فصل: الباب الثامن: في بقية المباحث عن أسماء الله تعالى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الفائدة السابعة: أن تعريف الشيء إما أن يكون بنفسه، أو بالأجزاء الداخلة فيه، أو بالأمور الخارجة عنه، أما القسم الأول وهو تعريفه بنفسه فهو محال؛ لأن المعرف سابق على المعرف، فتعريف الشيء بنفسه يقتضي تقدم العلم به على العلم به، وذلك محال، وأما القسم الثاني وهو تعريفه بالأمور الداخلة فيه فهذا في حق الحق محال؛ لأن هذا إنما يجري في الماهية المركبة، وذلك في حق الحق محال، وأما القسم الثالث وهو تعريفه بالأمور الخارجة عنه فهذا أيضًا باطل محال؛ لأن أحوال الخلق لا يناسب شيء منها شيئًا من أحوال القديم الواجب لذاته؛ لأنه تعالى مخالف بذاته المخصوصة وبهويته المعينة لكل ما سواه ولما كان كذلك امتنع أن تكون أحوال الخلق كاشفة عن ماهية الله تعالى وحقيقته المخصوصة فإذا كان كذلك فقد انسدت أبواب التعريفات بالنسبة إلى هويته المخصوصة وماهيته المعينة، فلم يبق طريق إليه إلا من جهة واحدة، وهو أن يوجه الإنسان حدقة عقله وروحه إلى مطلع نور تلك الهوية على رجاء أنه ربما أشرق ذلك النور حال ما كانت حدقة عقله متوجهة إليها فيستعد بمطالعة ذلك النور، فقول الذاكر يا هو توجيه لحدقة العقل والروح إلى الحضرة القدسية على رجاء أنه ربما حصلت له تلك السعادة.
الفائدة الثامنة: أن الرجل إذا دخل على الملك المهيب والسلطان القاهر ووقف بعقله على كمال تلك المهابة وعلى جلال تلك السلطنة فقد يصير بحيث تستولي عليه تلك المهابة وتلك السلطنة فيصير غافلًا عن كل ما سواه، حتى أنه ربما كان جائعًا فينسى جوعه، وربما كان به ألم شديد فينسى ذلك الألم في تلك الحالة، وربما رأى أباه أو ابنه في تلك الحالة ولا يعرفهما، وكل ذلك لأن استيلاء تلك المهابة عليه أذهله عن الشعور بغيره، فكذلك العبد إذا قال: يا هو وتجلى لعقله وروحه ذرة من نور جلال تلك الهوية وجب أن يستولي على قلبه الدهشة وعلى روحه الحيرة، وعلى فكرة الغفلة، فيصير غائبًا عن كل ما سوى تلك الهوية، معزولًا عن الالتفات إلى شيء سواها، وحينئذٍ لا يبقى معه في تلك الحالة إلا أن يقول بعقله: هو وبلسانه هو فإذا قال العبد هو وواظب على هذا الذكر فهذا منه تشبه بتلك الحالة على رجاء أنه ربما وصل إلى تلك الحالة، فنسأل الله تعالى الكريم أن يسعدنا بها.
الفائدة التاسعة: من فوائد هذا الذكر العالي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من جعل همومه همًا واحدًا كفاه الله هموم الدنيا والآخرة» فكأن العبد يقول: همومي في الدنيا والآخرة غير متناهية، والحاجات التي هي غير متناهية لا يقدر عليها إلا الموصوف بقدرة غير متناهية، ورحمة غير متناهية، وحكمة غير متناهية، فعلى هذا أنا لا أقدر على دفع حاجاتي ولا على تحصيل مهماتي، بل ليس القادر على دفع تلك الحاجات وعلى تحصيل تلك المهمات إلا الله سبحانه وتعالى، فأنا أجعل همي مشغولًا بذكره فقط، ولساني مشغولًا بذكره فقط فإذا فعلت ذلك فهو برحمته يكفيني مهمات الدنيا والآخرة.
الفائدة العاشرة: أن العقل لا يمكنه الاشتغال بشيء حالة الاستغراق في العلم بشيء آخر، فإذا وجه فكره إلى شيء يبقى معزولًا عن غيره، فكأن العبد يقول: كلما استحضرت في ذهني العلم بشيء فاتني في ذلك الوقت العلم بغيره، فإذا كان هذا لازمًا فالأولى أن أجعل قلبي وفكري مشغولًا بمعرفة أشرف المعلومات، وأجعل لساني مشغولًا بذكر أشرف المذكورات؛ فلهذا السبب أواظب على قوله: يا هو.
الفائدة الحادية عشرة: أن الذكر أشرف المقامات، قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: «إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه».
وإذا ثبت هذا فنقول: أفضل الأذكار ذكر الله بالثناء الخالي عن السؤال، قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: «من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين»، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: العبد فقير محتاج، والفقير المحتاج إذا نادى مخدومه بخطاب يناسب الطلب والسؤال كان ذلك محمولًا على السؤال، فإذا قال الفقير للغني: يا كريم كان معناه أكرم وإذا قال له: يا نفاع كان معناه طلب النفع، وإذا قال: يا رحمن كان معناه ارحم، فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال، وقد بينا أن الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خاليًا عن السؤال والطلب، أما إذا قال: يا هو كان معناه خاليًا عن الإشعار بالسؤال والطلب، فوجب أن يكون قولنا: هو أعظم الأذكار.
ولنختم هذا الفصل بذكر شريف رأيته في بعض الكتب: يا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا إله إلا هو، يا أزل، يا أبد، يا دهر، يا ديهار، يا ديهور، يا من هو الحي الذي لا يموت.
ومن لطائف هذا الفصل أن الشيخ الغزالي رحمة الله عليه كان يقول: لا إله إلا الله توحيد العوام، ولا إله إلا هو توحيد الخواص، ولقد استحسنت هذا الكلام وقررته بالقرآن والبرهان: أما القرآن فإنه تعالى قال: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها ءاخَرَ لاَ إله إِلاَّ هُوَ}.
ثم قال بعده: {كُلُّ شيء هَالِك إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] معناه إلا هو، فذكر قوله إلا هو بعد قوله لا إله فدل ذلك على أن غاية التوحيد هي هذه الكلمة، وأما البرهان فهو أن من الناس من قال: إن تأثير الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها، بل لا تأثير له إلا في إعطاء صفة الوجود لها، فقلت: فالوجود أيضًا ماهية، فوجب أن لا يكون الوجود واقعًا بتأثيره، فإن التزموا ذلك وقالوا الواقع بتأثير الفاعل موصوفية الماهية بالوجود فنقول: تلك الموصوفية إن لم تكن مفهومًا مغايرًا للماهية والوجود امتنع إسنادها إلى الفاعل، وإن كانت مفهومًا مغايرًا فذلك المفهوم المغاير لابد وأن يكون له ماهية؛ وحينئذٍ يعود الكلام، فثبت أن القول بأن المؤثر لا تأثير له في الماهيات ينفي التأثير والمؤثر، وينفي الصنع والصانع بالكلية، وذلك باطل فثبت أن المؤثر يؤثر في الماهيات، فكل ما بالغير فإنه يرتفع بارتفاع الغير، فلولا المؤثر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة، فبقدرته صارت الماهيات ماهيات، وصارت الحقائق حقائق وقبل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجود ولا حقيقة ولا ثبوت، وعند هذا يظهر صدق قولنا: لا هو إلا هو أي: لا تقرر لشيء من الماهيات ولا تخصص لشيء من الحقائق إلا بتقريره وتخصيصه، فثبت أنه لا هو إلا هو، والله أعلم.

.الباب الثامن: في بقية المباحث عن أسماء الله تعالى:

وفيه مسائل:

.المسألة الأولى: هل أسماؤه تعالى توقيفية؟.

اختلف العلماء في أن أسماء الله تعالى توقيفية أم اصطلاحية، قال بعضهم لا يجوز إطلاق شيء من الأسماء والصفات على الله تعالى إلا إذا كان واردًا في القرآن والأحاديث الصحيحة، وقال آخرون: كل لفظ دل على معنى يليق بجلال الله وصفاته فهو جائز، وإلا فلا، وقال الشيخ الغزالي رحمة الله عليه: الاسم غير، والصفة غير، فاسمي محمد، واسمك أبو بكر، فهذا من باب الأسماء، وأما الصفات فمثل وصف هذا الإنسان بكونه طويلًا فقيهًا كذا وكذا، إذا عرفت هذا الفرق فيقال: أما إطلاق الاسم على الله فلا يجوز إلا عند وروده في القرآن والخبر، وأما الصفات فإنه لا يتوقف على التوقيف.
واحتج الأولون بأن قالوا: إن العالم له أسماء كثيرة، ثم أنا نصف الله تعالى بكونه عالمًا ولا نصفه بكونه طبيبًا ولا فقيهًا، ولا نصفه بكونه متيقنًا ولا بكونه متبينًا، وذلك يدل على أنه لابد من التوقيف، وأجيب عنه فقيل: أما الطبيب فقد ورد؛ نقل أن أبا بكر لما مرض قيل له: نحضر الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، وأما الفقيه فهو عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه بعد دخول الشبهة فيه.
وهذا القيد ممتنع الثبوت في حق الله تعالى، وأما المتيقن فهو مشتق من يقن الماء في الحوض إذا اجتمع فيه، فاليقين هو العلم الذي حصل بسبب تعاقب الأَمارات الكثيرة وترادفها حتى بلغ المجموع إلى إفادة الجزم، وذلك في حق الله تعالى محال وأما التبيين فهو عبارة عن الظهور بعد الخفاء، وذلك لأن التبيين مشتق من البينونة والإبانة وهي عبارة عن التفريق بين أمرين متصلين، فإذا حصل في القلب اشتباه صورة بصورة ثم انفصلت إحداهما عن الأخرى فقد حصلت البينونة؛ فلهذا السبب سمي ذلك بيانًا وتبيينًا، ومعلوم أن ذلك في حق الله تعالى محال.
واحتج القائلون بأنه لا حاجة إلى التوقيف بوجوه: الأول: أن أسماء الله وصفاته مذكورة بالفارسية وبالتركية وبالهندية، وإن شيئًا منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار، مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها.
الثاني: أن الله تعالى قال: {وَللَّهِ الأسماء الحسنى فادعوه بِهَا} [الأعراف: 180] والاسم لا يحسن إلا لدلالته على صفات المدح ونعوت الجلال، فكل اسم دل على هذه المعاني كان اسمًا حسنًا، فوجب جواز إطلاقه في حق الله تعالى تمسكًا بهذه الآية.
الثالث: أنه لا فائدة في الألفاظ إلا رعاية المعاني، فإذا كانت المعاني صحيحة كان المنع من إطلاق اللفظة المعينة عبثًا، وأما الذي قاله الشيخ الغزالي رحمة الله تعالى عليه فحجته أن وضع الاسم في حق الواحد منا يعد سوء أدب، ففي حق الله أولى، أما ذكر الصفات بالألفاظ المختلفة فهو جائز في حقنا من غير منع، فكذلك في حق البارئ تعالى.

.المسألة الثانية: ورود ألفاظ في القرآن دالة على صفات لا يمكن إثباتها في حق الله:

اعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على صفات لا يمكن إثباتها في حق الله تعالى، ونحن نعد منها صورًا، فأحدها: الاستهزاء، قال تعالى: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} [البقرة: 15] ثم أن الاستهزاء جهل، والدليل عليه أن القوم لما قالوا لموسى عليه السلام: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} [البقرة: 67] وثانيها: المكر، قال تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] وثالثها: الغضب قال تعالى: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} [الفتح: 6] ورابعها: التعجب، قال تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} [الصافات: 12] فمن قرأ عجبت بضم التاء كان التعجب منسوبًا إلى الله، والتعجب عبارة عن حالة تعرض في القلب عند الجهل بسبب الشيء، وخامسها: التكبر، قال تعالى: {العزيز الجبار المتكبر} [الحشر: 23] وهو صفة ذم، وسادسها: الحياء، قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا} [البقرة: 26] والحياء عبارة عن تغير يحصل في الوجه والقلب عند فعل شيء قبيح.
واعلم أن القانون الصحيح في هذه الألفاظ أن نقول: لكل واحد من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية، وآثار تصدر عنها في النهاية، مثاله أن الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دم القلب وسخونة المزاج، والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فإذا سمعت الغضب في حق الله تعالى فاحمله على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض، وقس الباقي عليه.

.المسألة الثالثة: بيان أن أسماء الله لا تحصى:

رأيت في بعض كتب التذكير أن لله تعالى أربعة آلاف اسم: ألف منها في القرآن والأخبار الصحيحة وألف منها في التوراة، وألف في الإنجيل، وألف في الزبور ويقال: ألف آخر في اللوح المحفوظ، ولم يصل ذلك الألف إلى عالم البشر، وأقول: هذا غير مستبعد، فإنا بينا أن أقسام صفات الله بحسب السلوب والإضافات غير متناهية، ونبهنا على تقرير هذا الموضع وشرحناه شرحًا بليغًا، بل نقول: كل من كان اطلاعه على آثار حكمة الله تعالى في تدبير العالم الأعلى وتدبير العالم الأسفل أكثر، كان اطلاعه على أسماء الله تعالى أكثر، ووقوفه على الصفات الموجبة للمدح والتعظيم أكثر، فمن طالع تشريح بدن الإنسان ووقف فيه على ما يقرب من عشرة آلاف نوع من أنواع الرحمة والحكمة في تخليق بدن الإنسان فقد حصل في عقله عشرة آلاف نوع من أسماء الله تعالى الدالة على المدح والتعظيم، ثم إن من وقف على العدد الذي ذكرناه من أقسام الرحمة والحكمة في بدن الإنسان صار ذلك منبهًا للعقل على أن الذي لم يعرفه من أقسام الحكمة والرحمة في تخليق هذا البدن أكثر مما عرفه، وذلك لما عرف أن الأرواح الدماغية من العصب سبعة، عرف لكل واحد منها فائدة وحكمة، ثم لما عرف أن كل واحد من هذا الأرواح ينقسم إلى ثلاثة أقسام أو أربعة عرف بالجبلة الشديدة وجه الحكمة في كل واحد من تلك الأقسام.
ثم إن العقل يعلم أن كل واحد من تلك الأقسام ينقسم إلى شظايا دقيقة، وكل واحدة من تلك الشظايا تنقسم إلى أقسام أخر وكل واحد من تلك الأقسام يتصل بعضو معين اتصالًا معينًا.
ويكون وصول ذلك القسم إلى ذلك العضو في ممر معين، إلا أنها لما كثرت ودقت خرجت عن ضبط العقل، فثبت أن تلك العشرة آلاف تنبه العقل على أن أقسام حكمة الله تعالى في تخليق هذا البدن خارج عن التعديد والتحديد والإحصاء والاستقصاء كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34، النحل: 8] فكل من وقف على نوع آخر من أنواع تلك الحكمة فقد وصل إلى معرفة اسم آخر من أسماء الله تعالى، ولما كان لا نهاية لمراتب حكمة الله تعالى ورحمته فكذلك لا نهاية لأَسمائه الحسنى ولصفاته العليا، وذكر جالينوس في كتاب منافع الأعضاء أنه لما صنف ذلك الكتاب لم يكتب فيه منافع مجمع النور، قال: وإنما تركت كتابتها ضنة بها لشرفها، فرأيت في بعض الليالي كأن ملكًا نزل من السماء وقال: جالينوس، إن إلهك يقول: لم أخفيت حكمتي عن عبادي قال: فلما انتهيت صنفت في هذا المعنى كتابًا مفردًا، وبالغت في شرحه، فثبت بما ذكرنا أنه لا نهاية لأسماء الله الحسنى.