فصل: مسائل: في أحكام الإمامة والخلافة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مسائل: في أحكام الإمامة والخلافة:

.المسألة الأولى: حكم الخروج على الإمام لفسق أو بدعة:

إذا طرأ على الإمام الأعظم فسق أو دعوة إلى بدعة، هل يكون ذلك سببًا لعزله والقيام عليه أو لا؟
قال بعض العلماء: إذا صار فاسقًا أو داعيًا إلى بدعة جاز القيام عليه لخلعه، والتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا يجوز القيام عليه لخلعه إلا إذا ارتكب كفرًا بواحًا عليه من الله برهان. فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: «إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان».
وفي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خيار أئمتكم الذين يحبونكم وتحبونهم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم» قال: قلنا يا رسول الله: أفلا تنابذهم عند ذلك؟ قال: «لا ما أقاموا فيكم الصلاة. إلا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله تعالى، ولا ينزعن يدًا من طاعة».
وفي صحيح مسلم أيضًا: من حديث أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أُمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع»، قالوا: يا رسول الله أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا ما صلوا».
وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر. فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت إلا مات ميتةً جاهليةً».
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يدًا مِن طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهليةً».
والأحاديث في هذا كثيرة. فهذه النصوص تدل على منع القيام عليه، ولو كان مرتكبًا لما لا يجوز، إلا إذا ارتكب الكفر الصريح الذي قام البرهان الشرعي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أنه كفر بواح، أي: ظاهر بادٍ لا لبس فيه.
وقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن، وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة، ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك. ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة. فأبطل المحنة، وأمر بإظهار السنة.
واعلم أنه أجمع جميع المسلمين على أنه لا طاعة لإمام ولا غيره في معصية الله تعالى. وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا لبس فيها ولا مطعن، كحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»، أخرجه الشيخان وأبو داود.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال في السَّرية الذين أَمرَهم أَميرهم أَن يدخلوا في النار: «لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا. إِنما الطاعة في المعروف» وفي الكتاب العزيز: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12].

.المسألة الثانية: هل يجوز نصب خليفتين كلاهما مستقل دون الآخر؟

في ذلك ثلاثة أقوال:
الأول: قول الكرامية بجواز ذلك مطلقًا محتجين بأن عليًا ومعاوية كانا إمامين واجبي الطاعة كلاهما على من معه. وبأن ذلك يؤدي إلى كون كل واحد منهما أقوم بما لديه وأضبط لما يليه.
وبأنه لما جاز بعث نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة كانت الإمامة أولى.
القول الثاني: قول جماهير العلماء من المسلمين: إنه لا يجوز تعدد الإمام الأعظم، بل يجب كونه واحدًا، وأن لا يتولى على قطر من الأقطار إلا أمراؤه المولون من قبله، محتجين بما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما».
ولمسلم أيضًا من حديث عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أتاكم وأمركم جميعٌ على رجلٍ واحد يريد أن يشق عصاكم أَو يفرق جماعتكم فاقتلوه».
وفي رواية: «فاضربوه بالسيف كائنًا من كان».
ولمسلم أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: «ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»، ثم قال: سمعته أُذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعاه قلبي.
وأبطلوا احتجاج الكرامية بأن معاوية أيام نزاعه مع علي لم يدعِ الإمامة لنفسه، وإنما ادعى ولاية الشام بتولية من قبله من الأئمة. ويدل لذلك:
إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما فقط لا كل منهما.
وأن الاستدلال بكون كل منهما أقوم بما لديه وأضبط لما يليه، وبجواز بعث نبيين في وقت واحد، يرده قوله صلى الله عليه وسلم: «فاقتلوا الآخر منهما» ولأن نصب خليفتين يؤدي إلى الشقاق وحدوث الفتن.
القول الثالث: التفصيل في منع نصب إمامين في البلد الواحد والبلاد المتقاربة، ويجوز في الأقطار المتنائية كالأندلس وخراسان.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان، جاز ذلك على ما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى. انتهى منه بلفظه.
والمشار إليه في كلامه: نصب خليفتين. وممن قال بجواز ذلك: الأستاذ أبو إسحاق كما نقله عنه إمام الحرمين، ونقله عنه ابن كثير والقرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة.
وقال ابن كثير: قلت: وهذا يشبه حال الخلفاء بني العباس بالعراق، والفاطميين بمصر، والأمويين بالمغرب.

.المسألة الثالثة: هل للإمام أن يعزل نفسه؟

قال بعض العلماء: له ذلك. قال القرطبي: والدليل على أن له عزل نفسه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أقيلوني أقيلوني، وقول الصحابة رضي الله عنهم: لا نقيلك ولا نستقيلك.
قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فمن ذا يؤخرك؟ رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك؟
وقال: فلو لم يكن له ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه. ولقالت له ليس لك أن تقول هذا.
وقال بعض العلماء: ليس له عزل نفسه. لأنه تقلد حقوق المسلمين فليس له التخلي عنها.
قال مقيده- عفا الله عنه- إن كان عزله لنفسه لموجب يقتضي ذلك كإخماد فتنة كانت ستشتعل لو لم يعزل نفسه، أو لعلمه من نفسه العجز عن القيام بأعباء الخلافة، فلا نزاع في جواز عزله نفسه. ولذا أجمع جميع المسلمين على الثناء على سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحسن بن علي رضي الله عنهما، بعزله نفسه وتسليمه الأمر إلى معاوية، بعد أن بايعه أهل العراق. حقنًا لدماء المسلمين وأثنى عليه بذلك قبل وقوعه، جده رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن ابني هذا سيد. ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين» أخرجه البخاري وغيره من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

.المسألة الرابعة: هل يجب الإشهاد على عقد الإمامة؟

قال بعض العلماء: لا يجب. لأن إيجاب الإشهاد يحتاج إلى دليل من النقل. وهذا لا دليل عليه منه.
وقال بعض العلماء: يجب الإشهاد عليه. لئلا يدعي مدعٍ أن الإمامة عقدت له سرًا، فيؤدي ذلك إلى الشقاق والفتنة.
والذين قالوا بوجوب الإشهاد على عقد الإمامة. قالوا: يكفي شاهدان، خلافًا للجبائي في اشتراطه أربعة شهود وعاقدًا ومعقودًا له، مستنبطًا ذلك من ترك عمر الأمر شورى بين ستة فوقع الأمر على عاقد، وهو عبد الرحمن بن عوف ومعقود له، وهو عثمان، وبقي الأربعة الآخرون شهودًا، ولا يخفى ضعف هذا الاستنباط كما نبه عليه القرطبي وابن كثير، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}.
أي: قومًا يخلف بعضهم بعضًا، قرنًا بعد قرن. كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165] وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62] وقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] وقال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم: 59]. ويجوز أن يراد: خليفة منكم، لأنهم كانوا سكان الأرض، فخلفهم فيها آدم وذريّته، وأن يراد: خليفة مني، لأن آدم كان خليفة الله في أرضه، وكذلك كل نبيّ: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26] والغرض من إخبار الملائكة بذلك، هو أن يسألوا ذلك السؤال، ويجابوا بما أجيبوا به، فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم، أو الحكمة: تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيًا عن المشاروة أو تعظيم شأن المجعول، وإظهار فضله، بأن بشرَّ بوجود سكّان ملكوته، ونوّه بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده، ولقَّبَه بالخليفة.
{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} هذا تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها، واستعلام عن الحكمة في ذلك. أي: كيف تستخلف هؤلاء، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك، فنحن نسبح بحمدك، ونقدس لك أي: ولا يصدر عنّا شيء من ذلك وهلاّ وقع الاقتصار علينا.....؟ فقال تعالى مجيبًا لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي: إن لي حكمة في خلق الخليفة لا تعلمونها.
فإن قلت: من أين عرف الملائكة ذلك حتى تعجبوا منه، وإنما هو غيب؟ أجيب: بأنهم عرفوه: إما بعلمٍ خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية؛ فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف: {مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس، ما يقع بينهم من المظالم، ويردَعُهُم عن المحارم والمآثم.
قال العلامة برهان الدين البقاعي في تفسيره: وما يقال من أنه كان قبل آدم، عليه السلام، في الأرض خلق يعصون، قاس عليهم الملائكة حال آدم عليه السلام كلامٌ لا أصل له. بل آدم أول ساكنيها بنفسه. انتهى.
وقوله تعالى: {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} أي: ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك، ملتبسين بحمدك على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة.
وقوله: {نُقَدِّسُ لَكَ} أي: نصفك بما يليق بك من العلوّ والعزّة وننزّهك عمّا لا يليق بك. وقيل: المعنى نُطَهّر نفوسنا عن الذنوب لأجلك، كأنهم قابلوا الفساد الذي أعظمه الإشراك بالتسبيح. وسفك الدماء الذي هو تلويث النفس بأقبح الجرائم، بتطهير النفس عن الآثام. لا تمدحًا بذلك، ولا إظهارًا للمنة، بل بيانا للواقع.

.تنبيهات في وجوه فوائد من الآية:

الأول: دلت الآية على أن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعته، وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه، لاسيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال، ويكون بالحال، والتوجه إلى الله تعالى في إفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العلمي، والاستدلال العقلي، والإلهام الإلهي.
الثاني: إذا كان من أسرار الله تعالى، وحكمه، ما يخفى على الملائكة، فنخن أولى بأن يخفى علينا، فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها، لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلًا.......!
الثالث: إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم، وأجابهم عن سؤالهم بإقامة الدليل تعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم؛ وذلك أنه تعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون علّم آدم الأسماء، ثم عرضهم على الملائكة، كما سيأتي بيانه.
الرابع: تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير برهان، على إنكار ما أنكروا، وبطلان ما جحدوا، فإذا كان الملأ الأعلى قد مُثلوا على أنهم يختصمون، ويطلبون البيان والبرهان، فيما لا يعلمون، فأجدرْ بالناس أن يكونوا معذورين، وبالأنبياء أن يعاملوهم كما عامل الله الملائكة المقربين، أي: فعليك يا محمد أن تصبر على هؤلاء المكذبين، وترشد المسترشدين، وتأتي أهل الدعوة بسلطان مبين. وهذا الوجه هو الذي يبين اتصال هذه الآيات بما قبلها، وكون الكلام لا يزال في موضوع الكتاب، وكونه لا ريب فيه، والرسول، وكونه يبلغ وحي الله تعالى، ويهدي به عباده، واختلاف الناس فيها.
ومن خواص القرآن الحكيم الانتقال من مسألة إلى أخرى مباينة لها، أو قريبة منها، مع كون الجميع في سياق موضوع واحد. كذا في تفسير مفتي مصر. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
بعد أن أخبرنا الحق سبحانه وتعالى. أنه خلق جميع ما في الكون. أراد أن يخبرنا عمن خلقه لعمارة هذا الكون. فكأن القصة التي بدأ الله سبحانه وتعالى بها قصص القرآن كانت هي قصة آدم أول الخلق. ولقد وردت هذه القصة في القرآن الكريم كثيرا لتدلنا لماذا أخبرنا الحق سبحانه وتعالى بهذه القصة؟ وجاءت لتدلنا أيضا على صدق البلاغ عن الله. واقرأ قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ} [الكهف: 13] كلمة الحق التي جاءت هنا لتدلنا على أن هناك قصصا. ولكن بغير حق. والله سبحانه وتعالى أراد أن يخرج قصصه عن دائرة القصص التي يتداولها الناس أو قصص التاريخ لإمكان مخالفتها الواقع وتأتي بغير حق. وهناك قصص تروي في الدنيا ولا واقع لها، بل هي من قبيل الخيال.
وكلمة قصة. مأخوذة من قص الأثر. بمعنى أن يتبع قصاص الأثر في الصحراء الآثار التي يشاهدها على الرمال حتى يصل إلى مراده. عندما يصل إلى نهاية الأثر.. وما دمنا قد عرفنا أن الله يقص الحق. نعرف أن قصص القرآن الكريم كلها أحداث وقعت فعلا. ولكل قصة في القرآن عبرة. أو شيء مهم يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إليه. فمرة تكون القصة لتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت المؤمنين: واقرأ قوله تعالى: {وَكُلًا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120].
فكل قصة تثبت فؤاد الرسول والمؤمنين في المواقف التي تزلزلهم فيها الأحداث. وقصص القرآن ليست لقتل الوقت. ولكن الهدف الأسمى للقصة هو تثبيت ونفع حركة الحياة الإيمانية. ولو نظرنا إلى قصص القرآن الكريم نجد أنها تتحدث عن أشياء مضت وأصبحت تاريخا. والتاريخ يربط الأحداث بأزمانها. وقد يكون التاريخ لشخص لا لحدث. ولكن الشخص حدث من أحداث الدنيا. ولو قرأت تاريخ كل حدث لوجدت أنه يعبر عن وجهة نظر راويه. فكل قصص التاريخ كتبت من وجهات نظر من رووها. ولذلك. فالقصة الواحدة تختلف باختلاف الراوي.
ولكن قصص القرآن الكريم. هو القصص الحق.. والعبرة في قصص القرآن الكريم أنها تنقل لنا أحداثا في التاريخ. تتكرر على مر الزمن. ففرعون مثلا هو كل حاكم يريد أن يُعْبَدَ في الأرض. وأهل الكهف مثلا هي قصة كل فئة مؤمنة هربت من طغيان الكفر وانعزلت لتعبد الله. وقصة يوسف عليه السلام هي قصة كل أخوة نزغ الشيطان بينهم فجعلهم يحقدون على بعضهم. وقصة ذي القرنين هي قصة كل حاكم مصلح أعطاه الله سبحانه الأسباب في الدنيا ومكنه في الأرض. فعمل بمنهج الله وبما يرضي الله. وقصة صالح هي قصة كل قوم طلبوا معجزة من الله. فحققها لهم فكفروا بها.
وقصة شعيب عليه السلام.. هي قصة كل قوم سرقوا في الميزان والمكيال.
وهكذا كل قصص القرآن. قصص تتكرر في كل زمان. حتى في الوقت الذي نعيش فيه تجد فيه أكثر من فرعون. وأكثر من أهل كهف يفرون بدينهم. وأكثر من قارون يعبد المال والذهب.. ويحسب أنه استغنى عن الله. ولذلك جاءت شخصيات قصص القرآن مجهلة إلا قصة واحدة هي قصة عيسى بن مريم ومريم ابنة عمران. لماذا؟ لأنها معجزة لن تتكرر. ولذلك عرفها الله لنا فقال مريم ابنة عمران وقال عيسى بن مريم حتى لا يلتبس الأمر. وتدعي أي امرأة أنها حملت بدون رجل. مثل مريم. نقول: لا. معجزة مريم لن تتكرر. ولذلك حددها الله تعالى بالاسم. فقال: عيسى بن مريم. ومريم ابنة عمران.. أما باقي قصص القرآن الكريم فقد جاءت مجهلة. فلم يقل لنا الله تعالى من هو فرعون موسى. ولا من هم أهل الكهف ولا من هو ذو القرنين ولا من هو صاحب الجنتين. إلي آخر ما جاء في القرآن الكريم. لأنه ليس المقصود بهذه القصص شخصا بعينه. لا تتكرر القصة مع غيره، وبعض الناس يشغلون أنفسهم بمن هو فرعون موسى؟ ومن هو ذو القرنين.. الخ نقول لهم لن تصلوا إلى شيء لأن الله سبحانه وتعالى قد روى لنا القصة دون توضيح للأشخاص. لنعرف أنه ليس المقصود شخصا بعينه. ولكن المقصود هو الحكمة من القصة.
والقصص في القرآن لا ترد مكررة. وقد يأتي بعض منها في آيات. وبعض منها في آيات أخرى. ولكن اللقطة مختلفة. تعطينا في كل آية معلومة جديدة. بحيث أنك إذا جمعت كل الآيات التي ذكرت في القرآن الكريم. تجد أمامك قصة كاملة متكاملة. كل آية تضيف شيئا جديدا.
وأكبر القصص في القرآن الكريم. قصة موسى عليه السلام. ويذكرنا القرآن الكريم بها دائما لأن أحداثها تعالج قصة أسوأ البشر في التاريخ. وفي كل مناسبة يذكرنا الله بلقطة من حياة هؤلاء. واقرأ قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى:
{إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} [طه: 38- 39].
والفهم السطحي يظن أن هذا تكرار ونقول لا. فقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ}.
وهذه اللقطة تدل على أن الله سبحانه وتعالى يعد أم موسى إعدادا إيمانيا للحدث. ولكن عند وقوع الحدث تتغير القصة على نمط سريع {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ}.
كلام يناسب لحظة وقوع الحدث.. فالآية الأولى.. بينت لنا أن أم موسى أرضعته قبل أن تضعه في التابوت. وأنها ستلقيه في اليم عندما يحدث خطر وتخاف عليه من القتل. وفيه تطمين لها. ألا تخاف ولا تحزن. لأن الله منجيه. وفيها بشارتان: أن الله سيرده لأمه. وأن الله قد اختاره رسولا.
نأتي إلى الآية الثانية التي تكمل لنا هذه اللقطة فتقول: {اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} هنا نعرف أن أم موسى ستلقيه في تابوت، وهو ما لم يذكر في الآية السابقة. ثم بعد ذلك نعلم أن الله سبحانه وتعالى أصدر أمره إلى الماء أن يلقي التابوت إلى الساحل. وهذا ما لم يرد في الآية السابقة. ونعرف أيضا أن الذي سيأخذه وهو فرعون. ستكون بينهما عداوة متبادلة.. وهكذا نرى أن آيتي القصة. يكمل بعضهما بعضا. وليس هناك تكرار. والله سبحانه وتعالى في الآية الثانية يريد أن يثبت أنه ستكون هناك عداوة متبادلة بين موسى وفرعون.. كما أثبتت عداوة فرعون لله جل جلاله ولموسى، فقال: {عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} ولكن العداوة لا تستقر إلا إذا كانت متبادلة. فتأتي آية ثالثة لتكمل الصورة.. في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8].
وهكذا بينت لنا الآية الكريمة كيف أن العداوة بين فرعون وموسى ستستقر حتى يقضى على فرعون. لأنه إذا كان إنسان عدوا لك. وأنت تقابل العداوة بالإحسان تخمد العداوة بعد قليل. إذن هذه الآيات ليست تكرارا ولكنها آيات تكمل القصة.. وتعطينا الصورة الكاملة المتكاملة.
ولكن لماذا لم تأت قصة موسى متكاملة كقصة يوسف؟ لأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يثبت بها نبينا عليه الصلاة والسلام والمؤمنين. فتأتي هنا لقطة وهنا لقطة. لتؤدي ما هو مطلوب من التثبيت بما لا يخل.. لأن الآيات تعطينا القصة متكاملة.
وهكذا قصة آدم. جاءت لنا في آيات متعددة؛ لتعطينا في مجموعها قصة كاملة. وفي الوقت نفسه كل آية لها حكمة يحتاج إليها التوقيت الذي نزلت فيه.. فالله سبحانه وتعالى يروي لنا بداية الخلق. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب».
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعرفنا كيف بدأ الخلق. وقصة عداوة إبليس لآدم وذريته.. فتكلم الله سبحانه وتعالى عن أول البشر. عرفنا اسمه. وهو آدم عليه السلام. وتكلم عن المادة التي خلق منها. وتكلم عن المنهج الذي وضعه لآدم. وحدثنا عن النقاش الذي دار مع الملائكة. كما أخبرنا بأن آدم سيكون خليفة في الأرض. وأنه علمه الأسماء كلها ليقود حركة حياته. وعلمنا منطق علم الأشياء. وعلم مسمياتها. وحدثنا عن الحوار الذي حدث بين إبليس أمام ربه حينما أبى السجود.
وبين لنا حجة إبليس في الامتناع عن السجود، وخطة إبليس ومدخله إلى قلوب المؤمنين بالإغواء والوسوسة وغير ذلك.
إذن فهناك أشياء كثيرة تتعرض لها قصة آدم، ولو أن بشرا يريد أن يؤرخ لآدم ما استطاع أن يأتي بكل هذه اللقطات. ولكن الحق سبحانه وتعالى جعل كل لقطة تأتي للتثبيت.
والآية الكريمة التي نحن بصددها لم تأت في الأعراف ولا في الحجر ولا في الإسراء ولا في الكهف ولا في طه. وبهذا نعرف أنه ليس هناك تكرار.. فالله سبحانه وتعالى أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة. هنا لابد لنا من وقفة. أخلق آدم كفرد. أم خلقه الله وكل ذريته مطمورة فيه إلى يوم القيامة، إذا قرأنا القرآن الكريم نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} [الأعراف: 11].
الخطاب هنا للجمع. لآدم وذريته. فكأنه سبحانه وتعالى يشير إلى أن الأصل الأول للخلق آدم، وهو مطمور فيه صفات المخلوقين من ذريته إلى أن تقوم الساعة وراثة. أي أنه ساعة خلق آدم.. كان فيه الذرات التي سيأخذ منها الخلق كله. هذا عن هذا.. حتى قيام الساعة.
ولقد قلتُ إن كل واحد منا فيه ذرة أو جزئ من آدم، فأولاد آدم أخذوا منه والجيل الذي بعدهم أخذ من الميكروب الحي الذي أودعه آدم في أولاده. والذين بعدهم أخذوا أيضا من الجزيء الحي الذي خُلِق في الأصل مع آدم. وكذلك الذين بعدهم. والذين بعدهم. والحياة لابد أن تكون حلقة متصلة. كل منا يأخذ من الذي قبله ويعطي الذي بعده. ولو كان هناك حلقة مفقودة. لتوقفت الحياة. كأن يموت الرجل قبل أن يتزوج. فلا تكون له ذرية من بعده. تتوقف حلقة الحياة. فكون حلقة الحياة مستمرة. دليل أنها حياة متصلة. لم تتوقف. ومادامت الحياة من عهد آدم إلى يومنا هذا متصلة. فلابد أن يكون في كل منا ذرة من آدم الذي هو بداية الحياة وأصلها. وانتقلت بعده الحياة في حلقات متصلة إلى يومنا هذا وستظل إلى يوم القيامة.
فأنا الآن حي. لأنني نشأت من ميكروب حي من أبي. وأبي أخذ حياته من ميكروب حي من أبيه. وهكذا حتى تصل إلى آدم، إذن فأنت مخلوق من جزيء حي فيه الحياة لم تتوقف منذ آدم إلى يومنا هذا. ولو توقفت لما كان لك وجود.
إذن فحياة الذين يعيشون الآن موصولة بآدم. لم يطرأ عليها موت. والذين سيعيشون وقت قيام الساعة حياتهم أيضا موصولة بآدم أول الخلق. والحق سبحانه وتعالى. حين أمر الملائكة بالسجود لآدم. فإنهم سجدوا لآدم ولذريته إلى أن تقوم الساعة. وذرية آدم كانت مطمورة في ظهره. وشهدت الخلق الأول. إذن فقول الحق سبحانه وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} فيه جزئية جديدة لقصة الخلق.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ} أي أن الله سبحانه وتعالى يطلب من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أن يقول أنه عند خلق آدم. خلقه خليفة في الأرض. والكلام هنا لا يعني أن الله سبحانه وتعالى يستشير أحدا في الخلق. بدليل أنه قال: {إني جاعل} إذن فهو أمر مفروغ منه. ولكنه إعلام للملائكة.. والله سبحانه وتعالى. عندما يحدث الملائكة عن ذلك فلأن لهم مع آدم مهمة. فهناك المدبرات أمرا. والحفظة الكرام. وغيرهم من الملائكة الذين سيكلفهم الحق سبحانه وتعالى بمهام متعددة تتصل بحياة هذا المخلوق الجديد. فكان الإعلام. لأن للملائكة عملا مع هذا الخليفة.
قد يقول بعض الناس. أن حياة الإنسان على الأرض تخضع لقوانين ونواميس. نقول ما يدريك أن وراء كل ناموس ملكا؟
ولكن هذا الخليفة سيخلف من؟ قد يخلف بعضه بعضا. في هذه الحالة يكون هنا إعلام من الله بأن كل إنسان سيموت ويخلفه غيره. فلو كانوا جميعا سيعيشون ما خلف بعضهم بعضا. وقد يكون الإنسان خليفة لجنس آخر. ولكن الله سبحانه وتعالى.. نفى أن يخلف الإنسان جنسا آخر. واقرأ قوله جل جلاله: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 19- 20].
والخلق الجديد هو من نوع الخلق نفسه الذي أهلكه الله. والله سبحانه وتعالى يخبرنا أن البشر سيخلفون بعضهم إلى يوم القيامة.. فيقول جل جلاله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا} [مريم: 59].
ولكن هذا يطلق عليه خَلْفٌ. ولا يطلق عليه خليفة.
والشاعر يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

ولكن الله جعل الملائكة يسجدون لآدم ساعة الخلق وجعل الكون مسخرا له فكأنه خليفة الله في أرضه. أمده بعطاء الأسباب. فخضع الكون له بإرادة الله. وليس بإرادة الإنسان. والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي: «يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك.. وإلا تفعل ملأت يدك شغلا ولم أسُدّ فقرك».
إذن كلمة خليفة. تأخذ عدة معان.
ماذا قالت الملائكة: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}.
كيف عرف الملائكة ذلك؟ لابد أن هناك حالة قبلها قاسوا عليها. أو أنهم ظنوا أن آدم سيطغى في الأرض. ولكن كلمة سفك وكلمة دم. كيف عرفتهما الملائكة وهي لم تحدث بعد؟ لابد أنهم عرفوها من حياة سابقة. والله سبحانه وتعالى يقول:
{وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27].
فكأن الجن قد خلق قبل الإنسان. وقوله تعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
معنى ذلك أن علمك أيها المخلوق مناسب لمخلوقيتك. أما علم الله سبحانه وتعالى.. فهو أزلي لا نهائي.
ولكن هل قال الملائكة حين أخبرهم الله بخلق آدم ذلك علنا أم أسروه في أنفسهم؟ سواء قالوه أم أسروه. فقد علمه الله. لأنه يعلم ما يسرون وما يعلنون. وأنه يعلم السر وأخفى. فما هو السر. وما هو الأخفى من السر؟ السر هو ما أسررته إلى غيرك. فما أسر به إلى غيري. فهو السر. وما أخفيه في صدري ولا يطلع عليه أحد. هو أخفى من السر. فلا يقال أسررت إلا إذا بحت به لغيري. أما ما أخفيه في صدري. فلا يعلمه أحد إلا الله. فهذا هو ما أخفى من السر.
وعندما يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أراد أن يعطي القضية بعدها الحقيقي. وقد حكى القرآن الكريم قول الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}.
والتسبيح هو التنزيه عما لا يليق بذات المنزه. والتقديس هو التطهير.. مأخوذ من الْقَدَس وهو الدلو الذي كانوا يتطهرون به. ولذلك نحن نقول سُبّوح قُدوس. سُبّوح أي مُنزه عن كل ما لا يليق بجلاله. وقدوس. أي مُطَهَّرْ.. التسبيح يحتاج إلى مُسبِّح. وإلى ما نسبحه. والملائكة قالوا: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}.
وهذا تسبيح وتنزيه لله سبحانه وتعالى.. والتسبيح والتنزيه لا يكونان إلا للكمال المطلق الذي لا تشوبه أية شائبة.. والكمال المطلق هو لله سبحانه وتعالى وحده. لذلك صرف الله ألسنة خلقه عن أن يقولوا كلمة سبحانك لغير الله تعالى. فلا تسمع في حياتك أن إنسانا قال لبشر سبحانك. وهكذا صرفت ألسنة الخلق عن أن تسبح لغير الله سبحانه وتعالى. وقول الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} كأن نقول سبحان الله وبحمده. ومعناها تنزيه لله سبحانه وتعالى في ذاته.. فلا تشبّه بذات. وفي صفاته. فلا تشبّه بصفات وفي أفعاله. فلا تشبه بأفعال.. ولكن ما معنى كلمة وبحمده؟ معناها أننا ننزهك ونحمدك. أي يا رب تنزيهنا لك نعمة. ولذلك فإني أحمدك على أنك أعطيتني القدرة لأنزهك.. والتقديس هو تطهير الله سبحانه وتعالى من كل الأغيار. ولأنك يا ربي قدوس طاهر. لا يليق أن يرفع إليك إلا طاهر. ولا يليق أن يصدر عمن خلقته بيديك إلا طاهر.
إنه عرّفنا معنى نسبح بحمدك ونقدس لك. ثم أراد الله بحكمته أن يرد على الملائكة فقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ولم يطلقها هكذا. ولكنه سبحانه أتى بالقضية التي تؤكد صدق الواقع. اهـ.