فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولذلك شاع عند النحاة أنّه فاعل بفعل مقدر، وإنّما هو تقدير اعتبارٍ.
ولعلّ المقصود من التنصيص على إفادة العموم، ومن تقديم {أحد من المشركين} على الفعل، تأكيد بذل الأمان لمن يسأله من المشركين إذا كان للقائه النبي صلى الله عليه وسلم ودخولِه بلاد الإسلام مصلحة، ولو كان أحد من القبائل التي خانت العهد، لئلاّ تحمِل خيانتُهم المسلمين على أن يخونوهم أو يغدروا بهم فذلك كقوله تعالى: {ولا يجرمنّكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} [المائدة: 2]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تَخُن من خانك».
والاستجارة: طلب الجوار، وهو الكون بالقرب، وقد استعمل مجازًا شائعًا في الأمن، لأنّ المرء لا يستقر بمكان إلاّ إذا كان آمنًا، فمن ثم سمّوا المؤمِّن جارًا، والحليفَ جارًا، وصار فعل أجَار بمعنى أمَّن، ولا يطلق بمعنى جعَلَ شخصًا جارًا له.
والمعنى: إنْ أحد من المشركين استأمنك فأمنه.
ولم يبيّن سبب الاستجارة، لأنّ ذلك مختلف الغرض وهو موكول إلى مقاصد العقلاء فإنّه لا يستجير أحد إلاّ لغرض صحيح.
ولما كانت إقامة المشرك المستجير عند النبي عليه الصلاة والسلام لا تخلو من عرض الإسلام عليه وإسماعِه القرآن، سواء كانت استجارته لذلك أم لغرض آخر، لما هو معروف من شأن النبي صلى الله عليه وسلم من الحرص على هدي الناس، جعل سماع هذا المستجير القرآن غاية لإقامته الوقتية عند الرسول صلى الله عليه وسلم فدلّت هذه الغاية على كلام محذوف إيجازًا، وهو ما تشتمل عليه إقامة المستجير من تفاوض في مهمّ، أو طلب الدخول في الإسلام، أو عرض الإسلام عليه، فإذا سمع كلام الله فقد تمّت أغراض إقامته لأنَّ بعضها من مقصد المستجير وهو حريص على أن يبدأ بها، وبعضها من مقصد النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا يتركه يعود حتّى يعيد إرشاده، ويكون آخر ما يدور معه في آخر أزمان إقامته إسماعه كلام الله تعالى.
وكلام الله: القرآن، أضيف إلى اسم الجلالة لأنّه كلام أوجده الله ليدلّ على مراده من الناس وأبلغه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بواسطة الملك، فلم يكن من تأليف مخلوق ولكن الله أوجده بقدرته بدون صنع أحد، بخلاف الحديث القدسي.
ولذلك أعقبه بحرف المهلة {ثم أبلغه مأمنه} للدلالة على وجوب استمرار إجارته في أرض الإسلام إلى أن يبلغ المكان الذي يأمن فيه، ولو بلغه بعد مدّة طويلة فحرف (ثم) هنا للتراخي الرتبي اهتمامًا بإبلاغه مأمنه.
ومعنى {أبلغه مأمنه} أمهله ولا تُهجه حتّى يبلغ مأمنه، فلمّا كان تأمين النبي عليه الصلاة والسلام إياه سببًا في بلوغه مأمنه، جعل التأمين إبلاغًا فأمر به النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا يتضمّن أمر المسلمين بأن لا يتعرّضوا له بسوء حتّى يبلغ بلاده التي يأمن فيها.
وليس المراد أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يتكلّف ترحيله ويبعث من يبلغه، فالمعنى: اتركه يبلغ مأمنه، كما يقول العرب لمن يبادر أحد بالكلام قبل إنهاء كلامه: أبلعْني ريقي، أي أمهلني لحظة مقدار ما أبلعُ ريقي ثم أكلّمك، قال الزمخشري: قلت لبعض أشياخي: أبلعْني ريقي فقال قد أبلعْتك الرافدين يعني دجلة والفرات.
و(المأمن) مكان الأمن، وهو المكان الذي يجد فيه المستجير أمْنَه السابق، وذلك هو دار قومه حيث لا يستطيع أحد أن يناله بسوء.
وقد أضيف المأمن إلى ضمير المشرك للإشارة إلى أنّه مكان الأمن الخاصّ به، فيعلم أنّه مقرّه الأصلي، بخلاف دار الجوار فإنّها مأمن عارض لا يُضاف إلى المُجار.
وجملة: {ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} في موضع التعليل لتأكيد الأمر بالوفاء لهم بالإجارة إلى أن يصلوا ديارهم، فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها، أي: أمَرْنا بذلك بسبب أنّهم قوم لا يعلمون، فالإشارة إلى مضمون جملة: {فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} أي لا تؤاخذهم في مدّة استجارتهم بما سبق من أذاهم لأنّهم قوم لا يعلمون وهذه مذمّة لهم بأنّ مثلهم لا يقام له وزن وأوف لهم به إلى أن يصلوا ديارهم لأنّهم قوم لا يعلمون ما يحتوي عليه القرآن من الإرشاد والهدى، فكان اسم الإشارة أصلحَ طُرق التعريف في هذا المقام، جمعًا للمعاني المقصودة، وأوجزَه.
وفي الكلام تنويه بمعالي أخلاق المسلمين وغض من أخلاق أهل الشرك، وأنّ سبب ذلك الغضّ الإشراك الذي يفسد الأخلاق، ولذلك جُعلوا قومًا لا يعلمون دون أن يقال بأنّهم لا يعلمون: للإشارة إلى أنّ نفي العلم مطّرد فيهم، فيشير إلى أنّ سبب اطّراده فيهم هو نشأته عن الفكرة الجامعة لأشتاتهم، وهي عقيدة الإشراك.
والعلم، في كلام العرب، بمعنى العقل وأصالة الرأي، وأنّ عقيدة الشرك مضادة لذلك، أي كيف يعبد ذو الرأي حجرًا صَنعه وهو يعلم أنّه لا يُغني عنه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)}
وبعد أن بَيَّن الله سبحانه وتعالى المهلة التي هي الأشهر الأربعة أو مدة العهد إذا كان هناك عهد. وبعد أن بين أن الكفار إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وقرنوا الإيمان بالعمل؛ فالحق سبحانه وتعالى يغفر لهم ما قد سلف منهم، وبين الله سبحانه وتعالى عظمة الإسلام والرحمة التي نزل بها هذا الدين؛ فيخبرنا أن الذين لم يتوبوا من الكفار وظلوا على حالهم ولم نقدر عليهم بأي عقوبة من العقوبات التي جاءت، ثم جاء أحدهم مستجيرًا بالمؤمنين فماذا يكون سلوكنا معه؟
جاء الحكم من الله تعالى بأنه ما دام قد استجار بك فأجره، وإذا أجرته أسمعه كلام الله تعالى وحاول أن تهديه إلى الإيمان وإلى الطريق المستقيم؛ فإن آمن واقتنع وأعلن إسلامه أصبح واحدًا من المسلمين، وإن لم يسمع كلام الله ولم يقتنع فلا تقتله؛ ولكن أبلغه مأمنه، أي اسأله من أين جاء؟ فإذا قال لك اسم القبيلة التي ينتمي إليها أو حدد المكان الذي جاء منه فتأكد أنه سوف يكون آمنًا حتى يبلغ المكان الذي يجد فيه الأمان. وهذه هي المرحلة الأخيرة من علاقة الإيمان بالكفر، وهي مرحلة الإجارة والتأمين للمستجيرين بالمؤمنين.
فالله سبحانه وتعالى تفضل على خلقه في الأرض فأرسل إليهم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعد أن مرت فترة طويلة على إرسال من سبقوه من الرسل. وكان الناس قد نسوا منهج السماء، بل وحرَّف أهل الكتاب ما نزل إليهم من تعاليم.
وكان لابد أن تتدخل السماء بإرسال خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قد جعل في الإيمان مناعات متعددة، توجد أولا في النفس، فحين تستشرف النفس إلى معصية، فالضمير الإيماني ما زال موجودًا فيها، وهذا الإيمان هو الذي يكبح الشهوة ويمنع النفس من الركون إلى المعصية ويرد صاحبه إلى الطريق الصحيح والمنهج السوي.
وهب أن نفسًا ولعت بمخالفة المنج ولم تعد نفسا لوامة، وتظل ترتكب المعاصي حتى تعتاد على المعصية، ويموت فيها الوازع الإيماني، فتجدها قد عشقت- والعياذ بالله- مخالفة المنهج، بل أصبحت نفسًا أمارة بالسوء، وهنا ينقل الله المناعة الإيمانية من النفس إلى المحيطين بها من عباد الله، فتجد المحيطين بمرتكب المعاصي يردعونه عن المعصية، ويقفون منه مواقف الإيمان من الردع والمقاطعة والجفوة حتى يفيء إلى ربه يعود إلى رشده. وتلك مرحلة ثانية من مراحل الإيمان. أما إن فسد المجتمع كله ولم تعد هناك طائفة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلابد أن تتدخل السماء برسالة جديدة وبرسول جديد مؤيد بمعجزة من السماء ليوقظ الناس من هذا السبات العميق الذي شمل الأفراد والمجتمعات.
وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وواجه هذا المجتمع الذي انتشر فيه الكفر أفرادًا وجماعات كان لابد أن يحدث تصادم بين الإيمان ومجتمع الكفر؛ ذلك أن العداوة الشرسة واجهت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه المواجهة للرسول إنما جاءت من المنتفعين بالفساد في الأرض. والمنتفعون بالفساد هم السادة الذين استفادوا من ضياع الحق وانتشار الباطل فأخذوا حقوق غيرهم واستعبدوا الناس، واستأثروا هم بالمنافع وبما فيه الخير لهم ومنعوا ذلك عن باقي عباد الله.
والمنتفعون بالفساد يكرهون أي مصلح جاء ليعدل ميزان حركة الحياة في الكون. فلابد أن يقفوا في وجهه؛ ليدافعوا عن سيادتهم وعن منافعهم وأموالهم التي حصلوا عليها بالباطل والظلم، ومن استعبادهم للناس. وكانت الجزيرة العربية في ذلك الوقت مكونة من قبائل متعددة، وكان لكل قبيلة قانونها الذي يضعه شيخها ليستأثر لنفسه بكل شيء.
ومعنى ذلك أنه لا توجد رابطة تربط بين هذه القبائل، ولا يوجد قانون عام يحكمها، وكل قبيلة لها عزوتها ولها شوكتها ولها حروبها. وكل فرد في قبيلة لابد أن يكون مقاتلا يحمل سلاحه مستعدا للحرب في أي وقت، لأنه مهدد في أي لحظة أن تغير عليه قبيلة أخرى، إلا قبيلة واحدة هي قريش. فقد أخذت السيادة ولا يعتدي عليها أحد ولا تُهَاجَم قوافلها، ولا تستطيع قبيلة في الشمال أو في الجنوب أن تهاجم تجارتها؛ لأن هذه القبائل كلها ستأتي في يوم من الأيام قاصدة حج بيت الله الحرام في مكة. وخلال الحج تكون هذه القبائل في حاجة إلى الأمان من قريش؛ ولذلك حرصت كل قبائل العرب أن تحافظ على علاقتها مع قريش، لأن السيادة على بيت الله الحرام التي جعلها الله لقريش هي الضمان. وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحماية البيت الحرام من أي عدوان، حتى عندما جاء أبرهة بأفياله ليهدم الكعبة؛ جعله الله هو وجيشه كعصف مأكول مصداقًا لقول الحق تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 1-5].
فإذا قرأت السورة التي بعد سورة الفيل مباشرة تجد أنها: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتاء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4].
فكأن حفظ الكعبة من الهدم كان حفظًا من الله سبحانه وتعالى لسيادة قريش. ولذلك كان من الواجب أن تستقبل قريش رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان والشكر وفهم هذه النعمة وتقديرها، بدلًا من أن تقف من الإسلام هذا الموقف المتعنت وتحاربه هذه الحرب الرهيبة، ولكن بدلًا من ذلك فقد حدث العكس، وأحست قريش كذبًا بأن الإسلام جاء ليهدد سيادتها فقامت تحاربه.
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تكن النداءات بالإسلام بعيدا عن هذه السيادة؟ لأن الحق قد أراد أن تكون صيحة الحق في جبروت الباطل وأن يواجه الإسلام في أول أيامه جبروت سادة الجزيرة العربية كلهم جميعا حتى يمحص الله قلوب المسلمين الأوائل. فهم من يحملون من بعد ذلك دعوة الإسلام في العالم؛ فلا يعتنق الإسلام منافق أو ضعيف الإيمان، بل يعتنقه أولئك الذين في قلوبهم إيمان حقيقي، ويتحملون كل مظاهر الاضطهاد والتعذيب بقوة إيمانهم.
لقد شاء الحق تبارك وتعالى أن يبدأ الإسلام في مكة ولم يجعل الله له النصر من مكة، وشاء سبحانه وتعالى أن يجعل نصر الإسلام من المدينة؛ لأن قريشا لو انتصرت دعوة واحد منها فهم سيحاولون احتواءه ليسودوا به الدنيا، وحينئذ سيقال: هم قوم قد تعصبوا لواحد منهم لتظل لهم السيادة، ويكون اعتناق الإسلام نفاقًا وليس إيمانًا حقيقيا. ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى انتصار الإسلام من المدينة ليعلم الناس جميعًا؛ أن العصبية لمحمد صلى الله عليه وسلم لم تخلق الإيمان برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي خلق العصبية لمحمد عليه الصلاة والسلام.
ولذلك شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون هناك مواجهة شرسة بين حملة الإيمان وبين سادة الكفر. وهذه المواجهة أخذت عدة مراحل:
المرحلة الأولى كانت الدعوة للإيمان، والدعوة إلى المحبة، والدعوة إلى المساواة. وعدم مقابلة التعذيب والقتل بالعنف. وهذه البداية لم تعجب سادة قريش بل جعلتهم يستهينون بالمؤمنين ويمنعون في إيذائهم وتعذيبهم ويعتقدون أنهم سيقضون عليهم، فلما وجدوا الدعوة تقوى رغم كل ما تواجهه من مراحل التعذيب والبطش؛ ازدادوا تنكيلًا بالمؤمنين، فهاجر بعض من المؤمنين إلى الحبشة، وأصبحوا يبحثون عمن يحميهم ويستجيرون به؛ وشاء الحق تبارك وتعالى ذلك حتى لا يدخل الإسلام إلا من أُشرب قلبه حب الإسلام واستهان بكل الصعاب والاضطهاد والقتل والتشريد؛ وهؤلاء هم الذين سيصبحون مأمونين على الدعوة. وبعد ذلك ظل الكفر على كفره، وظل الإيمان يأخذ إليه بهدوء بعض الأفراد، وحاول الكفار أن يستميلوا المؤمنين بالحيلة بعد أن فشلت القوة والبطش والإرهاب؛ فقالوا: نعبد إلهكم فترة وتعبدون إلهنا فترة، فأنزل الله سبحانه وتعالى سورة فيها ما يسمى بالعرف الحديث قطع العلاقات، فقال الحق عز وجل: {قُلْ يا أيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1-6].