فصل: (الآية السابعة والعشرون):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[الآية السابعة والعشرون]:

{وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}.
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً: اختلف المفسرون في معناها؟ فذهب جماعة إلى أنه من بقية أحكام الجهاد، لأنه سبحانه لما بالغ في الأمر بالجهاد والانتداب إلى الغزو كان المسلمون إذا بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم سرية إلى الكفار، ينفرون جميعا ويتركون المدينة خالية، فأخبرهم سبحانه بأنه ما كان لهم ذلك، أي ما صح لهم ولا استقام أن ينفروا جميعا.
فَلَوْلا: بمعنى هلا، فهي تحضيضية على معنى الطلب.
نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ: ويبقى من عدا هذه الطائفة النافرة، ويكون الضمير في قوله: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ}: عائدا إلى الفرقة الباقية.
والمعنى أن طائفة من هذه الفرقة تخرج إلى الغزو، ومن بقي من الفرقة يقفون لطلب العلم ويعلمون الغزاة إذا رجعوا إليهم من الغزو، أو يذهبون في طلبه إلى المكان الذي يجدون فيه من يتعلمون منه ليأخذوا عنه الفقه في الدين.
{وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ}: عطف علة، ففيه إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم الاستقامة وتبليغ الشريعة، لا الترفع على العباد والتبسط في البلاد.
وذهب آخرون إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد، بل هي حكم مستقل بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم والتفقه في الدين، جعله اللّه سبحانه متصلا بما دل على إيجاب الخروج إلى الجهاد، فيكون السفر نوعين:
الأول: سفر الجهاد.
والثاني: السفر لطلب العلم.
ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر.
والفقه: هو العلم بالأحكام الشرعية، وبما يتوصل به إلى العلم بها، من لغة ونحو وصرف وبيان وأصول. وقد جعل اللّه سبحانه الغرض من هذا هو التفقه في الدين، وإنذار من لم يتفقه، فجمع بين المقصدين الصالحين، والمطلبين الصحيحين، وهما:
تعلّم العلم وتعليمه، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين فهو طالب لغرض دنيوي لا لغرض ديني.

.[الآية الثامنة والعشرون]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)}
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} أمر سبحانه المؤمنين بأن يجتهدوا في مقاتلة من يليهم من الكفار في الدار والبلاد والنسب، وأن يأخذوا في حربهم بالغلظة والشدة.
والجهاد واجب لكل الكفار، وإن كان الابتداء بمن يلي المجاهدين منهم أهم وأقدم، ثم الأقرب فالأقرب. اهـ.

.قال السايس:

من سورة التوبة:
قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)}
تعاهد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم مع الكفار من مشركي مكة وغيرهم على ألا يصد عن البيت الحرام أحد من الطرفين، ولا يزعج أحد في الأشهر الحرم. وهذا هو العهد العام الذي كان بينه عليه الصلاة والسلام وبين أهل الشرك من العرب، وكان من وراء ذلك عهود بينه عليه الصلاة والسلام وبين كثير من قبائل العرب إلى آجال مسماة، وقد نقض كثير من المشركين عهودهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
ولمكانة الدين الإسلامي من مكارم الأخلاق، وللإشارة إلى أنه ليس الغرض من فرض الجهاد سفك الدماء، وإنما المهم الوصول إلى الإيمان وترك الجحود. أرشد اللّه المؤمنين بقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ}. إلخ. إلى أن من جاء من المشركين الذي نقضوا العهد يطلب الأمان ليسمع كلام اللّه، ويتدبر، ويطلع على حقيقة الدين، يجب تأمينه وحمايته حتى يصل إلى غايته، ولا يجوز قتله، ولا التعدي عليه. ومتى أراد العودة إلى بلاده يجب تيسير الطريق أمامه ليصل إلى مأمنه، أي مسكنه الذي يأمن فيه. ذلك التسامح الذي أمرتكم به من إجارة المستجير منهم، وإبلاغه مأمنه بسبب أن هؤلاء المشركين قوم لا يعلمون حقيقة الإسلام، ومن جهل شيئا عاداه، أو هم قوم جهلة، ليسوا من أهل العلم، فلابد من إعطائهم الأمان حتى يفهموا الحق، وحينئذ لا تبقى لهم معذرة.
وقد ورد أنه جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأجل لسماع كلام اللّه، أو لحاجة أخرى فهل يقتل؟ فقال علي: لا، إنّ اللّه تعالى قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}.
وهنا أمور:
الأول: أن المذكور في الآية كون المستجير طالبا لسماع القرآن، ويلحق به كونه طالبا لسماع الأدلة على كون الإسلام حقا، وكونه طالبا للجواب عن الشبهات التي عنده، لأنّ كل هؤلاء يطلبون العلم ويسترشدون عن الحق، ومن كان كذلك تجب إجارته.
الثاني: قيل: المراد من قوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} سماع جميع القرآن، وقيل:
سماع سورة براءة، لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين، وقيل: سماع كل ما يدل على أن الإسلام حق.
الثالث: نصّ الفقهاء من الحنفية على أن الحربي إذا دخل دار الإسلام مستجيرا لغرض شرعي كسماع كلام اللّه، أو دخل بأمان لتجارة وجب تأمينه بحيث يكون محروسا في نفسه وماله إلى أن يبلغ داره التي يأمن فيها.
يؤخذ من الآية ما يأتي:
1- جواز تأمين الحربي إذا طلب ذلك من المسلمين ليسمع ما يدل على صحة الإسلام.
2- أنه يجب علينا تعليم كل من التمس منا أن نعلمه شيئا من أمور الدين.
3- أنه يجب على الإمام أن يحفظ الحربي المستجير، وأن يمنع الناس عن أن ينالوه بشيء من الأذى، لأن هذا هو المقصود من الإجارة والتأمين.
4- أنه يجب على الإمام أن يبلغه مأمنه بعد قضاء حاجته، فلا يجوز تمكينه من الإقامة في دار الإسلام إلا بمقدار قضاء حاجته، عملا بإشارة قوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} وقد نص الفقهاء من الحنفية على أنه يجب على الإمام أن يأمره بالخروج متى انتهت حاجته، وأن يعلنه بأنه إن أقام بعد الأمر بالخروج سنة في دار الإسلام فلا يمكّن من الرجوع إلى بلاد الحرب، ويصير ذميا، وتوضع عليه الجزية.
قال الله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)} شروع في تحقيق حقيقة ما سبق من البراءة وأحكامها المتفرعة عليها، وتبيين الحكمة الداعية إلى ذلك، بأنه إذا ظهروا علينا لا يرقبون فينا إلّا ولا ذمة.
و{كيف} للاستفهام الإنكاري لا بمعنى إنكار الواقع، بل بمعنى إنكار الوقوع.
و{يكون} من الكون التام. و{كيف} محلها النصب على التشبيه بالحال أو الظرف، أو من الكون الناقص، و{عهد} اسمها، وفي خبرها ثلاثة أوجه:
الأول: أنه {كيف} وقدم للاستفهام، و{للمشركين} متعلّق بمحذوف وقع حالا من {عهد} أو متعلق بيكون عند من يجوّز التعلق بالناقص.
والثاني: أن خبر {يكون} هو {للمشركين} و{عند} على هذين ظرف للعهد، أو ليكون، أو صفة للعهد.
والثالث: أن الخبر {عند اللّه}، و{للمشركين} حينئذ متعلّق بمحذوف حال من {عهد} أو متعلق بيكون كما تقدم، أو بالاستقرار الذي تعلّق به الخبر، ولا يضرّ تقديم معمول الخبر على الاسم لكونه حرف جر. و{كيف} على الوجهين الثاني والثالث نصب على التشبيه بالظرف أو الحال، كما في صورة الكون التام، والمراد بالمشركين الناكثون للعهد، لأنّ البراءة إنما هي في شأنهم.
والعهد: ما يتفق رجلان أو فريقان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة، فإن أكّداه ووثقاه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به سمي ميثاقا، وهو مشتق من الوثاق بالفتح، وهو الحبل والقيد. وإن أكّداه باليمين خاصّة سمي يمينا، وقد يسمّى بذلك لوضع كل من المتعاقدين يمينه في يمين الآخر عند عقده.
وفي توجيه الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته لأنّ كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال قطعا. فإذا انتفت جميع أحوال وجوده، فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني: أي على حال. أو في أي حال يوجد لهم عهد معتدّ به عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ يستحق أن تراعى حقوقه، ويحافظ عليه إلى إتمام المدة، ولا يتعرض لهم بسببه قتلا ولا أخذا، وتكرير كلمة {عند} للإيذان بعدم الاعتداد به عند كل من اللّه تعالى ورسوله على حدة.
والمعنى: بأية صفة وأية كيفية يثبت للمشركين عهد من العهود عند اللّه يقره لهم في كتابه وعند رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم يفي لهم به، وتفون به أيها المؤمنون اتباعا له صلّى اللّه عليه وسلّم، وحالهم الذي بينتها الآية التالية تأبى ثبوت ذلك لهم {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}، في هذا الاستثناء وجهان:
أحدهما: أنه منقطع، أي لكن الذين عاهدتم إلخ.
والثاني: أنه متصل، وفيه حينئذ احتمالان: أحدهما: أنه منصوب على أصل الاستثناء من (المشركين) والثاني أنه مجرور على البدل منهم، لأنّ معنى الاستفهام المتقدم نفي، أي ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا.
وعلى أنه منقطع فالذين مبتدأ خبره جملة {فما استقاموا}، وهؤلاء المعاهدون المستثنون هنا هم المذكورون سابقا في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا}. إلخ [التوبة: 4] وإنما أعيد ذكر استثنائهم لتأكيده بشرطه المتضمن لبيان السبب الموجب للوفاء بالعهد. وهو أن تكون الاستقامة عليه مرعية من كل واحد من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية مدته.
وهذا زائد على ما هنالك من وصفهم بأنه لم ينقصوا من شروط العهد شيئا، ولم يظاهروا على المسلمين أحدا، واعلم أن قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} اعتراض بين قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} وقوله المفسّر له: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً}.
وقوله: {عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} المراد به جميع الحرم كما هي عادة القرآن إلا ما استثني، فالعندية فيه على حذف مضاف، أي عند قرب المسجد الحرام، وكان ذلك العهد يوم الحديبية سنة ست.
{فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} أي فمهما يستقم لكم هؤلاء فاستقيموا لهم. أو فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، إذ لا يجوز أن يكون الغدر ونقض العهد من قبلكم.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} تعليل لوجوب الامتثال، وتبيين على أنّ مراعاة العهد من باب التقوى، وأن التسوية بين الغادر والوفي منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا.
ومما يستفاد من هذه الآية: أن العهد المعتد به عند اللّه وعند الرسول هو عهد غير الناكثين، وأن من استقام على عهده نعامله بمقتضاه، وأن مراعاة العهد من تقوى اللّه التي يرضاها لعباده.
قال الله تعالى: {ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}
لما بدأ اللّه سبحانه وتعالى سورة التوبة بذكر البراءة من المشركين وبالغ في إيجاب ذلك بتعداد فضائحهم وقبائحهم أراد أن يحكي شبهاتهم التي كانوا يحتجون بها في أنّ هذه البراءة غير جائزة، مع الجواب عنها.