فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

إن قيل قوله: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} كيف يصلح أن يكون جوابًا عن السؤال الذي ذكروه قلنا قد ذكرنا أن السؤال يحتمل وجوهًا: أحدها: فيكون قوله: {أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} جوابًا له من حيث إنه قال تعالى لا تتعجبوا من أن يكون فيهم من يفسد ويقتل فإني أعلم مع هذا بأن فيهم جمعًا من الصالحين والمتقين وأنتم لا تعلمون.
وثانيها: أنه للغم فيكون الجواب لا تغتموا بسبب وجود المفسدين فإني أعلم أيضًا أن فيهم جمعًا من المتقين، ومن أقسم علي لأبره.
وثالثها: أنه طلب الحكمة فجوابه أن مصلحتكم فيه أن تعرفوا وجه الحكمة فيه على الإجمال دون التفصيل.
بل ربما كان ذلك التفصيل مفسدة لكم ورابعها: أنه التماس لأن يتركهم في الأرض وجوابه إني أعلم أن مصلحتكم أن تكونوا في السماء لا في الأرض، وفيه وجه خامس: وهو أنهم لما قالوا: {نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} قال تعالى: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وهو أن معكم إبليس وأن في قلبه حسدًا وكبرًا ونفاقًا.
ووجه سادس: وهو أني أعلم ما لاتعلمون فإنكم لما وصفتم أنفسكم بهذه المدائح فقد استعظمتم أنفسكم فكأنكم أنتم بهذا الكلام في تسبيح أنفسكم لا في تسبيحي ولكن اصبروا حتى يظهر البشر فيتضرعون إلى الله بقولهم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف: 44] وبقوله: {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى} [الشعراء: 82] وبقوله: {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ في عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19]. اهـ.

.قال القرطبي:

اختلف علماء التأويل في المراد بقوله تعالى: {مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
فقال ابن عباس: كان إبليس لعنه الله قد أعجب ودخله الكبر لما جعله خازن السماء وشرفه، فاعتقد أن ذلك لمزِيّة له؛ فاستخف الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام.
وقالت الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك؛ فقال الله تعالى لهم: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
وقال قتادة لما قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا} وقد علم الله أن فيمن يستخلق في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة قال لهم {إنِّي أعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
قلت: ويحتمل أن يكون المعنى إني أعلم ما لا تعلمون مما كان ومما يكون ومما هو كائن؛ فهو عام. اهـ.

.قال في روح البيان:

قال في التيسير التسبيح نفي ما لا يليق به والتقديس إثبات ما يليق به.
وقال الشيخ داود القيصري قدس سره التسبيح أعم من التقديس لأنه تنزيه الحق عن نقائص الإمكان والحدوث والتقديس تنزيهه عنها وعن الكمالات اللازمة للأكوان لأنها من حيث إضافتها إلى الأكوان تخرج عن إطلاقها وتقع في نقائص التقييد انتهى وكأنه قيل أتستخلف من شأن ذريته الفساد مع وجود من ليس من شأنه ذلك أصلًا والمقصود عرض أحقيتهم منهم بالخلافة والاستفسار عما رجح بني آدم عليهم مع ما هو متوقع منهم من الفساد وكأنه قيل فماذا قال الله تعالى حينئذٍ؟ فقيل: {قَالَ} الله {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} من الحكمة والمصلحة باستخلاف آدم عليه السلام وإن من ذريته الطائع والعاصي فيظهر الفضل والعدل فلا تعترضوا على حكمي وتقديري ولا تستكشفوا عن غيبة تدبيري فليس كل مخلوق يطلع على غيب الخالق ولا كل أحد من الرعية يقف على سر الملك. اهـ.

.قال الشوكاني:

والتقديس: التطهير، أي: ونطهرك عما لا يليق بك مما نسبه إليك الملحدون، وافتراه الجاحدون.
وذكر في الكشاف: أن معنى التسبيح، والتقديس واحد، وهو: تبعيد الله من السوء، وأنهما من سبح في الأرض والماء، وقدّس في الأرض إذا ذهب فيها، وأبعد.
وفي القاموس، وغيره من كتب اللغة ما يرشد إلى ما ذكرناه، والتأسيس خير من التأكيد خصوصًا في كلام الله سبحانه.
ولما كان سؤالهم واقعًا على صفة تستلزم إثبات شيء من العلم لأنفسهم، أجاب الله سبحانه عليهم بقوله: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل؛ لأن من علم ما لا يعلم المخاطب له كان حقيقًا بأن يسلم له ما يصدر عنه، وعلى من لا يعلم أن يعترف لمن يعلم، بأن أفعاله صادرة على ما يوجبه العلم، وتقتضيه المصلحة الراجحة، والحكمة البالغة.
ولم يذكر متعلق قوله: {تَعْلَمُونَ} ليفيد التعميم، ويذهب السامع عند ذلك كل مذهب، ويعترف بالعجز ويقر بالقصور.
وقد أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن ابن عباس، قال: إن الله أخرج آدم من الجنة قبل أن يخلقه، ثم قرأ: {إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً} وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضًا نحوه وزاد.
وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فلما أفسدوا في الأرض بعث الله عليهم جنودًا من الملائكة، فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فلما قال الله: {إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} كما فعل أولئك الجان، فقال الله: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر مثله.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس أطول منه.
وأخرج ابن جرير، وابن عساكر، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة قال: لما فرغ الله من خلق ما أحبّ استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن، وإنما سموا الجنّ؛ لأنهم خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه خازنًا، فوقع في صدره كبر، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي.
فاطلع الله على ذلك منه، فقال للملائكة {إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً} قالوا: ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضًا، قالوا: ربنا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} قَالَ: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس نحوه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في الآية قال: قد علمت الملائكة، وعلم الله، أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء، والفساد في الأرض.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس قال: إياكم والرأي، فإنَّ الله ردَّ الرأي على الملائكة، وذلك أن الله قال: {إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً} قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} قال: {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن عساكر، عن أبي سابط؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله: {إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً}».
قال ابن كثير: وهذا مرسل في سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو: أن المراد بالأرض مكة، والظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك. انتهى.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال: التسبيح، والتقديس المذكور في الآية هو: الصلاة.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أوّل من لبى الملائكة قال الله تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} قال: فرادُّوه، فأعرض عنهم، فطافوا بالعرش ست سنين يقولون: لبيك لبيك اعتذارًا إليك، لبيك لبيك نستغفرك، ونتوب إليك».
وثبت في الصحيح من حديث أبي ذرّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحبّ الكلام إلى الله ما اصطفاه لملائكته سبحان ربي، وبحمده» وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود، وناس من الصحابة في قوله: {وَنُقَدّسُ لَكَ} قال: نصلي لك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: التقديس: التطهير.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: {وَنُقَدّسُ لَكَ} قال: نعظمك ونكبرك.
وأخرجا عن أبي صالح قال: نعظمك ونمجدك.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: {أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} قال: علم من إبليس المعصية، وخلقه لها.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في تفسيرها قال: كان في علم الله أنه سيكون من الخليقة أنبياء، ورسل، وقوم صالحون، وساكنوا الجنة.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمر: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن آدم لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي ربّ {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} الآية، قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم قال الله لملائكته: هلموا ملكين من الملائكة حتى يهبطا إلى الأرض فننظر كيف يعملان؟ فقالوا: ربنا هاروت وماروت، قال: فاهبطا إلى الأرض، فتمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر» وذكر القصة.
وقد ثبت في كتب الحديث المعتبرة أحاديث من طريق جماعة من الصحابة في صفة خلقه سبحانه لآدم وهي موجودة فلا نطوّل بذكرها. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً} في قوله: {وَإِذْ} وجهان:
أحدهما: أنه صلة زائدة، وتقدير الكلام: وقال ربك للملائكة، وهذا قول أبي عبيدة، واستشهد بقول الأسود بن يعفر:
فَإِذَا وَذلِكَ لاَ مَهَاةَ لذِكْرِهِ ** وَالدَّهْرُ يَعْقُبُ صَالِحًا بِفَسَادِ

والوجه الثاني: أن {إذ} كلمة مقصورة، وليست بصلة زائدة، وفيها لأهل التأويل قولان:
أحدهما: أن الله تعالى لما ذكَّر خلقه نِعَمَهُ عليهم بما خلقه لهم في الأرض، ذكّرهم نِعَمَهُ على أبيهم آدَمَ {إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} وهذا قول المفضَّل.
والثاني: أن الله تعالى ذكر ابتداء الخلق فكأنه قال: وابتدأ خلقكم {إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} وهذا من المحذوف الذي دَلَّ عليه الكلام، كما قال النمر بن تَوْلَبَ (127):
فَإِنَّ الْمَنَّيةَ مَنْ يَخْشَهَا ** فَسَوفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا

يريد: أينما ذهب.
فأما الملائكة فجمع مَلَكٍ، وهو مأخوذ من الرسالة، يقال: ألِكِني إليها أي أرسلني إليها، قال الهذلي:
ألِكْنِي وَخَيْرُ الرَّسُو ** لأَعْلَمُهُمْ بنواحِي الخَبَرْ

والألوك الرِّسالة، قال لبيد بن ربيعة:
وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ ** بأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَألْ

وإنما سميت الرسالة ألوكًا لأنها تُؤْلك في الفم، والفرس يألك اللجام ويعلكه، بمعنى يمضغ الحديد بفمه.
والملائكة أفضل الحيوان وأعقل الخلق، إلا أنهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينكحون، ولا يتناسلون، وهم رسل الله، لا يعصونه في صغير ولا كبير، ولهم أجسام لطيفة لا يُرَوْنَ إلا إذا قوَّى الله أبصارنا على رؤيتهم.
وقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً} اختلف في معنى {جاعل} على وجهين:
أحدهما: أنه بمعنى خالق.
والثاني: بمعنى جاعل، لأن حقيقة الجَعْل فِعْلُ الشيء على صفةٍ، وحقيقة الإحداث إيجاد الشيء بعد العدم.
و{الأرض} قيل: إنها مكة، وروى ابن سابط، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دُحِيَت الأرضُ من مكةَ» ولذلك سميت أم القرى، قال: وقبر نوح، وهود، وصالح، وشعيب بن زمزم، والركن، والمقام.
وأما الخليفة فهو القائم مقام غيره، من قولهم: خَلَفَ فلانٌ فلانًا، والخَلَفُ بتحريك اللام من الصالحين، والخَلْفُ بتسكينها من الطالحين، وفي التنزيل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم: 59]، وفي الحديث: «ينقل هذا العِلْمَ من كل خَلَفٍ عُدُولُهُ». وفي خلافة آدم وذريته ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه كان في الأرض الجِنُّ، فأفسدوا فيها، سفكوا الدماء، فأُهْلِكوا، فَجُعِل آدم وذريته بدلهم، وهذا قول ابن عباس.
والثاني: أنه أراد قومًا يَخْلُفُ بعضهم بعضًا من ولد آدم، الذين يخلفون أباهم آدم في إقامة الحق وعمارة الأرض، وهذا قول الحسن البصري.
والثالث: أنه أراد: جاعل في الأرض خليفةً يخْلُفُني في الحكم بين خلقي، وهو آدم، ومن قام مقامه من ولده، وهذا قول ابن مسعود.
قوله عز وجل: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مِنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} وهذا جواب من الملائكة حين أخبرهم، أنه جاعل في الأرض خليفةً، واختلفوا في جوابهم هذا، هل هو على طريق الاستفهام أو على طريق الإيجاب؟ على وجهين:
أحدهما: أنهم قالوه استفهامًا واستخبارًا حين قال لهم: إني جاعلٌ في الأرض خليفة، فقالوا: يا ربنا أَعْلِمْنَا، أجاعل أنت في الأرض من يُفْسِدُ فيها ويسفك الدماء؟ فأجابهم: إني أعلم ما لا تعلمون، ولم يخبرهم.
والثاني: أنه إيجاب، وإن خرجت الألف مَخْرج الاستفهام، كما قال جرير:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايا ** وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ

وعلى هذا الوجه في جوابهم بذلك قولان:
أحدهما: أنهم قالوه ظنًا وتوهُّمًا، لأنهم رأوا الجن من قبلهم، قد أفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فتصوروا أنه إن استخلف استخلف في الأرض مَنْ يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماء.
وفي جوابهم بهذا وجهان:
أحدهما: أنهم قالوه استعظامًا لفعلهم، أي كيف يفسدون فيها، ويسفكون الدماء، وقد أنعمت عليهم واستخلفتهم فيها فقال: إني أعلم ما لا تعلمون.
والثاني: أنهم قالوه تعجبًا من استخلافه لهم أي كيف تستخلفهم في الأرض وقد علمت أنهم يفسدون فيها ويسفكون الدماء فقال: {إني أعلم ما لا تعلمون}.
وقوله: {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} السفك صب الدم خاصةً دون غَيْرِهِ من الماء والمائع، والسفح مثله، إلا أنه مستعمل في كل مائع على وجه التضييع، ولذلك قالوا في الزنى: إنه سفاح لتضييع مائه فيه.
قوله عز وجل: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}.
والتسبيح في كلامهم التنزيه من السوء على جهة التعظيم، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ** سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاجِرِ

أي براءةً من علقمة.
ولا يجوز أن يسبَّحَ عَيْرُ اللهِ، وإن كان منزهًا، لأنه صار علَمًا في الدين على أعلى مراتب التعظيم الَّتي لا يستحقها إلا اللهُ تعالى.
وفي المراد بقولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} أربعة أقاويل:
أحدها: معناه نصلي لك، وفي التنزيل: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143]، أي من المصلين، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.
والثاني: معناه نعظِّمك، وهذا قول مجاهد.
والثالث: أنه التسبيح المعروف، وهذا قول المفضل، واستشهد بقول جرير:
قَبَّحَ الإلهُ وُجُوهَ تَغْلِبَ كُلَّمَا ** سَبَّحَ الْحَجِيجُ وَكَبَّرُوا إهْلاَلاَ

وأما قوله: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} فأصل التقديس التطهير، ومنه قوله تعالى: {الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} أي المطهَّرة، وقال الشاعر:
فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بالسَّاقِ وَالنَّسَا ** كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدَّسِ

أي المطهَّر.
وفي المراد بقولهم: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} ثلاثةُ أقاويلَ:
أحدها: أنه الصلاة.
والثاني: تطهيره من الأدناس.
والثالث: التقديس المعروف.
وفي قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لاَ تَعْلَمُونَ} ثلاثةُ أقاويل:
أحدها: أراد ما أضمره إبليس من الاستكبار والمعصية فيما أُمِرُوا به من السجود لآدم، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود.
والثاني: مَنْ في ذرية آدم في الأنبياء والرُّسُلِ الذين يُصْلِحُونَ في الأرض ولا يفسدون، وهذا قول قتادة.
والثالث: ما اختص بعلمه من تدبير المصالح. اهـ.