فصل: فصل في التفسير الموضوعى للسورة كاملة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في التفسير الموضوعى للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة التوبة:
نزلت سورة براءة قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر شهرا. أي بعد مرور اثنين وعشرين عاما على بدء الوحى. كانت السياسة المتبعة خلالها في معاملة أعداء الإسلام هي {وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون}. وهى سياسة- كما يرى كل منصف- لا إكراه فيها على دين ولا مبادأة فيها بهجوم! ولكن أعداء الإسلام من مشركين وكتابيين رفضوا أن تشق الدعوة طريقها المسالم واشتبكوا معه في قتال انتهى بهزائمهم. فهل اعترفوا بالواقع وتراجعوا عن العدوان..؟ كلا. لقد كانوا كالثعلب الذي يتماوت ليظفر بالحياة ويستأنف الغدر والفتك! وتحولوا فرادى وجماعات إلى فلول تجور على حقوق المسلمين وتنال من مكانتهم. فلم يكن بد من منازلة العابثين وإلزامهم حدود الأدب. وهذا معنى البراءة التي صدرت عن الله ورسوله ضد هذه القوى الخائنة.!! والمؤسف أن بعض الناس جاء إلى الوحى النازل وشرع يتعسف في تفسيره. فهو يقسم الجملة قسمين يأخذ بأولها وينسى آخرها. مثل قوله بأن السورة شنت حربا هجومية على الكفار جميعا. مستدلا بقوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة} وناسيا بقيتها {كما يقاتلونكم كافة} ومثل فهمه كلمة {الناس} في قوله تعالى: {وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر}. فقد فهم أن كلمة الناس تعنى البشر قاطبة!! ونسى الاستثناء والتعقيب الواردين بعد هذا العموم.
وهما أولا قوله تعالى: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا...}. فالمعنى واضح حاسم في أن الحرب ضد قوم معينين ظاهروا علينا العدو واستباحوا حقوقنا. وهل علينا من جناح في حرب هؤلاء؟. أما التعقيب فهو بالغ الأهمية. ذلك أنه في أثناء تأديب المعتدين يظهر أقوام لا ناقة لهم في الحرب ولا جمل! لا يريدون قتالا ولا يفكرون فيه! هؤلاء أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتأمينهم وطمأنتهم وإعادتهم سالمين إلى أرضهم {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}. فأين الحرب الهجومية في هذا السياق النبيل؟. ويظهر أن الذين فهموا أن السورة إعلان حرب عامة على الكفر نظروا إلى القتال الذي وقع في مصر والشام والعراق بعد ذلك، وامتد حتى قضى على دولة الفرس، وقصم دولة الروم. وهذا فهم خاطئ كان له مساغ لو أن المسلمين وجهوا جيوشهم إلى رومة والمدائن مباشرة. ولكن هذه الإمبراطوريات الباغية كانت تحتل أراضى ليست لها، وتستذل جماهير مغلوبة على أمرها. فدارت الحروب معها على تحرير الأراضى والشعوب ومنع الاستغلال والاستذلال. وعرض الإسلام بعد ذلك على الشعوب المحررة التي سرعان ما رغبت فيه وذادت عنه..!! إن سورة براءة بريئة من التحريض على العدوان وتشريع الحرب الهجومية على الأبرياء والمسالمين ولننظر إلى صدر السورة مرة أخرى فماذا نرى؟. لقد أعطى الإسلام مهاجميه مهلة قدرها أربعة شهور ليروا رأيهم ويرجعوا عن خطئهم {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين}. والمعنى أن المهلة ليست عن ضعف فلا تنخدعوا بقواكم المزعومة فعاقبة الغدر وخيمة.. وقد أعلنت هذه المهلة يوم الحج الأكبر الذي يجمع العرب كلهم، المؤمن والمشرك، من له عهد ومن لا عهد له حتى يكون الأمر واضحا كل الوضوح فلا عذر لأحد.
وزيادة في الشرح، وزيادة في كشف دخائل المشركين وخبث طواياهم وحسما لكل اتهام بالعدوان من جانبنا عادت السورة تقول: {كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم}. انظر إلى حرصنا على الوفاء لمن وفى!! أما أهل الغدر فكيف نحفظ لهم عهودا ما حفظوها؟.
{كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة} لا يمينا ولا عهدا {يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون}. نحن لم نعتد ولم نفكر في عدوان ولا نرتضى لأنفسنا هذا الوصف! ويبدو أن المسلمين كانوا يشعرون بقلق من تبعات هذا الموقف، ويدركون أن أعداءهم أقوياء، وأن قوتهم هي التي تدفعهم إلى مناوشة المسلمين والجور عليهم!! وقد كره القرآن الكريم هذه الرهبة فقال محرضا المسلمين على المقاومة وتأديب الغادرين {... فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون}. أتنتظرون البر بأيمان، أو الوفاء بعهود ممن لا دين لهم؟. ثم ازداد التحريض على تأديب الغادرين والناكثين فقال جل شأنه {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين}. وعند متابعة السياق ترى أن القوم الذين أمرنا بمحاربتهم ما كانوا أهل سلام ولا وفاء. وأنهم أساءوا إلى المسلمين طويلا، وملأوا صدورهم غيظا وألحقوا بهم إهانات وجراحات شتى.
{قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم...}. أتجد في هذا السياق أية إشارة لهجوم على قوم آمنين؟. أو تعرض لطوائف من المسترسلين المسالمين..؟.
الحق أن وصف سورة براءة بأنها غيرت مجرى الحرب في الإسلام جهل كبير. فقد كنا وما زلنا وسوف نبقى نسالم من سالمنا ونحارب من حاربنا، نعتمد في دعوتنا على الشرح الوافى والبلاغ المبين، مع رفض للدنية وأنفة من الذل والهوان عوملت الوثنية العربية خلال ثنتين وعشرين سنة- قبل نزول براءة- بأحكم وأرحم ما يعامل به نظام خرافى يريد فرض سيطرته للأبد! في مكة كان الإسلام دينا خارجا على القانون لا اعتراف به. وبعد الهجرة إلى المدينة خاض المسلمون مع أعدائهم نحو ثلاثين معركة وسرية. ترى كم بلغت خسائر الوثنية العربية في هذه الحروب؟ لقد ذكرت في بحث سابق أن قتلى الكفار حوالى مائتين في هذه الوقعات كلها...!!! أي عشر معشار مذبحة سان بارثلميو في باريس التي وقفت تقدم البروتستانت في فرنسا الكاثوليكية!! كان المسلمون في أثناء ثنتين وعشرين سنة يناشدون الكفار أن يعقلوا، أو أن يعدلوا إذا لم يعقلوا! واستمع إلى نغمة الإخلاص والحب في قوله تعالى: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير}. ولكن هذه المناشدات لم تجد فتيلا، وبدا أن مبدأ {لكم دينكم ولي دين}. مرفوض، وأننا نريد حياتهم ويريدون قتلنا!! وكان العلاج الإسلامى لهذا الموقف النابى- بعد أن استمكن المسلمون من السلطة- أن قالوا لأعدائهم: دعوا هذه الأرض لنا، وسيحوا في أرض الله الواسعة!! إنكم تضيقون برؤية الإسلام في بلد، وتكيدون لأهله ما استطعتم، وتتربصون به الدوائر، ولا ترضون أن تقبعوا بكفركم في دوركم. إننا لن نقتلكم ولكننا نتحصن من فتنتكم فاذهبوا حيث شئتم ودعونا وشأننا! وانضم إلى هذه الأمر شيء آخر هو: لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان. وهو أمر مفهوم لقد حطمت جميع الأصنام التي كان يعبدها المشركون حول الكعبة ففيم الطواف إذن؟.
أما التعرى عند الطواف فمقبحة من المقابح لا يأذن بها دين محترم، وإنما تفهم مع اختلاط الوثنية بالبهيمية..!! ولذلك جاء في السورة الكريمة {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله...}. لقد كان رب العالمين يعلم أن أجل رسوله سوف ينتهى بعد عام وثلاثة أشهر من نزول سورة التوبة. وترك القافلة بعد وفاة قائدها تواجه هذه الفتن العمياء ليس من مصلحة الدعوة. لقد تبجح الشرك طويلا ولم يبق إلا الفراغ منه ليتوجه المسلمون إلى تأمين دعوتهم في شمال الجزيرة بعد أن هددها الرومان! ومع أن براءة ألحقت بالوثنية ضربة خطيرة إلا أن الوثنيين اختفوا وفي طواياهم نية الغدر. وما كادوا يسمعون بموت محمد عليه الصلاة والسلام حتى انتقضت جموعهم وحسبوا أن الليل سوف يعود مرة أخرى فعالنوا بالردة. وتمردت جيوشهم في ميادين شتى فتصدى لها الموحدون بقيادة أبى بكر وما زالوا يقاومونها حتى أخمدوا أنفاسها واستتب الأمر للإسلام. {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض...}. وتفرغ المسلمون لمقاومة الرومان الذين أوصدوا الأبواب أمام الدعوة الإسلامية شمالىّ الجزيرة. ولا بأس أن نشرح مرة أخرى التزامنا أمام دعوتنا. نحن لا نحارب معتدين ولا نكره أحدا على اعتناق دين! إننا نعرض الإسلام فقط على الآخرين {... فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}. فإذا آثر أحد الكفر قلنا له: لا عليك، ولن يصيبك منا أذى! كل ما نطلبه منك أن تتركنا ندعو غيرك، وألا تتعرض لهذا الغير إذا استجاب لنا. إن الإسلام في نظرنا هو العلاقة الفذة بين الله وعباده، وقد كلفنا الله بالبلاغ وإيقاد الضوء أمام من يجهل. فلا تعترض طريقنا ونحن نبلغ الناس.
ولا تعترض الآخرين إذا شرح الله صدورهم للحق. فإن ارتضى هذا الحياد فأمره معنا كما قال تعالى: {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا}. وإن قال: بل سأمنعكم من البلاغ وأمنع الآخرين من الاستجابة، قلنا له لقحت الحرب بيننا وبينك. فإن نصرنا الله عليكم جردناكم من السلاح الذي استخدمتموه في العدوان. ويسرنا لكم أن تحيوا معنا آمنين على أموالكم وأعراضكم. وتولينا نحن عبء الدفاع عنكم إذا تعرض لكم أحد بسوء. وغرضنا أن تستبينوا حقيقتنا، وتتكشف لكم خبيئتنا، ثم كلفناكم في نظير ذلك بعض المال الذي ننفقه في الدفاع عنكم وعن شعائركم.. وهذه هي الجزية التي كثر اللغط حولها. وهذه هي ملابسات فرضها، إنها لا تفرض على محايد آثر البعد ابتداء عن مصارعتنا! وإنما تفرض على من قرر قتالنا، أو أعان بنفسه وماله المعتدين علينا.. والناظر في آية الجزية يرى أنها أحصت مثالب من ضربت عليهم، وكشفت عن فقدانهم للإيمان بالله واليوم الآخر، واقترافهم فنون المعاصى، وخروجهم جملة عن سنن الأنبياء.
{قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}.
وجاء في صفاتهم بعد ذلك أنهم يؤمنون بسياسة تكسير المصابيح، ونشر الظلام {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره}. وأن أحبارهم ورهبانهم مهرة في أكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله.... وتاريخ الجزية جدير بالنظر، فإن الشعوب التي تعرفت على الإسلام من قرب سرعان ما دخلت فيه، وقع ذلك في مصر وخراسان وأقطار أخرى، حتى نضبت موارد الخزانة من هذا الباب لكثرة من دخلوا في دين الله. وهذا هو المطلوب، فإن محمدا بعث هاديا ولم يبعث جابيا كانت حجة أبى بكر بالناس في السنة التاسعة مهادا حسنا للحجة العامة التي تلتها في السنة العاشرة وكان النبي نفسه أميرها. إذ كانت بالمسلمين خاصة بعدما قيل في السنة التاسعة {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا...}. وقد انفرط عقد الشرك وسمع المشركون في تخاذل أن عهودهم ألغيت، وأن التعامل بعد اليوم سيكون قصاصا عدلا فلا عبث ولا خداع. وهكذا انتهت الوثنية بقرار حاسم. أما اليهودية فقد تضعضت من قبل في معارك متصلة، آخرها ما دار في خيبر في السنة السابعة. وبقى اليهود زراعا في محاقلهم أو تجارا حيث يشاءون في المدينة المنورة أو غيرها. المهم انكسار قوتهم العسكرية التي أغرتهم بالإثم والعدوان. فهل ذلوا أو ظلموا بعدما طاحت دولتهم؟ كلا! بقيت لهم حريتهم الفردية، وفي ظلها الوارف أخذ أحد تجارهم درع النبي عليه الصلاة والسلام رهنا في معاملة له..!! وكانت وفود النصارى تجيء إلى المدينة المنورة، ومن قبل إلى مكة تستمع إلى الوحى الجديد. وقد أسلم بعضها وانشرح صدره بالحق. وجادل البعض جدالا هادئا في رفض الإسلام لألوهية عيسى مع تكريمه العظيم له.. ولم يشعر الإسلام بخطر من نصارى اليمن، أو من غيرهم. بل جاء الخطر- كما سترى- من دولة الرومان التي صنعت ستارا حديديا حول تسلل الإسلام إلى شمال الجزيرة بعدما انتشر وسطها وجنوبها. وهنا نلفت النظر إلى أمرين متباعدين: أولهما أن الإسلام كان صديقا للنصارى، وأن النبي عليه الصلاة والسلام. أمر المستضعفين بالهجرة إلى الحبشة، في جوار ملك لا يضامون في سلطانه!! وأن النبي محمدا كان صاحب الصوت الوحيد على ظهر الأرض أن الروم سوف ينتصرون على الفرس مرة أخرى بعد هزيمتهم الهائلة التي منوا بها، والتى حزن المسلمون لها أما الأمر الثانى: فمع هذه الصداقة للشعوب النصرانية كان الإسلام واضحا كل الوضوح في إنكار التثليث ورفض ألوهية عيسى وجبريل، واعتبارهما عبدين صالحين. وقد تتابع الوحى في مكة والمدينة يؤكد هذه الحقيقة. ويطالب أتباع المسيح بتصحيح عقائدهم وإفراد الله بالوحدانية واستمداد أحكام الحل والحرمة منه سبحانه وتسوية البابوات والكرادلة بسائر الخلق.. وآخر ما نزل من ذلك في سورة براءة، وتلى على الناس في السنة التاسعة {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون}. والقرآن الكريم يعتبر استفتاء رجال الدين في الحلال والحرام وخروجهم على الجادة في ذلك وإباحتهم الشذوذ وغيره كما وقع في إنجلترا ضربا من الشرك. وعلى أية حال فالله في الإسلام إله واحد لم يلد ولم يولد ولا كفء له وهو وحده الحاكم بين عباده وقد أحكمت دولة الرومان إغلاق الأبواب أمام الإسلام، وقاتلت في وقعات شتى لتبقى الإسلام داخل المصيدة في وسط الجزيرة فلم يبق بد من مقاتلتهم!! الإسلام يكون أمة دعوة، بالحسنى لا بالإكراه.