه والقعود مذمّة لكم عندهما، فضلا عن أنه يغضب رسول اللّه وأصحابه والمسلمين أجمع {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [41] ما ترمي إليه هذه الدّعوة من النتائج الحسنة والخيرات الكثيرة والمبرات النّافعة، ومذمّة ما ينشأ عن التخلف من العاقبة السّيئة والمضرات العامة والذل والهوان نزلت هذه الآيات في غزوة تبوك، وذلك أن حضرة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم بعد أن فتح مكة وغزا هوازن وحنين وأوطاس وحاصر ثقيفا بالطائف وفتحها وأتى الجعرانة احرم بالعمرة، ثم رجع إلى المدينة أمر بغزو الرّوم، وكان ذلك في شدة الحر وزمن عسرة وقلة وحاجة، وكانت عادته صلّى اللّه عليه وسلم إذا أراد غزوة ورىّ بغيرها إلا في غزوة تبوك، فإنه جلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا لعدوهم أهبة كاملة بكل ما يستطيعون من العدة والذهاب لاستقبالهم سفرا بعيدا ومفاوز وعدوا كبيرا كثيرا ذا عدد وعدد، وكان ذلك في شهر رجب سنة تسع من الهجرة، وهؤلاء الرّوم هم بنو الأصفر، وإنما سمّوا روما لأن العيص بن إسحاق تزوج بنت إسماعيل عليه السلام فولدت له ولدا به صفرة فنسبوا إليه وسمي روما، وتسمى هذه الغزوة غزوة العسرة، لأنها كانت في سنة مجدبة، وسببها أنه قد بلغ حضرة الرّسول تجمع الرّوم في تبوك لغزو المسلمين، فجمع جموعه وقد أتى له عثمان رضي اللّه عنه بعشرة آلاف دينار، فجعل يقلبها بيده ويقول ما على عثمان ما فعل بعد اليوم، ثم أعان عثمان حضرة الرّسول أيضا بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وخمسين فرسا، وجاءه أبو بكر رضي اللّه عنه بأربعة آلاف درهم، وعمر رضي اللّه عنه بنصف ماله، وعبد الرّحمن بن عوف بمئتي أوقية، والعباس وطلحة بمال كثير، وعاصم بن عدي بتسعين وسقا من تمر، والنّساء بكل ما قدرن عليه من حليهنّ، وبعد أن جهز جيشه المبارك بما قدر عليه سار على بركة اللّه بثلاثين ألفا، وقد رأوا في غزوتهم هذه شدة وضنكا، حتى إنهم لينحرون الإبل بغية الشّرب من كروشها مما وقر فيها من الماء، وقد استخلف على المدينة محمد بن سلمة، وخلف عليا على أهله، فقال له أتخلّفني على الصّبيان والنّساء؟ فقال له ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي.

.مطلب مثالب المنافقين ومصارف الصّدقات وسبب وجوبها وتحريم السّؤال:

وللعلم بما في هذه الغزوة من بعد الشّقة وكونها زمن الحر والجدب وعسرة النّاس وضيقهم، ولعلمهم أن عدوهم فيها عدو قوي، كان من المسلمين من تثاقل منها وأحب التخلف عنها، أنزل اللّه تعالى في عتاب المخلفين وتوبيخهم على ما وقر في قلوبهم، فقال عز قوله: {لَوْ كانَ} ما استنفرتم إليه {عَرَضًا} مغنما {قَرِيبًا} محله سهلا تناوله {وَسَفَرًا قاصِدًا} وسطا لا مشقة فيه {لَاتَّبَعُوكَ} يا حبيبي طمعا في المنافع الدّنيوية دون تروّ أو تردد ولعاتبوك على عدم استصحابهم معك، كما مرّ في [الآية 15] من سورة الفتح المارة {وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} في هذه الغزوة واستطالوا مسافتها وطريقها الشّاق، وتخوفوا من الحر وقلة الزاد والماء، لذلك لم يلبوا دعوتك ولم يرغبوا بها فتخلف من تخلف منهم، وصاروا ينتحلون الأعذار لتغض عنهم وتأذن لهم بالتخلف {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} لك هؤلاء المتخلفون المنافقون بأعذار كاذبة، بينها اللّه بقوله عز قوله: {لَوِ اسْتَطَعْنا} الخروج معك يا رسول اللّه إلى تبوك {لَخَرَجْنا مَعَكُمْ} ولم يعلم هؤلاء أنهم بهذه الأيمان الواهية والأعذار المنتحلة {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ} لأنهم يقترفون جرما علاوة على جرمهم بالتخلف، لأن اللّه تعالى يعلم أنهم مستطيعون على الخروج وأن ما يختلفونه من الأعذار لا صحة لها، ولم يمنعهم مانع إلّا بعد محل هذه الغزوة وتوقع مشاقها {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} [42] في حلفهم وعذرهم، لأن هذا مدون أيضا في اللّوح قبل أن يبدوه لك يا سيد الرّسل، وقد أظهره اللّه الآن لكم ليفتضحوا وليعلموا أن اللّه تعالى بالمرصاد لهم ولغيرهم، لا يعزب عن علمه شيء وأنه يخبر رسوله ليطلع أصحابه عليه.
واعلم أن حضرة الرّسول قبل نزول هذه الآية كان أذن لهم بالتخلف بناء على ما تقدموا به إليه من الأعذار الموثقة بالأيمان، ولهذا فإنه تعالى عاتبه على ذلك بألطف وأرق أنواع العتاب، إذ صدره بقوله عز قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} وزادك تبصرا في هؤلاء المنافقين الّذين يبطنون غير ما يظهرون {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} بالتخلف يا سيد الرّسل حتى يحتجوا به فهلا استأنيت وترويت بإذنهم {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} باعتذارهم فتأذن لهم: {وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ} [43] منهم فلم تأذن لهم، هذا، وقد ثبت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لم يفعل شيئا طيلة حياته بغير إذن من ربه عز وجل إلّا في هذه الحادثة وواقعة أسرى بدر التي مر ذكرها في [الآية 68] من سورة الأنفال، وعفوه عن المتخلفين الآتي ذكرهم في [الآية 117] الآتية، وقد عاتبه اللّه تعالى عليهما وعن هذه أيضا هنا، وعن العفو في الآيات 67 فما بعدها من سورة الأنفال المارة.
ولا دلالة في هاتين الحادثتين على صدور الذنب منه صلّى اللّه عليه وسلم كما زعم بعضهم، بل هو عمل غايته أنه خلاف الأولى إذ لم يتقدم له من ربه نهي بعد أخذ الفداء والعفو عن الأسرى، كما لم يتقدم له نهي عن إعطاء الإذن بالتخالف لهؤلاء حتى يعدّ ذنبا يكون فيه مخالفا لربه، وحاشاه، وحتى أن أهل العلم لم يعدوه معاتبا عليه لما جاء في هذه الآية من تصديرها بكلمة عفا اللّه عنك، وقد أخطأ من أول عفا هنا بمعنى غفر، إذ عدّ ما صدر منه خطأ وحاشا ساحة الرّسول من الخطأ فيما ينهاه عنه ربه، بل معنى عفا على ظاهرها، وهي على حدّ قوله صلّى اللّه عليه وسلم: عفا اللّه لكم عن صدقة الخيل والرّقيق، ومن قال إن العفو لا يكون إلّا عن ذنب لم يعرف كلام العرب، إذ لو كان هناك ذنب لذكر العفو بعده، لأن ذكر الذنب بعد العفو لا يليق، وقد يأتي العفو بمعنى الزيادة، راجع [الآية 271] من البقرة المارة، لأن قوله عفا اللّه عنك يدل على المبالغة في التعظيم والتوقير ولا يدل على سابقة ذنب، فهو كما تقول لمن توقره عفا اللّه عنك ما عملت في أمري، رضي اللّه عنك بماذا تجاربني عافاك اللّه، أما تنظر إلي زادك اللّه خيرا، أما تعطني غفر اللّه لك، أما تدعو لي، وما أشبه ذلك من كلّ ما يستفتح به الكلام، كأصلحك اللّه، وأعزك، وأدام بقاءك، وأطال عمرك، قال علي ابن الجهم حينما خاطب المتوكل وقد أمر بنفيه:
عفا اللّه عنك ألا حرمة ** تعود بعفوك إن أبعدا

ألم تر عبدا عدا طوره ** ومولى عفا ورشيدا هدى