فصل: فوائد بلاغية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد بلاغية:

قال في إشارت الإعجاز:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}.
مقدمة:
اعلم! أن التصديق بوجود الملائكة أحد أركان الإيمان. ولنا هنا مقامات:
المقام الأول:
إن من نظر إلى الأرض وقد امتُلئت بذوي الأرواح مع حقارتها، وتأمل في انتظام العالم واتقانه، تحدس بوجود سكان في هذه البروج العالية. فَمَثَلُ مَنْ لم يصدّق بوجود الملائكة كَمَثَل رجل ذهب إلى بلدة عظيمة وصادف دارا صغيرة عتيقة ملوّثة بالمزخرفات مشحونة بالناس. ورأى عرصاتها مملوءة من ذوي الأرواح ولحياتهم شرائط مخصوصة كالنباتات والسِّماك. ثم رأى اُلوفا من القصور العالية الجديدة قد تخلّلت بينها ميادين النزهة فيعتقد خلوها عن السكان لعدم جريان شرائط حياة هذه الدار في تلك القصور. ومثل المعتقد بوجودهم كَمَثَل مَنْ إذا رأى هذا البيت الصغير وقد امتلأ من ذوي الأرواح ورأى انتظام البلدة، جزم بأن لتلك القصور المزيَّنة أيضًا سكانا يناسبونها وتوافقهم ولهم شرائط حياة مخصوصة فعدم مشاهدتهم- لبعدهم وترفعهم- لا يدل على عدمهم. فامتلاء الأرض من ذوي الحياة ينتج بالطريق الأولى وبالقياس الاْولَويّ المؤسس على القياس الخفيّ المبني على الانتظام المطرد- امتلاء هذه الفضاء الوسيعة ببروجها ونجومها وسماواتها من ذوي الأرواح الذي يدعوهم الشرع بالملائكة المنطوية على أجناس مختلفة فتأمل!
المقام الثاني:
اعلم- كما مر- أن الحياة هي الكشافة للموجودات بل هي النتيجة لها، فإذا كيف تخلو هذه الفضاء الوسيعة من ساكنيها وتلك السموات من عامريها. ولقد أجمع العقلاء إجماعا معنويا- وأن اختلفوا في طرق التعبير- على وجود معنى الملائكة وحقيقتهم، حتى أن المشّائيين عبّروا عنهم بالماهيات المجرَّدة الروحانية للأنواع، والاِشْراقِيّين عبّروا عنها بالعقول وأرباب الأنواع، وأهل الأديان بملَك الجبال وملَك البحار وملك الامطار مثلا. حتى أن الماديين الذين عقولهم في عيونهم لم يتيسر لهم انكار معنى الملائكة بل نظروا اليهم في القوات السارية في نواميس الفطرة.
فإن قلت: أفلا يكفي لارتباط الكائنات وحيويتها هذه النواميس وتلك القوانين الجارية في الخلقة؟
قيل لك: ما تلك النواميس الجارية والقوانين السارية إلا أمور اعتبارية بل وهمية لا يتعين لها وجود ولا يتشخص لها هُويّة إلا بممثِّلاتها ومعاكسها ومَنْ هو آخذ برأس خيوطها وأن هي إلاّ الملائكة.. وأيضًا قد اتفق الحكماء والعقل والنقل على عدم انحصار الوجود في عالم الشهادة الظاهر الجامد الغير الموافق لتشكل الأرواح. فعالم الغيب المشتمل على عوالم- الموافق للأرواح كالماء للسِماك- مشحون بها، مظهرٌ لحياة عالم الشهادة.. فإذا شهدت لك هذه الأمور الأربعة على وجود معنى الملائكة فأحسن صور وجودهم التي ترضى بها العقول السليمة ماهو إلاّ ماشرحه الشرع من أنهم عباد مكرمون لا يخالفون مايؤمرون، وكذا أنهم أجسام لطيفة نورانية ينقسمون إلى أنواع مختلفة.
المقام الثالث:
اعلم أن مسألة الملائكة من المسائل التي يتحقق الكل بثبوت جزء واحد، ويُعلم النوع برؤية أحد الأشخاص، إذ من أنكر أنكر الكلَّ. ثم كما أنه محال عندك- ايقظك الله- أن يجمع أهل كل الأديان في كل الأَعصار من آدم إلى الآن على وجود الملائكة وثبوت المحاورة معهم وثبوت مشاهدتهم والرواية عنهم كمباحثة الناس طائفة عن طائفة، بدون رؤية فرد بل أفراد منهم وبدون ضرورة وجود شخص بل أشخاص منهم، وبدون الاحساس بالضرورة بوجودهم؛ كذلك محال أن يقوم وَهْم كذلك في عقائد البشر ويستمر هكذا ويبقى في الانقلابات بدون حقيقة يتسنبل عليها وبدون مبادئ ضرورية مولِّدة لذلك الاعتقاد العموميّ. فإذًا ليس سند هذا الاجماع إلا حدس تولَّد من تفاريق امارات حصلت من واقعات مشاهدات نشأت من مبادئ ضرورية. وليس سبب هذا الاعتقاد العمومي إلا مبادئ ضرورية تولدت من رؤيتهم ومشاهدتهم في كرّات تفيد قوة التواتر المعنوي. وإلا رفع الأمن من يقينيات معلومات البشر. فإذا تحقق وجود واحد من الروحانية في زمان مّا تحقق وجود هذا النوع. وإذا تحقق هذا النوع، كان كما ذكره الشرع وبيّنه القرآن الكريم.
ثم أن نظم مآل هذه الآية بسابقها من أربعة وجوه:
الأول: أنه لما كانت هذه الآيات في تعداد النعم العظام، واشارت الأولى إلى أعظمها- من كون البشر نتيجة للخلقة وكون جميع ما في الأرض مسخرًا له يتصرف فيها على ما يشاء- اشارت هذه إلى أن البشر خليفة الأرض وحاكمها.
والثاني: أن هذه الآية بيان وتفصيل وايضاح وتحقيق وبرهان وتأكيد لما في الآية الأولى من أن أزمة سلاسل ما في الأرض في يد البشر.
والثالث: أن تلك لما بيّنت بناء المسكنين من الأرض والسماء اشارت هذه إلى ساكنيهما من البشر والملَك، وانها رمزت إلى سلسلة الخلقة، وأومأت هذه إلى سلسلة ذوي الأرواح.
والرابع: إنها لما صرحت بأن البشر هو المقصود من الخلقة وأن له عند خالقه لموقعًا عظيما، اختلج في ذهن السامع أنه كيف يكون للبشر هذه القيمة مع كثرة شروره وفساده؟ وهل تستلزم الحكمة وجوده للعبادة والتقديس له تعالى؟ فأشارت هذه إلى أن تلك الشرور والمفاسد تُغتفر في جنب السرّ المُودع فيه، وأن الله غني عن عبادته إذ له تعالى من الملائكة المسبِّحين والمقدِّسين ما لا يحصر بل لحكمة في علم علاّم الغيوب.
وأما نظم الجمل بعضها مع بعض فهو أن الآية تنصبُّ بناء على اقتضاء {اذ} رديفا لها، وعطفه على {وهو بكل شيء عليم}- إلى تقدير إذ خلق ما خلق منتظما متقنا هكذا واذ قال ربك للملئكة الخ، وانه تعالى لما خاطب مع الملائكة- ليستفسروا سرّ الحكمة ولتعليم طريق المشاورة قائلا {اني جاعل في الأرض خليفة}- توجه ذهن السامع بسرّ المقاولة إلى ما {قالوا}؟ وبسرّ الاستفسار عن حكمته مع التعجب إلى {أتجعل فيها}؟ وبسر استخلافهم عن الجن المفسدين مع توديع القوة الغضبية والشهوية فيهم أيضا إلى {من يفسد فيها} بتجاوز القوة الثانية {ويسفك الدماء} بتجاوز القوة الأولى. ثم بعد تمام السؤال والاستفسار والتعجب ينتظر ذهن السامع لجوابه تعالى. فقال: {قال إني أعلم ما لا تعلمون} أي فالأشياء ليست منحصرة في معلوماتكم. فعدم علمكم ليس امارة على العدم، وإني حكيم، لي فيهم حكمة يغتفر في جنبها فسادهم وسفكهم.
أما نظم هيئات جملة جملة، فاعلم! أن الواو في {واذ قال ربك للملئكة إني جاعل في الأرض خليفة} وكذا في {واذ قال ربك للملئكة إني خالق بشرًا من صلصال} في آية أخرى بسر المناسبة العطفية إشارة إلى إذ وإذ كما مر. وكذا- بسر أن الوحي يتضمن ذَكِّرهُمْ بِذَلِكَ إشارة إلى واذكر لهم اذ. إلخ.
وان {اذ} المفيد للزمان الماضي لتسيير الأذهان في الأزمنة المتسلسلة الماضوية ورفع وجلب واحضار لها إلى ذلك الزمان لتنظره فتجتني ما وقع فيه.. وأن {ربك} إشارة إلى الحجة على الملائكة أي ربّاك وكمّلك وجعلك مرشدًا للبشر لإزالة فسادهم أي أنت الحسنة الكبرى التي ترجحت وغطت على تلك المفاسد.
وأن {للملئكة} إشارة في هذه المقاولة الكائنة على صورة المشاورة إلى أن لسكان السموات أعني الملائكة مزيد ارتباط وعلاقة وزيادة مناسبة مع سكان الأرض أعني البشر. فإن من اولئك موُكلين وحَفَظة وكَتَبَة على هؤلاء فحقّهم الاهتمام بشأنهم. وأن إن بناء على كونها لرد التردد المستفاد من {أتجعل} إشارة إلى عظمة المسألة وأهميتها. وأن ياء المتكلم وحده هنا مع نا للمتكلم مع الغير في قلنا في الآيات الآتية إشارة إلى أن لا واسطة في ايجاده وخلقه كما توجد في خطابه وكلامه. ومما يدل على هذه النكت آية: {انا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} فقال: {انزلنا} بنون العظمة لوجود الواسطة في الوحي وقال: {أراك الله} مفردًا لعدم الواسطة في إلهام المعنى. وأن ايثار {جاعل} على خالق إشارة إلى أن مدار الشبهة والاستفسار الجعل. والتخصيص لعمارة الأرض لا الخلق والايجاد، لأن الوجود خير محض والخلق فعله الذاتيّ لا يُسأل عنه. وأن ايثار {في} في {في الأرض} على على مع أن البشر على الأرض لايخلو من الايماء إلى أن البشر كالروح المنفوخ في جسد الأرض، فمتى خرج البشر خربت الأرضُ وماتت. وأن {خليفة} إشارة إلى أنه قد وجد قبل تَهئ الأرض لشرائط حياة الإنسان مخلوقٌ مُدْرِك ساعدت شرائطَ حياته الادوارُ الأوّليةُ للأرض وهذا هو الأوفق لقضية الحكمة. والمشهور أن ذلك المخلوق المُدْرِك كان نوعا من الجن فأفسدوا فاستُخلفوا بالإِنسان.
اما هيئات جملة {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} فاعلم! أن استيناف {قالوا} إشارة إلى أن توجيه خطابه تعالى إلى الملائكة يلجئ السامع إلى السؤال بكيف يتلقّون جيرانهم بيتَ بيتَ وأيرضون بهم قرناء وما رأيهم فيهم؟ فقال: {قالوا}.
وأن وجه كونه جزاء ل {اذ} هو: أن حكم الله تعالى بجعل البشر خليفة في الأرض- التي وكّل عليها الملائكة- مع أنه لا مشير له تعالى ولا وزير يستلزم اظهار كيفية تلقيهم لهم. وأن صورة القول إشارة إلى أسلوب المقاولة على صورة المشاورة لتعليم الناس مع تنزهه تعالى عنها. وأن استفهام {أتجعل} فلتحقق الجعل باخباره تعالى تمتنع حقيقتُه فيتولد منه التعجب الناشئ عن خفاء السبب فيتولد منه الاستفسار- أي ما حكمة الجعل؟ فاستفهم عن المسبب بدلا عن السبب وليس للإِنكار لعصمتهم. وأن الجعل رمز إلى أن شئون البشر ونسبه الاعتبارية ووضعياته ليست من لوازم الطبيعة ولا من ضروريات الفطرة بل كل منها بجعل الجاعل. وأن {فيها} مع {فيها} مع قصر المسافة فللتنصيص والايماء إلى معنى: ما حكمة جعل البشر روحا منفوخا في جسد الأرض لحياتها مع وجود الفساد والاماتة من حيث الأحياء؟ وأن التعبير ب {مَنْ} إشارة إلى أنه لا يعنيهم شخصية البشر وإنما يثقل عليهم عصيان مخلوق لله تعالى. وأن ايراد {يفسد} بدل يعصي إشارة إلى أن العصيان ينجر إلى فساد نظام العالم. وأن صورة المضارع إشارة إلى أن المستنكر تجدد العصيان واستمراره. وقد علموا ذلك اما باعلامه تعالى أو بمطالعة اللوح أو بمعرفة فطرتهم من عدم تحديد القوى المودعة فيهم. فبتجاوز الشهوية يحصل الفساد وبتعدي الغضبية ينشأ السفك والظلم. و{فيها} أي مع أنها كانت مسجدًا اُسس على التقوى. وأن موقع الواو الجمع بين الرذيلتين بمناسبة انجرار الفساد إلى سفك الدم. وأن ايثار {يسفك} على يقتل لأن السفك هو القتل بظلم. ومن القتل ما هو جهاد في سبيل الله وكذا قتل الفرد لسلامة الجماعة كقتل الذئب لسلامة الغنم. وأما الدماء فتأكيد لما في السفك من الدم لتشديد شناعة القتل.
وأما هيئات {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} فواو الحال إشارة إلى استشعارهم الاعتراض عليهم باما يكفيكم حكمة عبادة البشر وتقديسه له تعالى؟.
{ونحن} أي معاشر الملائكة المعصومين من المعاصي.. واسمية الجملة إشارة إلى أن التسبيح كالسجية لهم واللازم لفطرتهم وهم له. أما {نسبح بحمدك} فكلمة جامعة أي نعلنك في الكائنات بأنواع العبادات.. ونعتقد تنزهك عما لا يليق بجنابك بتوصيفك بأوصاف الجلال وما هو إلا من نعمك المحمود عليها. ونقول سبحان الله وبحمده. ونحمدك ونصفك بأوصاف الجلال والجمال. ونقدس لك أي نقدسك، أو نطهر أنفسنا وأفعالنا من الذنوب وقلوبنا من الالتفات إلى غيرك. فالواو للجمع بين الفضيلتين أي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فيكون حذاء الواو الأول.
وأما هيئات {قال إني اعلم ما لا تعلمون} فاستينافها إشارة إلى السؤال بماذا قال الله تعالى مجيبا لاستفسارهم، وكيف بينّ السبب مزيلا لتعجبهم، وما الحكمة في ترجيح البشر عليهم؟
فقال: {قال} مشيرًا إلى جواب اجمالي ثم فصل بعض التفصيل بالآية التالية. وإن في {إني اعلم} للتحقيق ورد التردد والشبهة وهو إنما يكون في حكم نظري ليس بمسلّم مع بداهة ومسلّمية علم الله تعالى بما لا يعلم الخلق وحاشاهم عن التردد في هذا. فحينئذ يكون إن منارًا على سلسلة جمل لخصها القرآن الكريم وأجملها وأوجزها بطريق بيانيّ مسلوك. أي: أن في البشر مصالحَ وخيرًا كثيرا تغمر في جنبها معاصيه التي هي شر قليل، فالحكمة تنافي ترك ذلك لهذا. وأن في البشر لسرًا اهّله للخلافة غفلت عنه الملائكة وقد علمه خالقه.
وان فيه حكمة رجحته عليهم لايعلمونها ويعلمها من خلق. وأيضًا قد يتوجه معنى إن إلى الحكم الضمني المستفاد من واحد من قيود مدخولها أي لا تعلمون بالتحقيق.. وأيضًا {اعلم ما لا تعلمون} من قبيل ذكر اللازم وارادة الملزوم أي يوجد ما لا تعلمون، إذ علمه تعالى لازم لكل شيء فنفى العلم دليل على عدم المعلوم كما قال تعالى: {بما لا يعلم} أي لا يمكن ولايوجد، ووجود العلم دليل على وجود المعلوم.. ثم أنه قد ذكر في تحقيق هذا الجواب الاجمالي أن الله عليم حكيم. لاتخلو أفعاله تعالى عن حكم ومصالح، فالموجودات ليست محصورة في معلومات الخلق فعدم العلم لا يدل على العدم، وأن الله تعالى لما خلق الخير المحض أعني الملائكة، والشر المحض أعني الشياطين، وما لاخير عليه ولا شر أعني البهائم، اقتضت حكمة الفيّاض المطلق وجود القسم الرابع الجامع بين الخير والشر. إن انقادت القوة الشهوية والغضبية للقوة العقلية فاق البشر على الملائكة بسبب المجاهدة، وأن انعكست القضية صار انزلَ من البهائم لعدم العذر. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{إذ} ظرفُ زمانٍ ماض، يخلص المضارع للمضي، وبني لشبهة بالحَرْفِ في الوضع والافتقار، وتليه الجُمَل مطلقًا.
قال المبرد: إذا جاء {إذ} مع المستقبل كان معناه ماضيًا كقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ} [الأنفال: 30] يريد: إذ مكروا، وإذا جاء مع الماضي كان معناه مستقبلًا كقوله: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] وقد يبقى على مُضِيِّهِ كهذه الآية.
وإذا كانت الجملة فعلية قبح تقديم الاسم، وتأخير الفعل نحو: إذ زيد قام، ولا يتصرّف إلا بإضافة الزمن إليه، نحو: يومئذ، ولا يكون مفعولًا به، وإن قال به أكثر المعربين، فإنهم يقدرون ذكر وقت كذا، ولا ظرف مكان، ولا زائدًا، ولا حرفًا للتعليل، ولا للمفاجأة خلافًا لمن زعم ذلك.
وقد تحذف الجملة المضاف هو إليها للعلم، ويعرض منها تنوين كقوله: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 84] وليس كَسْرَته- والحالةُ هذه- كسرة إعراب، ولا تنوينه تنوينَ صرفٍ خلافًا للأخفش، بل الكسر لالتقاء السَّاكنين، والتنوين للعوض بدليل وجود الكسر، ولا إضافة؛ قال الشاعر: الوافر:
نَهَيْتُكَ عَنْ طِلاَبِكَ أُمُّ عَمْرٍو ** بِعَاقِبَةٍ وَأَنْتَ إِذٍ صَحِيحُ

وللأخفش أن يقول: أصله: وأنت حينئذ فلما حذف المضاف بقي المُضَاف إليه على حاله، ولم يقم مقامه نحو: {والله يُرِيدُ الآخرة} [الأنفال: 67] بالجر، إلا أنه ضعيف.
و{قَالَ رَبُّكَ} جملة فعلية في محلّ خفض بإضافة الظرف إليها، واعلم أنّ {إذ} فيه تسعة أوجه، أحسنها أنه منصوب ب {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا} أي: قالوا ذلك القول وضقْتَ قول الله عز وجل إني جاعل في الأرض خليفة، وهذا أسهل الأوجه.
الثاني: أنه منصوب باذكر مقدرًا، وقد تقدم أنه لا يتصرّف، فلا يقع مفعولًا.
الثالث: أنه منصوب ب {خلقكم} المتقدّم في قوله: {اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] والواو زائدة.
وهذا ليس بشيء لطول الفصل.
الرابع: أنه منصوب ب {قال} بعده، وهذا فاسد؛ لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف.
الخامس: أنه زائد، ويُعْزَى لأبي عبيدة.
السادس: أنه بمعنى قد.
السابع: أنه خبر لمبتدأ مَحْذوف تقديره: ابتداء خلقكم وَقْتَ قول ربك.
الثامن: أنه منصوب بفعل لائقٍ تقديره: ابتداء خلقكم وَقْتَ قوله: {ذلك}.
وهذان ضعيفان، لأن وقت ابتداء الخَلْقِ ليس وقت القول، وايضًا لا يتصرف.
التاسع: أنه منصوب بأحياكم مقدرًا، وهذا مردودٌ باختلاف الوقتين أيضًا.
و{للملائكة} متعلّق ب {قال} واللاَّم للتبليغ.
وملائكة جمع مَلَك، واختلف في ملك على ستة أقوال، وذلك أنهم اختلفوا في ميمه، ها هي أصلية أو زائدة؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا.
فقال بعضهم: ملك وزنه فَعَلٌ من المِلْك، وشذّ جمعه على فَعَائلة، فالشذوذ في جمعه فقط.
وقال بعضهم: بل أصله مَلأْك، والهمزة فيه زائدة كشَمْأَل، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام، وحذفت الهمزة تخفيفًا، والجمع جاء على أصل الزيادة، فهذان قولان عند هؤلاء.
والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضًا:
فمنهم من قال: هو مشتقٌّ من أَلَكَ أي: أرسل، ففاؤه همزة، وعينه لام؛ ويدلّ عليه قوله: المنسرح.
أَبْلِغْ أَبا دَخْتَنُوسَ مَألُكَةً ** عَنِ الَّذِي قَدْ يُقَالُ مِلْكَذِب

وقال الآخر: الرمل:
وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ ** بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ

وقال آخر: الرمل:
أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلَكًا ** أَنَّه قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَاري

فأصل ملك: ثم قلبت العين إلى موضع الفاء، والفاء إلى موضع العين على وزن مَفْعَلٍ ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام، وحذفت الهمزة تخفيفًا، فيكون وزن ملك: مَعَلًا بحذف الفاء.
ومنهم من قال: هو مشتقّ من لأك أي: أرسل أيضًا، ففاؤه لام، وعينه همزة، ثم نقلت حركة الهمزة، وحذفت كما تقدّم، ويدلّ على ذلك أنه قد نطق بهذا الأصل قال: الطويل:
فَلَسْتَ لإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لمَلأَكٍ ** تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ

ثم جاء الجمع على الأصل، فردّت الهمزة على كلا القولين، فوزن ملائكة على هذا القول مَفَاعلة، وعلى القول الذي قبله مَعَافِلَة بالقَلْب.
وقيل: هو مشتقٌّ من: لاَكَهُ- يَلُوكُه إذا أداره- يديره؛ لأن الملك يدير الرسالة في فِيهِ، فأصل مَلْك: مَلُوك، فنقلت حركة الواو إلى اللام الساكنة قبلها، فتحرك حرف العلّة، وانفتح ما قبله فقلب ألفًا، فصار: ملاكًا مثل: مقام، ثم حذفت الألف تخفيفًا، فوزنه: مفل بحذف العين، وأصل ملائكة: ملاوكة، فقلبت الواو همزة، ولكن شرط قلب الواو والياء همزة بعد ألف مفاعل أن تكون زائدة نحو: عَجَائز ورَسَائل، على أنه قد جاء ذلك في الأصل قليلًا قالوا: مَصَائب ومَنَائِر، وقرئ شاذا، {مَعَايِشَ} [الأعراف: 10] بالهمز، فهذه خمسة أقوال.
السّادس: قال النضر بن شُمَيْلٍ: لا اشتقاق للملك عند العرب والهاء في ملائكة لتأنيث الجمع، نحو: صَلاَدمة.
وقيل: للمُبَالغة كعَلاّمة ونسَّابة، وليس بشيء، وقد تحذف هذه الهَاء شذوذًا؛ قال الشاعر: الطويل:
أَبَا خَالِدٍ صَلَّتْ عَلَيْكَ المَلاَئِكُ

قوله: {إنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً} هذه الجملة معمولُ القول، فهي في محل نصب به، وكسرت إن هنا، لوقوعها بعد القول المجرّد من معنى الظَّنِّ محكية به، فإن كان بمعنى الظَّن جرى فيها وجهان: الفَتْح والكَسْر؛ وأنشدوا: الطويل:
إِذَا قُلْتَ إِنِّي آيبٌ أَهْلَ بَلْدَةٍ ** نَزَعْتُ بِهَا عَنْهُ الْوَلِيَّةَ بِالهَجْرِ

وكان ينبغي أن يفتح ليس إلاَّ؛ نظرًا لمعنى الظن، لكن قد يقال جاز الكسر مُرَاعاةً لصورة القول.
وإن على ثلاثة أقسام:
قسم يجب فيه كسرها، وقسم يجب فيه فتحها، وقسم يجوز فيه الوجهان.
والضابط الكُلّي في ذلك: أن كلَّ موضع سَدَّ مسدَّها المصدرُ، وجب فيها فتحها؛ نحو: بلغني إنك قائمٌ، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّهَا، وجب فيه كَسْرُها؛ كوقوعها بعد القول ومبتدأةً وصلةً وحالًا، وكلّ موضع جاز أن يسدّ مسدّها، جاز الوجهان؛ كوقوعها بعد فاء الجزاء، وإذا الفجائية.
و{جاعل} فيه قولان:
أحدهما: أنه بمعنى خالق فيكون {خليفة} مفعولًا به و{فِي الأَرضِ} فيه حينئذ قولان:
أحدهما: وهو الواضح- أنه متعلّق ب {جاعل} والثاني: أنه متعلّق بمحذوف؛ لأنه حال من النكرة بعده.
القول الثانيك أنه بمعنى مُصَيِّر ذكره الزَّمَخْشَرِي، فيكون {خليفة} هو المفعول الأول، و{في الأرض} هو الثَّاني قدم عليه، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرر.
والأرض قيل: إنها مكة، روى ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دُحِيَتِ الأَرْضُ من مَكَّةَ» ولذلك سميت أم القرى، قال: وقبر نوح، وهود، وصالح، وشعيب بين زمزم والمَقَام.
والظاهر أنّ الأرض في الآية جميع الأرض من المشرق والمغرب.
و{خليفة} يجوز أن يكون بمعنى فاعل أي: يخلفكم أو يخلف من كان قبله من الجنّ، وهذا أصح، لدخول تاء التأنيث عليه.
وقيل: بمعنى مفعول أي: يخلف كل جيل من تقدمه، وليس دخول التاء حينئذ قياسًا، إلاَّ أن يقال: إن {خليفة} جرى مجرى الجَوَامِدِ كالنَّطيحة والذَّبيحة.
وإنما استغنى بذكره كما يستغنى بذكر أبي القَبِيلَةِ نحو: مُضَر ورَبِيعَة وقيل: المعنى على الجنس.
وقرئ: {خلِيقةً} بالقاف، و{خليفة} منصوب ب {جاعل} كما تقدّم؛ لأنه اسم فاعل، واسم الفاعل يعمل عمل فعله مطلقًا إن كان فيه الألف واللام، ويشترط الحال أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه، ويجوز إضافته تخفيفًا ما لم يفصل بينهما كهذه الآية.
قوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} قد تقدم أن {قالوا} عامل في {إِذْ قَالَ رَبُّكَ} وأنه المختار، والهمزة في {أتجعل} للاستفهام على بابها، وقال الزمخشري: للتعجب، وقيل: للتقرير؛ كقوله: الوافر:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا ** وَأَنْدَى الْعَالِمينَ بُطُونَ رَاحِ

وقال أبو البَقَاءِ للاسترشاد، أي: أتجعل فيها من يفسد كمن كان قبل.
و{فيها} الأولى متعلّقة ب {تجعل} إن قيل: إنها بمعنى الخَلْق، ومن يفسد مفعول به.
وإن قيل: إنها بمعنى التصيير، فيكون {فيها} مفعولًا ثانيًا قدّم على الأول، وهو {من يفسد} و{من} تحتمل أن تكون كموصولةً، أو نكرة موصوفة، فعلى الأول لا محلّ للجملة بعدها من الإعراب، وعلى الثَّاني محلها النصب، و{فيها} الثانية متعلّقة ب {يفسد}.
و{يسفك} عطف على {يفسد} بالاعتبارين.
والجمهور على رَفْعِهِ، وقرئ منصوبًا على جواب الاتسفهام بعد الواو التي تقتضي الجمع بإضمار أن كقوله: الكامل:
أَتَبِيتُ رَيَّانَ الجُفُونِ مِنَ الكَرَى ** وَأَبِيتَ مِنْكَ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ

وقال: ابن عطية: منصوب بواو الصرف وهذه عبارةُ الكوفيين، ومعنى واو الصرف أن الفعل كان يقتضي إعرابًا، فصرفته الواو عنه إلى النصب.
والمشهور {يَسْفِكُ} بكسر الفاء، وقرئ بضمها أيضًا بضم حرف المُضَارعة من أُسْفِكُ.
وقرئ أيضًا مشددًا للتكثير.
والسَّفْك: هو الصَّب، ولا يستعمل إلاّ في الدم.
وقال ابن فارس والجوهري: يستعمل أيضًا في الدمع.
وقال: المَهْدَوِيّ: ولا يستعمل السَّفك إلاّ في الدم، وقد يستعمل في نَثْرِ الكلام، يقال: سفك الكلام، أي: نثره.
والسَّفاك: السفاح، وهو القادر على الكلام.
و{الدِّمَاء} جمع دَم ولا يكون اسمٌ معربٌ على حرفين، فلابد له من ثالث محذوف هو لامه، ويجوز أن تكون واوًا وأن تكون ياء؛ لقولهم في التثنية دَمَوَان ودَمَيَان؛ قال الشاعر: الوافر:
فَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذُبِحْنَا ** جَرَى الدَّمَيَانِ بِالخَبَرِ الْيَقِينِ

وهل وزن دم: فَعْل بسكون العين، أو فَعَل بفتحها؟ قولان؛ وقد يُرَدُّ محْذُوفُهُ، فيستعمل مقصورًا كعَصَا؛ وعليه قول الشاعر:
كَأَطُومٍ فَقَدَتْ بُرْغُزَهَا ** أَعْقَبَتْهَا الغُبْسُ مِنْهُ عَدَمَا

غَفَلَتْ ثُمَّ أَتَتْ تَرْقُبُهُ ** فَإِذّا هِيَ بِعِظَامٍ وَدَمَا

الأَطُوم: الناقة، وبرغزها: ولدها، والغُبْسُ: الضباع.
وقد تشدّد ميمه؛ قال الشاعر: البسيط:
أَهانَ دَمَّكَ فَرْغًا بَعْدَ عِزَّتِهِ ** يَا عَمْرُو بَغْيُكَ إِصْرَارًا عَلَى الْحَسَدِ

وأصل الدَّمَاء: الادِّمَاو أو الدِّمَاي فقلب حرف العلّة همزة لوقوعه طرفًا بعد ألف زائدةٍ، نحو: كِسَاء ورِدَاء.
قوله: {ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} الواو: للحال، و{نحن نسبح} جملة من مبتدأ وخبر في محلٍّ النصب على الحال.
و{بحمدك} متعلّق بمحذوف؛ لأنه حالٌ أيضًا، والباء فيه للمصاحبة أي: نسبّح ملتبسين بحمدك، نحو: جاء زيدٌ بثيابه.
فهما حَالاَنِ مُتَدَاخِلان، أي حال في حال.
وقيل: الباء للسببية فتتعلّق بالتسبيح، قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون قولهم: {بحمدك} اعتراضً بين الكلامين، كأنهم قلوا: ونحن نسبح ونقدس، ثم اعترضا على جهة التسليم، أي: وأنت المَحْمُودُ في بالهداية إلى ذلك وكأنه يحاول أنه تكون الباء فعلًا محذوفًا لائقًا بالمعنى تقديره: حصل لنا التسبيح والتقديس بسبب حمدك.
والحمد هنا: مصدر مُضَاف لمفعوله، وفاعله محذوف تقديره بحمدنا إيّاك، وزعم بعضهم أنّ الفاعل مضمر فيه، وهو غلط؛ لأنَّ المصدر اسم جامد لا يضمر فيه على أنه قد حكي الخِلاَف في المصدر الواقع موقع الفِعْل، نحو: شريًا زيدًا هل يتحمّل ضميرً أو لا وقد تقدم.
و{نُقَدِّسُ} عطف على {نُسَبِّحُ} فهو خير أيضًا عن {نحن} ومفعوله محذوف أي: نقدس أنفسنا وأفعالنا لك.
و{لك} متعلّق به، أو ب {نسبح} ومعناها العلّة.
وقل: زائدة، فإنَّ ما قبلها متعدٍّ بنفسه، وهو ضعيف، إذ لا تُزادَ اللام إلا مع تقديم المعمول، أو يكون العامل فرعًا.
وقيل: هي مُعَدِّيَةٌ: نحو: سجدت لله.
وقيل: للبيان كهي في قولك: سُقْيًا لك فعل هذا تتعلّق بمحذوف، ويكون خبر مبتدأ مضمر أي: تقديسًا لك.
وهذا التقدير أحسن من تقدير قولهم: أعني؛ لأنه أليق بالموضع.
وأبعد من زعم أن جملة {ونحن نسبح} داخلة في حيز استفهام مقدر تقديره: وأنحن نسبح أم نتغير؟ واستحسنه ابن عطية مع القول بالاستفهام المحض في قولهم: {أتجعل} وهذا يأباه الجمهور، أعني: حذف همزة الاستفهام من غير ذكر أم المعادلة وهو رأي الأخفش وجعل من ذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] أي: وأتلك نعمة.
وقول الآخر: الطويل:
طَرِبَتْ وَمَا شَوْقًا إلى البِيضِ أَطْرَبُ ** وَلا لَعِبًا مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلِعًبُ

أي: وأذو الشيب؟
وقول الآخر: المنسرح.
أَفَرِحَ أَنْ أُزْرَأَ الكِرَامَ وَأَنّْ ** أُورَثَ ذَوْدًا شَصَائِصاَ نَبَلا

أي: أأفرح؟
فأما مع أم جائز لدلالتها عليه؛ كقوله: الطويل:
لَعَمْرِكَ ما أدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا ** يِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانٍ

أي: أبسبع؟
والتسبيح: التنزيه والبَرَاءة، وأصله من السَّبح وهو البعد، ومنه السَّابح في الماء، فمعنى سبحان الله أي: تنزيهًا له وبراءة عما لا يليق بجلاله ومنه: السريع:
أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ** سُبٍحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ

أي: تنزيهًا، وهو مختص بالباري تَعَالى.
قال الراغب في قوله: سبحان من عَلْقَمَةَ الفاخر إن أصله: سُبْحَانَ علقمة، على سبيل التهكُّم فزاد فيه من.
وقيل: تقديره: سبحان الله من أجل عَلْقَمَة، فظاهر قوله: أنه يجوز أن يقال لغير البَارِي على سبيل التهكُّم، وفيه نظر.
والتقديس: التَّطهير، ومنه الأرض المقدَّسَة، وبيت المَقْدِس، ورُوح القُدُس؛ وقال الشاعر: الطويل:
فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بِالسَّاقِ وَالنِّسَا ** كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدِّسِ

أي: المُطَهِّر لهم.
وقال: الزمخشري: هو من قدس في الأرض: إذا ذهب فيها وأبعد، فمعناه قريب من معنى {نسبّح}.
قوله: {إنى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أصل {إنّي} فاجتمع ثلاثة أمثال، فحذفنا أحدها، وهل هو نون الوقاية، أو النون الوسطى؟
قولان: الصحيح الثاني، وهذا شبيه بما تقدم في {إِنَّا مَعَكْمْ} [البقرة: 14] وبابه، والجملة في محل نَصْب بالقول.
و{أعلم} يجوز فيه أن يكون فعلًا مضارعًا، وهو الظاهر، و{ما} مفعول به، وهي: إما نكرة موصوفة أو موصولة، وعلى كل تقدير، فالعائد محذوف لاستكماله الشروط: أي: تعلمونه.
وقال المهدي، ومكّيّ: وتبعهما أبو البقاء: إن {أعلم} اسم بمعنى عالم؛ كقوله: الطويل:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإنّي لأَوْجَلُ ** عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو المَنِيَّةُ أَوَّلُ

ف {ما} يجوز فيها أن تكون في محلّ جر بالإضافة، أو نصب ب {أعلم} ولم ينون {أعلم} لعدم انصرافه بإجماع النحاة.
واختلفوا في أفعل إذا سمي به وكان نكرة، فسيبويه والخليل لا يصرفانه، والأخفش يصرفه نحو: هؤلاء حَوَاجّ بيت الله.
وهذا مبني على أصلين ضعيفين:
أحدهما: جعل أفعل بمعنى فاعل من غير تفضيل.
والثاني: أن أفعل إذا كانت بمعنى اسم الفاعل علمت عمله، والجمهور لا يثبتونها.
وقيل: {أعلم} على بابها من كونها للتفضيل، والمفضل عليه محذوف، أي: اعلم منكم، و{ما} منصوبة بفعل محذوف دلّ عليه أفعل أي: علمت ما لا تعلمون، ولا جائز أن ينصب بأفعل التفضيل؛ لأنه أضعف من الصفة المشبّهة التي هي أضعف من اسم الفاعل الذي هو أضعف من الفِعْلِ في العمل، وهذا يكون نظير ما أوّلوه من قول الشاعر: الطويل:
فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الحَيِّ حَيًّا مُصَبِّحًا ** وَلاَ مِثْلَنَا يَوْمَ الْتَقِيْنَا فَوَارِسَا

أَكَرَّ وأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ ** وَأَضَرَبَ مِنَّا بالسُّيُوف القَوَانِسَا

فالقَوَانِس منصوب بفعل مقدر أي: بضرب لا بأضرب، وفي ادعاء مثل ذلك في الآية الكريمة بعد الحَذْفِ يتبيّن المفضل عليه، والناصب لما. اهـ. باختصار.