فصل: من فوائد البيضاوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد البيضاوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً} تعداد لنعمة ثالثة تعم الناس كلهم، فإن خلق آدم وإكرامه وتفضيله على ملائكته بأن أمرهم بالسجود له، إنعام يعم ذريته. وإذا: ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه أخرى، كما وضع إذ الزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى، ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل كحيث في المكان، وبنيتا تشبيهًا لهما بالموصولات، واستعملتا للتعليل والمجازاة، ومحلهما النصب أبدًا بالظرفية فإنهما من الظروف الغير المتصرفة لما ذكرناه، وأما قوله تعالى: {واذكر أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بالأحقاف} ونحوه، فعلى تأويل: اذكر الحادث إذا كان كذا، فحذف الحادث وأقيم الظرف مقامه، وعامله في الآية قالوا، أو أذكر على التأويل المذكور لأنه جاء معمولًا له صريحًا في القرآن كثيرًا، أو مضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة، مثل وبدأ خلقكم إذ قال، وعلى هذا فالجملة معطوفة على خلق لكم داخلة في حكم الصلة. وعن معمر أنه مزيد. والملائكة جمع ملأك على الأصل كالشمائل جمع شمأل، والتاء لتأنيث الجمع، وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي: الرسالة، لأنهم وسائط بين الله تعالى، وبين الناس، فهم رسل الله. أو كالرسل إليهم. واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها. فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك. وقالت طائفة من النصارى: هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان. وزعم الحكماء أنهم جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، منقسمة إلى قسمين: قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق جل جلاله والتنزه عن الاشتغال بغيره، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى: {يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} وهم العليون والملائكة المقربون. وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي {لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وهم المدبرات أمرًا، فمنهم سماوية، ومنهم أرضية، على تفصيل أثبته في كتاب الطوالع.
والمقول لهم: الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص، وقيل ملائكة الأرض، وقيل إبليس ومن كان معه في محاربة الجن، فإنه تعالى أسكنهم في الأرض أولًا فأفسدوا فيها، فبعث إليهم إبليس في جند من الملائكة فدمرهم وفرقهم في الجزائر والجبال. وجاعل: من جعل الذي له مفعولان وهما في {الأرض خَلِيفَةً} أعمل فيهما، لأنه بمعنى المستقبل ومعتمد على مسند إليه. ويجوز أن يكون بمعنى خالق. والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه، والهاء فيه للمبالغة، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان خليفة الله في أرضه، وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه، وتلقي أمره بغير وسط، ولذلك لم يستنبئ ملكًا كما قال الله تعالى: {وَلَوْ جعلناه مَلَكًا لجعلناه رَجُلًا} ألا ترى أن الأنبياء لما فاقت قوتهم، واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، أرسل إليهم الملائكة ومن كان منهم أعلى رتبة كلمه بلا واسطة، كما كلم موسى عليه السلام في الميقات، ومحمدًا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، ونظير ذلك في الطبيعة أن العظم لما عجز عن قبول الغذاء من اللحم لما بينهما من التباعد، جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ليأخذ من هذا ويعطي ذلك. أو خليفة من سكن الأرض قبله، أو هو وذريته لأنهم يخلفون من قبلهم، أو يخلف بعضهم بعضًا. وإفراد اللفظ: إما للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه كما استغني بذكر أبي القبيلة في قولهم: مضر وهاشم. أو على تأويل من يخلفكم، أو خلفًا يخلفكم.
وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة، تعليم المشاورة، وتعظيم شأن المجعول، بأن بَشَّرَ عز وجل بوجود سكان ملكوته، ولقبه بالخليفة قبل خلقه، وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم، وجوابه وبيان أن الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير إلى غير ذلك.
{قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} تَعَجُبٌ من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها، أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية، واستكشاف عما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها، واستخبار عما يرشدهم ويزيح شبهتهم كسؤال المتعلم معلمه عما يختلج في صدره، وليس باعتراض على الله تعالى جلت قدرته، ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة، فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى، أو تلق من اللوح، أو استنباط عما ركز في عقولهم أن العصمة من خواصهم، أو قياس لأحد الثقلين على الآخر. والسُفْكُ والسَّبْكُ والسَّفْحُ والشَّنُّ أنواع من الصب، فالسفك يقال في الدم والدمع، والسبك في الجواهر المذابة، والسفح في الصب من أعلى، والشن في الصب من فم القربة ونحوها، وكذلك السن، وقرئ: {يُسْفِكُ} على البناء للمفعول، فيكون الراجع إلى {مَنْ} سواء جعل موصولًا أو موصوفًا محذوفًا، أي: يسفك الدماء فيهم.
{وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} حال مقررة لجهة الإشكال كقولك: أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج القديم. والمعنى: أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك، والمقصود منه، الاستفسار عما رجحهم مع ما هو متوقع منهم على الملائكة المعصومين في الاستخلاف، لا العجب والتفاخر. وكأنهم علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره: شهوية وغضبية تؤديان به إلى الفساد وسفك الدماء، وعقلية تدعوه إلى المعرفة والطاعة.
ونظروا إليها مفردة وقالوا: ما الحكمة في استخلافه، وهو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلًا عن استخلافه، وأما باعتبار القوة العقلية فنحن نقيم ما يتوقع منها سليمًا عن معارضة تلك المفاسد. وغفلوا عن فضيلة كل واحدة من القوتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل، متمرنة على الخير كالعفة والشجاعة ومجاهدة الهوى والإنصاف. ولم يعلموا أن التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد، كالإحاطة بالجزئيات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل الذي هو المقصود من الاستخلاف، وإليه أشار تعالى إجمالًا بقوله: {قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} والتسبيح تبعيد الله تعالى عن السوء وكذلك التقديس، من سَبَح في الأرض والماء، وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد، ويقال قَدُسَ إذا طهر لأن مطهر الشيء مبعد له عن الأقذار. و{بِحَمْدِكَ} في موضع الحال، أي: متلبسين بحمدك على ما ألهمتنا معرفتك ووفقتنا لتسبيحك، تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم، ونقدس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح، وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهير النفوس عن الآثام وقيل: نقدسك واللام مزيدة. اهـ.

.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} بيان لأمرٍ آخرَ من جنس الأمورِ المتقدمةِ المؤكدةِ للإنكار والاستبعادِ، فإن خلقَ آدمَ عليه السلام وما خصّه به من الكرامات السنية المحْكية من أجل النعم الداعيةِ لذريته إلى الشكر والإيمان الناهيةِ عن الكفرِ والعصيان، وتقريرٌ لمضمون ما قبلَه من قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا} وتوضيحٌ لكيفية التصرفِ والانتفاعِ بما فيها، وتلوينُ الخطاب بتوجيهه إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصةً للإيذان بأن فحوى الكلامِ ليس مما يهتدى إليه بأدلة العقلِ كالأمور المشاهدة التي نبه عليها الكفَرَةَ بطريق الخطاب، بل إنما طريقُه الوحيُ الخاصُّ به عليه السلام، وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام من الإنباء عن تشريفه عليه السلام ما لا يخفى، وإذْ ظرفٌ موضوعٌ لزمانِ نسبةٍ ماضيةٍ وقعَ فيه نسبةٌ أخرى مثلها، كما أن إذا موضوعٌ لزمانِ نسبةٍ مستقبلةٍ يقع فيه أخرى مثلُها، ولذلك يجب إضافتُهما إلى الجمل، وانتصابُه بمضمر صرح في قوله عز وجل: {واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} وقوله تعالى: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ} وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرِها، لما أن إيجابَ ذكر الوقتِ إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني، ولأن الوقتَ مشتمِلٌ عليها، فإذا استُحضِر كانت حاضرةً بتفاصيلها، كأنها مشاهَدةٌ عِيانًا، وقيل: ليس انتصابُه على المفعولية، بل على تأويل اذكُرِ الحادث فيه بحذف المظروفِ وإقامةِ الظرفِ مُقامَه.
وأيًا ما كان فهو معطوفٌ على مضمر آخرَ ينسحب عليه الكلام كأنه قيل له عليه السلام غِبَّ ما أوحيَ إليه ما خوطب به الكفرةُ من الوحي الناطقِ بتفاصيل الأمورِ السابقةِ الزاجرة عن الكفر به تعالى ذكِّرهم بذلك واذكُرْ لهم هذه النعمةَ ليتنبهوا بذلك لبُطلان ما هم عليه وينتهوا عنه، وأما ما قيل من أن المقدَّرَ هو اشكُر النعمةَ في خلق السمواتِ والأرض أو تدبَّرْ ذلك فغيرُ سديدٍ ضرورةَ أن مقتضى الكلام تذكيرُ المخاطبين بمواجب الشكرِ وتنبيهُهم على ما يقتضيه، وأين ذاك من مَقامه الجليلِ صلى الله عليه وسلم؟ وقيل: انتصابُه بقوله تعالى: {قالوا} ويأباه أنه يقتضي أن يكون هو المقصودَ بالذات دون سائرِ القصة، وقيل: بما سبق من قوله تعالى: {وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ} ولا يخفى بُعدُه، وقيل: بمضمرٍ دل عليه مضمونُ الآية المتقدمة مثل وبدأ خلقَكم إذ قال. إلخ... ولا ريب في أنه لا فائدةَ في تقييد بدءِ الخلقِ بذلك الوقت، وقيل: بخلقكم أو بأحياكم مضمرًا، وفيه ما فيه، وقيل: إذْ زائدة، ويْعزى ذلك إلى أبي عبيد ومَعْمَر، وقيل: إنه بمعنى قد، واللامُ في قوله عز قائلًا: {للملائكة} للتبليغ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور في هذا الباب مطَّرِدٌ لما في المقول من الطول غالبًا مع ما فيه من الاهتمام بما قُدِّم والتشويقِ إلى ما أُخِّر كما مر مرارًا، والملائكةُ جمعُ ملك باعتبار أصلِه الذي هو مَلأك على أن الهمزة مزيدة كالشمائل في جمع شمأل، والتاء لتأكيد تأنيثِ الجماعة، واشتقاقُه من مَلَك لما فيه من معنى الشدة والقوة، وقيل: على أنه مقلوبٌ من مأْلَكٍ، من الألوكة وهي الرسالة أي موضعَ الرسالة أو مرسلٌ على أنه مصدرٌ بمعنى المفعول، فإنهم وسائطُ بين الله تعالى وبين الناسِ فهم رسلُه عز وجل، أو بمنزلة رسلِه عليهم السلام، واختلفت العقلاءُ في حقيقتهم بعد اتفاقِهم على أنها ذواتٌ موجودةٌ قائمةٌ بأنفسها.
فذهب أكثرُ المتكلمين إلى أنها أجسامٌ لطيفةٌ قادرةٌ على التشكل بأشكال مختلفة، مستدلين بأن الرسلَ كانوا يرَوُنهم كذلك عليهم السلام، وذهب الحكماءُ إلى أنها جواهرٌ مجردةٌ مخالفةٌ للنفوس الناطقةِ في الحقيقية، وأنها أكملُ منها قوة وأكثرُ علمًا يجري منها مَجرى الشمس من الأضواء منقسمةٌ إلى قسمين: قِسمٌ شأنُهم الاستغراقُ في معرفة الحقِّ والتنزُّهِ عن الاشتغال بغيره كما نعتَهم الله عز وجل بقوله: {يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} وهم العِلِّيُّون المقرَّبون، وقسمٌ يدبِّرُ الأمرَ من السماء إلى الأرض حسبما جرى عليه قلمُ القضاء والقدرِ، وهم المدبِّراتُ أمرًا، فمنهم سماويةٌ ومنهم أرضية، وقالت طائفة من النصارى: هي النفوسُ الفاضلةُ البشرية المفارِقةُ للأبدان، ونُقل في شرح كَثرتِهم أنه عليه السلام قال: «أَطَّتِ السَّمَاءُ وحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ما فيها مَوضِعُ قدم إلا وفيه مَلَكٌ ساجدٌ أو راكع» وروي أن بني آدمَ عشرُ الجن، وهما عشرُ حيوانات البَرّ، والكلُّ عشرُ الطيور، والكلُّ عشرُ حيوانات البحار، وهؤلاءِ كلُّهم عشرُ ملائكةِ السماءِ الدنيا، وكلُّ هؤلاءِ عشرُ ملائكةِ السماء الثانية، وهكذا إلى السماء السابعة، ثم كلُّ أولئك في مقابلة ملائكةِ الكُرسيِّ نَزْرٌ قليل، ثم جميعُ هؤلاءِ عشرُ ملائكةِ سُرادقٍ واحدٍ من سُرادقاتِ العرش التي عددُها ستمائة ألفٍ، طولُ كلِّ سُرادقٍ وعَرضُه وسَمكُه إذا قوبلت به السمواتُ والأرضُ وما فيهما وما بينهما لا يكونُ لها عنده قَدْرٌ محسوسٌ، وما منه من مقدارِ شبرٍ إلا وفيه ملكٌ ساجد أو راكعٌ أو قائم، لهم زجَلٌ بالتسبيح والتقديس.
ثم كلُّ هؤلاءِ في مقابلة الملائكةِ الذين يحومون حولَ العرش كالقَطْرةِ في البحر، ثم ملائكةُ اللوحِ الذين هم أشياعُ إسرافيلَ عليه السلام والملائكةُ الذين هم جنودُ جبريلَ عليه السلام لا يُحصي أجناسَهم ولا مُدةُ أعمارِهم ولا كيفياتُ عباداتهم إلا بارِئهُم العليمُ الخبير على ما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ} وروي أنه عليه السلام حين عُرج به إلى السماء رأى ملائكةً في موضعٍ بمنزلةِ شرفٍ يمشي بعضُهم تُجاهَ بعض، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه السلام إلى أين يذهبون؟ فقال جبريلُ: لا أدري إلا أني أراهم منذ خلقتُ ولا أرى واحدًا منهم قد رأيته قبل ذلك، ثم سألا واحدًا منهم منذ كم خلقتَ؟ فقال: لا أدري غير أن الله عز وجل يخلُق في كل أربعمائة ألفِ سنةٍ كوكبًا، وقد خلق منذ خلقني أربعَمائة ألفِ كوكب فسبحانه مِنْ إلهٍ ما أعظمَ قدرَه وما أوسعَ ملكوتَه.
واختُلف في الملائكة الذين قيل لهم ما قيل، فقيل: هم ملائكةُ الأرضِ، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنهم المختارون مع إبليسَ حين بعثه الله عز وجل لمحاربة الجنِّ، حيث كانوا سكانَ الأرض فأفسدوا فيها وسفَكوا الدماءَ فقتلوهم إلا قليلًا، قد أخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائرِ البحار وقُلل الجبالِ وسكنوا الأرض، وخفف الله تعالى عنهم العبادة، وأعطى إبليسَ مُلك الأرض ومُلك السماءِ الدنيا وخِزانةَ الجنة، فكان يعبُد الله تعالى تارةً في الأرض وتارةً في السماء، وأخرى في الجنة، فأخذه العُجب، فكان من أمره ما كان، وقال أكثر الصحابة والتابعين رضوانُ الله تعالى عليهم أنهم كلُّ الملائكة لعموم اللفظ وعدمِ المُخصِّص.
وقولُه تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً} في حيِّز النصب على أنه مقولُ قال، وصيغةُ الفاعل بمعنى المستقبل، ولذلك عمِلت عملَه. وفيها ما ليس في صيغة المضارعِ من الدلالة على أنه فاعلٌ ذلك لا محالةَ وهي من الجَعْل بمعنى التصيير المتعدِّي إلى مفعولين، فقيل: أولُهما خليفةٌ وثانيهما الظرفُ المتقدم على ما هو مقتضى الصِّناعة، فإن مفعولي التصيير في الحقيقة اسمُ صارَ وخبرُه، أولُهما الأول، وثانيهما الثاني، وهما مبتدأٌ وخبرٌ، والأصل في الأرض خليفةٌ ثم قيل: صارَ في الأرض خليفةٌ ثم مصيرٌ في الأرض خليفةٌ فمعناه بعد اللتيا والتي: إني جاعل خليفةً من الخلائف أو خليفةً بعينه كائنًا في الأرض، فإن خبرَ صار في الحقيقة هو الكونُ المقدَّر العامل في الظرف، ولا ريب في أن ذلك ليس مما يقتضيه المقامُ أصلًا، وإنما الذي يقتضيه هو الإخبارُ بجعل آدمَ عليه السلام خليفةً فيها كما يعرب عنه جوابُ الملائكة عليهم السلام، فإذن قولُه تعالى: {خليفةً} مفعولٌ ثانٍ، والظرفُ متعلقٌ بجاعل، قدم على المفعول الصريح لما مر من التشويق إلى ما أُخِّر، أو بمحذوفٍ وقع حالًا مما بعده لكونه نكرة، وأما المفعولُ الأولُ فمحذوفٌ تعويلًا على القرينة الدالة عليه كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} حُذف فيه المفعولُ الأول وهو ضميرُ الأموالِ لدلالة الحالِ عليه وكذا في قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ} حيث حُذف فيه المفعولُ الأول لدلالة يبخلون عليه. أي لا يحسبنَّ البخلاءُ بخلَهم هو خيرًا لهم، ولا ريب في تحقّق القرينةِ هاهنا، أما إنْ حُمل على الحذف عند وقوعِ المحكيِّ فهي واضحةٌ لوقوعه في أثناء ذِكْرِه عليه السلام على ما سنفصله، كأنه قيل: إني خالق بشرًا من طين وجاعلٌ في الأرض خليفة، وإما إنْ حُمل على أنه لم يُحذفْ هناك بل قيل مثَلًا وجاعلٌ إياه خليفةً في الأرض لكنه حُذفَ عند الحكاية فالقرينةُ ما ذُكِرَ من جوابِ الملائكة عليهم السلام.
قال العلامة الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالق بَشَرًا مّن طِينٍ} إن قلت: كيف صح أن يقول لهم بشرًا وما عرَفوا ما البشرُ ولا عهِدوا به؟ قلت: وجهُه أن يكون قد قال لهم: إني خالقٌ خلقًا من صفته كيتَ وكيتَ ولكنه حين حكاه اقتصَر على الاسم انتهى. فحيث جاز الاكتفاءُ عند الحكاية عن ذلك التفصيلِ بمجرد الاسمِ من غير قرينةٍ تدل عليه فما ظنُك بما نحن فيه ومعه قرينةٌ ظاهرةٌ، ويجوز أن يكون من الجعل بمعنى الخَلْق المتعدي إلى مفعولٍ واحد هو خليفةً، وحالُ الظرفِ في التعلق والتقديم كما مر، فحينئذ لا يكون ما سيأتي من كلام الملائكةِ مترتبًا عليه بالذات بل بالواسطة، فإنه رُوي أنه تعالى لما قال لهم: {إِنّي جَاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً} قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال تعالى يكون له ذريةٌ يفسدون في الأرض ويتحاسَدون ويقتُلُ بعضُهم بعضًا، فعند ذلك قالوا ما قالوا والله تعالى أعلم.
والخليفةُ من يخلُفُ غيرَه وينوب مَنابَه، فعيل بمعنى الفاعل والتاء للمبالغة، والمراد به إما آدمُ عليه السلام وبنوه، وإنما اقتُصر عليه استغناءً بذكره عن ذكرهم كما يستغنى عن ذكر القبيلةِ بذكر أبيها كمُضَرَ وهاشمٍ، ومنه «الخلافةُ في قريش» وإما مَنْ يخلُف أو خلف يخلُف فيعمُّه عليه السلام وغيرَه من خلفاءِ ذريتِه، والمرادُ بالخلافة إما الخلافةُ من جهته سبحانه في إجراء أحكامِه وتنفيذِ أوامره بين الناس وسياسةِ الخلقِ لكن لا لحاجةٍ به تعالى إلى ذلك بل لقصور استعدادِ المستخلَف عليهم، وعدمِ لياقتِهم لقبول الفيضِ بالذات فتختصُّ بالخواصِّ من بنيه، وإما الخلافةُ ممن كان في الأرض قبل ذلك فتعمُّ حينئذ الجميع.
{قَالُواْ} استئنافٌ وقعَ جوابًا عما تنساقُ إليه الأذهانُ كأنه قيل: فماذا قالت الملائكة حينئذ، فقيل: قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا}؟ وهو أيضًا من الجعل المتعدي إلى اثنين، فقيل فيهما ما قيل في الأول، والظاهرُ أن الأولَ كلمةُ مَنْ، والثاني محذوفٌ ثقةً بما ذكر في الكلام السابق، كما حُذف الأولُ ثَمةَ تعويلًا على ما ذكر هنا قال قائلهم:
لا تَخَلْنا على عزائك إنا ** طالما قد وشَى بنا الأعداءُ

بحذف المفعول الثاني أي لا تخَلْنا جازعين على عزائك: والمعنى أتجعل فيها من يفسد فيها خليفةً؟ والظرفُ الأولُ متعلقٌ بتجعلُ وتقديمُه لما مر مرارًا والثاني بيُفسِدُ، وفائدتُه تأكيدُ الاستبعادِ لما أن في استخلاف المفسِدِ في محل إفساده من البعد ما ليس في استخلافه في غيره، هذا وقد جُوِّز كونُه من الجعل بمعنى الخلق المتعدي إلى مفعول واحدٍ هو كلمةُ مَنْ، وأنت خبير بأن مدارَ تعجُّبِهم ليس خلقَ من يُفسد في الأرض، كيف لا وإن ما يعقُبه من الجملة الحالية الناطقة بدعوى أحقِّيتِهم منه يقضي ببُطلانه حتمًا إذ لا صِحَّة لدعوى الأحقية منه بالخلق وهم مخلوقون، بل مدارُه أن يُستخلف لعمارة الأرض وإصلاحِها بإجراء أحكامِ الله تعالى وأوامرِه أو يُستخلفَ مكان المطبوعين على الطاعة مَنْ مِنْ شأنِ بني نوعِه الإفسادُ وسفكُ الدماء.
وهو عليه السلامُ وإن كان منزهًا عن ذلك إلا أن استخلافَه مستتبِعٌ لاستخلاف ذرّيتِه التي لا تخلو عنه غالبًا، وإنما أظهروا تعجُّبَهم استكشافًا عما خفِيَ عليهم من الحِكَم التي بدت على تلك المفاسد وألغَتْها، واستخبارًا عما يُزيح شبهتَهم ويرشدهم إلى معرفة ما فيه عليه السلام من الفضائل التي جعلتْه أهلًا لذلك، كسؤال المتعلم عما ينقدِحُ في ذهنه لا اعتراضًا على فعل الله سبحانه ولا شكًا في اشتماله على الحِكمة والمصلحة إجمالًا، ولا طعنًا فيه عليه السلام ولا في ذريته على وجه الغَيْبة، فإن منصِبَهم أجلُّ من أن يُظَنَّ بهم أمثالُ ذلك، قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} وإنما عَرفوا ما قالوا إما بإخبارٍ من الله تعالى حسبما نُقل من قبلُ، أو بتلقٍ من اللوح، أو باستنباطٍ عما ارتكز في عقولهم من اختصاص العِصْمةِ بهم، أو بقياسٍ لأحد الثقلين على الآخر.
{وَيَسْفِكُ الدماء} السفكُ والسفحُ والسبكُ والسكْبُ أنواع من الصَّب، والأولان مختصانِ بالدم، بل لا يستعمل أولُهما إلا في الدم المحرّم، أي يقتل النفوسَ المحرمة بغير حق، والتعبيرُ عنه بسفك الدماء لما أنه أقبحُ أنواعِ القتل وأفظعُه وقرئ يُسفِك بضم الفاء، ويُسفِك ويَسْفِك من أسفك وسَفَك، وقرئ يُسفَكُ على البناء للمفعول وحُذف الراجع إلى مَنْ موصولةً أو موصوفة أي يسفك الدماء فيهم.
{وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} جملة حاليةٌ مقررة للتعجب السابق ومؤكدةٌ له على طريقة قول من يجِدُّ في خدمة مولاه وهو يأمرُ بها غيرَه أتستخدمُ العُصاةَ وأنا مجتهدٌ فيها كأنه قيل: أتستخلفُ من شأنُ ذريته الفسادُ مع وجود مَنْ ليس من شأنه ذلك أصلًا؟ والمقصودُ عرضُ أحقيتِهم منهم بالخلافة واستفسارٌ عما رجَّحهم عليهم مع ما هو متوقَّعٌ منهم من الموانع لا العُجبُ والتفاخرُ، فكأنهم شعَروا بما فيهم من القوة الشهوية التي رذيلتُها الإفراطيةُ الفسادُ في الأرض والقوةِ الغضبيةِ التي رذيلتُها الإفراطية سفكُ الدماء فقالوا ما قالوا وذَهِلوا عما إذا سخَّرَتْهما القوةُ العقلية ومرَّنتْهما على الخير فإنه يحصُل بذلك من علو الدرجةِ ما يقصُر عن بلوغ رُتبةِ القُوةِ العقلية عند انفرادِها في أفاعيلها، كالإحاطة بتفاصيل أحوالِ الجزئيات واستنباطِ الصناعات، واستخراج منافعِ الكائنات من القوة إلى الفعل وغير ذلك مما نيط به أمر الخلافة.
والتسبيح تنزيهُ الله تعالى وتبعيدُه اعتقادًا وقولًا وعملًا عما لا يليق بجنابه سبحانه، من سبَح في الأرض والماءِ إذا أبعدَ فيهما وأمعن، ومنه فرسٌ سَبُوحٌ أي واسع الجرْي وكذلك تقديسُه تعالى من قدَّسَ في الأرض إذا ذهَب فيها وأبعدَ، ويقال: قدَّسه أي طهَّره، فإن مُطَهِّر الشيءِ مُبعِدُه عن الأقذار، والباء في بحمدك متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع حالًا من الضمير، أي ننزِّهُك عن كل ما لا يليقُ بشأنك متلبّسين بحمدك على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقُنا لهذه العبادة، فالتسبيحُ لإظهار صفاتِ الجلالِ، والحمدُ لتذكير صفاتِ الإنعام، واللامُ في لك إما مزيدة والمعنى نقدّسك، وإما صلةٌ للفعل كما في سجدت لله، وإما للبيان كما في سُقيًا لك، فتكون متعلقةً بمحذوف، أي نقدّس تقديسًا لك أي نصِفُك بما يليق بك من العلوّ والعزةِ وننزِّهُك عما لا يليق بك، وقيل: المعنى نطهِّر نفوسَنا عن الذنوب لأجلك، كأنهم قابلوا الفسادَ الذي أعظمُه الإشراكُ بالتسبيح وسفكِ الدماء الذي هو تلويثُ النفس بأقبح الجرائمِ بتطهير النفسِ عن الآثام لا تمدُّحًا بذلك ولا إظهارًا للمِنة بل بيانًا للواقع.
{قَالَ} استئنافٌ كما سبق {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ليس المرادُ به بيانَ أنه تعالى يعلم ما لا يعلمون من الأشياء كائنًا ما كان، فإن ذلك مما لا شُبهة لهم فيه حتى يفتقِروا إلى التنبيه عليه لاسيما بطريق التوكيد، بل بيانَ أن فيه عليه الصلاة والسلام معانيَ مستدعيةً لاستخلافه، إذ هو الذي خفيَ عليهم وبنَوا عليه ما بنَوْا من التعجّب والاستبعاد، فما موصولةً كانت أم موصوفةً عبارةٌ عن تلك المعاني، والمعنى: إني أعلم ما لا تعلمونه من دواعي الخلافة فيه، وإنما لم يقتصِرْ على بيان تحققِها فيه عليه السلام بأن قيل مثلًا: إن فيه ما يقتضيه من غير تعرّضٍ لإحاطته تعالى وغفلتِهم عنه تفخيمًا لشأنه وإيذانًا بابتناء أمرِه تعالى على العلم الرصينِ والحكمةِ المتقنة وصدورِ قولِهم عن الغفلة، وقيل: معناه إني أعلمُ من المصالحِ في استخلافه ما هو خفيٌّ عليكم، وأنَّ هذا إرشادٌ للملائكة إلى العلم بأن أفعالَه تعالى كلَّها حسنةٌ وحِكمةٌ وإن خفي عليهم وجهُ الحسْنِ والحِكمة.
وأنت خبيرٌ بأنه مُشعِرٌ بكونهم غيرَ عالمين بذلك من قبلُ ويكون تعجبُهم مبنيًا على تردّدهم في اشتمال هذا الفعلِ لحكمةٍ ما، وذلك مما لا يليق بشأنهم فإنهم عالمون بأن ذلك متضمِّنٌ لحكمةٍ ما، ولكنهم متردّدون في أنها ماذا؟ هل هو أمرٌ راجعٌ إلى محض حُكم الله عز وجل، أو إلى فضيلةٍ من جهة المستخلَف؟ فبيّن سبحانه وتعالى لهم أولًا على وجه الإجمالِ والإبهامِ أن فيه فضائلَ غائبةً عنهم ليستشرفوا إليها، ثم أبرَزَ لهم طرفًا منها ليعاينوه جَهرةً ويظهَرَ لهم بديعُ صنعِه وحكمتِه وينزاحَ شبهتُهم بالكلية. اهـ.