فصل: مطلب في فضل الجهاد والنّفقة فيه وفضل طلب العلم واستثناء أهله من الجهاد والحكمة في قتال الأقرب بالأقرب وكون الايمان يزيد وينقص وبحث في ما:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب في فضل الجهاد والنّفقة فيه وفضل طلب العلم واستثناء أهله من الجهاد والحكمة في قتال الأقرب بالأقرب وكون الايمان يزيد وينقص وبحث في ما:

روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد السّاعدي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال رباط يوم في سبيل اللّه خير من الدّنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم في الجنّة خير من الدّنيا وما عليها، والرّوحة يروحها الرّجل في سبيل اللّه أو الغدوة خير من الدّنيا وما عليها، وفي رواية وما فيها.
ورويا عن أبي سعيد الخدري قال: إن رجلا سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فقال أي النّاس أفضل؟ قال مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل اللّه.
قال ثم من؟ قال ثم رجل في شعب من الشّعاب يعبد اللّه وفي رواية يتقي اللّه ويدع النّاس من شره.
وروى البخاري عن ابن عباس قال ما اغبرت قدما عبد في سبيل اللّه فتمسه النّار.
وقال ثابت بن سعيد ثلاث أعين لا تمسها النّار: عين حرست في سبيل اللّه، وعين سهرت في كتاب اللّه، وعين بكت في سواد اللّيل من خشية اللّه.
وروى مسلم عن ابن مسعود الأنصاري البدري قال: جاء رجل بناقة مخطومة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال هذه في سبيل اللّه، فقال صلّى اللّه عليه وسلم لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة.
وأخرج الترمذي والنّسائي عن جريم بن مالك قال قال صلّى اللّه عليه وسلم من أنفق نفقة في سبيل اللّه له سبعمائة ضعف.
وقد ألمعنا لما يتعلق في هذا في الآيتين 174 و176 من سورة البقرة فراجعها.
واعلم أن مناسبة هاتين الآيتين بما قبلها هو أنه لما أمر اللّه عباده بالكون مع الصّادقين ومتابعة الرّسول في غزواته ومشاهده كلها أكد ذلك فنهى في هذه الآية عن التخلف عنه، فقال (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ) إلخ الآية أي ما صح وما استقام لهم فعل ذلك.
والأعراب الّذين كانوا حول المدينة المرادون في هذه الآية هم مزينة وجهينة والنّجع وأسلم وغفار، ولكن يستفاد من مغزى هذه الآية تناول جميع الأعراب الّذين كانوا حول المدينة خلافا لما قاله ابن عباس بتخصيص الفرق الخمس المذكورين، لأن اللّفظ عام والتخصيص دون نصّ تحاكم.
وعلى كلا القولين فليس لأهل المدينة ولا من حولها من الأعراب كافة أن يتخلفوا عن حضرة الرّسول إلّا المرضى والضّعفاء والعاجزون، فلهم التخلف بنص [الآية 92] المارة، وبقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها} الآية الأخيرة من البقرة المارة، لأنهم غير مكلفين بالجهاد.
أما إذا خرجوا من تلقاء أنفسهم لتكثير سواد المسلمين وخدمتهم حسب المستطاع فلا بأس وهم مثابون كما أشرنا في [الآية 92] المذكورة.
وليعلم العاقل أن الذهاب للجهاد لا يعد سببا للموت إذا كان في الأجل فسحة، وإذا حل مات على فراشه وهو في مأمن منه حسب ظنه قال:
وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ** وينجو بحول اللّه من حيث يحذر

يرى الشّيء مما يتقي فيخافه ** وما لا يرى مما يقي اللّه أكثر

كما أن المرض قد لا يكون منضيا للموت، وقد يحدث صحيحا على حين غفلة.
روى أن الخليفة المقتفي مرض مرضا شديدا فنوى إن هو برئ أن يفعل خيرا، فلما برئ شغل عما كان نواه، ثم مرض مرضه الذي مات فيه فتذكر ما نذره في مرضه الأوّل وما فرط منه في ذلك بكى وأنشد:
إذا مرضنا توبنا كلّ صالحة ** وإن شفينا فمنا الزيغ والزلل

نرضي الإله إذا خفنا ونسخطه ** إذا أمّنا فما يزكو لنا عمل

قال تعالى: {وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} إلى طلب العلم والجهاد {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ} راجع [الآية 66] المارة في معنى الطّائفة من حيث إطلاقها على الواحد والجماعة والعشرة {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} ولا يخرجون جميعهم فيتركون بلادهم وذراريهم وأموالهم ونساءهم تحت الخطر، فلا يصح لهم ذلك ولا يستقيم، ولا ينبغي فعله، بل يخرج أناس للجهاد وطلب العلم ويبقى الآخرون للعمل والحراسة {وَلِيُنْذِرُوا} هؤلاء الخارجون لطلب العلم وتعلم أمر الدّين {قَوْمَهُمْ} وتعلقاتهم وغيرهم الّذين بقوا للعمل والحراسة ويرشدوهم لما تعلموه {إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} بعد إكمال تحصيلهم، وليكن قصدهم هذا لا الترؤس عليهم، ولا أخذ أموالهم أجرا عما يعلمونهم، ولا التباهي والتفاخر عليهم بما تعلّموه {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [122] مناهي اللّه فلا يقربونها، ويعرفون أوامره فيفعلونها، وكلمة لولا تفيد الحث على ذلك بشدة لما فيها من معنى الأمر.
واعلم أن صدر هذه الآية له وجهان الأوّل ما ذكرناه في تفسيرها باختصاصها في طلب العلم فتفيد الوجوب على كلّ مستعد له من جماعة سلوك العلم لا على الجمع، لأن العلم باعتباره علما يشمل الأصول والفروع، يكون طلبه على طريق الكفاية.
أما علم الحال المتلبس به الشّخص فعلى طريق العين، فمن أراد النّفقه في الدّين فلينفر في سبيله ويسلك طريق التزكية والتصفية حتى يظهر العلم على لسانه متفجرا من قلبه، فالعلم يكون بالتعلم فلا ينزل على الشّخص من السماء إلّا على خرق العادة، وكذلك لا يخرج من تخوم الأرض.
والمراد من النفقة رسوخ العلم في القلب ليتغلغل في عروق النّفس فيظهر أثره على الجوارح فيمنع صاحبه ارتكاب ما حرّم اللّه بكليته، وإلّا فإذا بقيت جوارحه تخالف ما علمه لا يكون عالما، ألم تر كيف سلب اللّه العلم من الرّاهب الذي أشار اللّه إليه في الآية [175] من الأعراف حتى سماء اللّه غاويا.
قال تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [الآية 28] من سورة فاطر، لأن رهبة اللّه التي تحصل للعالم تمنعه من مخالفته سرا وجهرا، فإذا تفقه العالم وظهر علمه على جوارحه أثر في غيره فيسمع قوله، ويؤتمر بأمره، وينتهى بنهيه، لأن النّاس يرتدون بما يترشح عليهم منه كما كان حال حضرة الرّسول مع الأصحاب، إذ صاروا بعد الجهل المركب علماء كاملين عارفين، وقد أنزل اللّه تعالى على بني إسرائيل: يا بني إسرائيل لا تقولوا العلم في السّماء من ينزل به، ولا في تخوم الأرض من يصعد به، ولا من وراء البحر من يعبر ويأتي به، العلم مجعول في قلوبكم، تأدبوا بين يدي اللّه بآداب الرّوحانيين، وتخلقوا بأخلاق الصّديقين، أظهروا العلم في قلوبكم حتى يغمركم ويغطيكم، وهذا على القول بأن الطّائفة المتأخرة هي المراد بما تعلم العلم، فيكون المراد منها أنه يجب على كلّ فرقة من فرق البلاد أن يشدّوا الرحال في زمن الرّسول إليه لطلب العلم، والآخرون لجهاد العدو، وبعد زمن الرسول إلى المحل الذي فيه العلماء، فيتعلمون منهم أصول الدّين ويعودون فيعلمون قومهم، لأن هذه الآية تحتوي على أمرين: الأمر بالهجرة، والأمر بالجهاد.
وأمر الجهاد ينقسم إلى قسمين: قسم لقتال العدو، وقسم لتعلم العلم، لأنه من الجهاد أيضا.
واعلم أن وجوب السّفر لطلب العلم يتعين إذا لم يكن في البلد عالم يمكنه التعلم منه، وإلّا فلا يكون واجبا بل مباحا، وإنما كان واجبا زمن الرّسول صلّى اللّه عليه وسلم لأن الشّريعة لم تستقر بعد لنزولها تدريجا، أما الآن وقد استقرت الشّريعة وكان يوجد في بلده من يكفي لتلقين العلم فلا وجوب بالسفر لمكان آخر، هذا على صرف الآية في سبيل العلم، والثاني يكون في سبيل صرفها للجهاد فقط، وذلك إذا أمر الرّسول به وأرسل السّرايا مع من يؤمره عليها فليس لهم أن ينفروا جميعا ويتركوا رسول اللّه وحده، بل تذهب طائفة منهم التي يأمر بها حضرة الرّسول إلى الجهاد، وتبقى طائفة للحراسة، وحفظ ما ينزل على حضرة الرسول من القرآن وما يأمر به من الأحكام والآداب الكائنة بغياب الطّائفة الغازية لتعلمه لها عند إيابها.
وإنما صح تأويل هذه الآية على الوجهين المذكورين لإمكان جعل صدر هذه الآية من بقية أحكام الجهاد وارتباطها بما قبلها، وإمكان جعلها مبتدأة وتخصيصها بطلب العلم وهو الأوجة الذي جرينا عليه، والقولان لابن عباس رضي اللّه عنهما، ولهذا اختلف في سبب نزولها، فقال عكرمة لما أنزل اللّه تعالى بالمتخلفين ما أنزل، قال المنافقون هلك المتخلفون أجمع فنزلت هذه الآية تطمينا لهم.
وقال مجاهد غيره، والأنسب ما روي عن ابن عباس من أن اللّه تعالى لما بالغ في فضح عيوب المنافقين قال المؤمنون واللّه لا نتخلف في غزوة ولا سرية، وتهبأوا كلهم للنفور، وتركوا الرّسول وحده، فنزلت ويكون المعنى عدم جواز نفور المؤمنين كلهم للجهاد، بل تبقى طائفة لخدمة الرّسول وحفظ الوحي والأحكام والآداب التي يأمر بها لنعلمها للغازين عند حضورهم، لأن القصد من النّفقة دعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى الدّين القويم والصّراط المستقيم وإنقاذهم من هوة الجهل والضّلال، فمن تفقه لهذا الغرض كان ناجيا عند اللّه سائرا على المنهج النّبوي، ومن عدل عنه فطلب به الدّنيا كان داخلا في قوله تعالى: {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الآية 106] من سورة الكهف.
روى البخاري ومسلم عن معاوية قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول من يرد اللّه به خيرا يفقهه في الدّين وإنما أنا قاسم واللّه معطي، ولم يزل أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم السّاعة وحتى يأتي أمر اللّه.
ورويا عن أبي هريرة قال قال صلّى اللّه عليه وسلم: تجدون النّاس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.
وأخرج الترمذي عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: فقيه واحد أشد على الشّيطان من ألف عابد.
راجع [الآية 11] المارة من سورة المجادلة تجد ما يتعلق بفضل العلم والعلماء، وكذلك في الآية المارة آنفا من سورة فاطر: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ}. إلخ.
والفقه في اللّغة الفهم، وهو الأصل بعلم شاهد إلى علم غائب فهو أخص من العلم.
واصطلاحا العلم بالأحكام الشّرعية ومتعلقات الدّين التي لابد له منها في معرفة اللّه تعالى وما يجب في حقه، وما يستحيل، وما يجوز، وما يجب في حق الأنبياء، وما يستحيل، وما يجوز، ومن العبادات والمعاملات بقدر الكفاية من علم الحال.
والطّائفة ما فوق الثلاثة غالبا فإذا خرج واحد منها لهذه الغاية سقط الإثم عن الآخرين.
والحكم الشّرعي هو طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة وهو قسمان فرض عين وهو ما تقدم من معرفة علم الحال كالصوم والصّلاة والحج والزكاة للمتولين.
ومعنى كلمة الشّهادة للكل، وفرض كفاية كتعلم ما به يبلغ درجة العلماء ورتبة الاجتهاد وفإذا وجد في البلد واحد من هذا القبيل قادر على الفتيا والتعليم كفى وسقط الإثم عن الباقين، وإلّا فكلهم آثمون.
ومثل هذا يصدق عليه الحديث المار ذكره في قوله صلّى اللّه عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم.