فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن هنا فالتربية الإسلامية لنا جميعًا؛ لذلك يجب علينا أن نرد التحية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمنا أن المؤمنين تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم. فلو أن صبيا أعطى الأمان لكافر جاء ليسمع كلام الله؛ قبلت منه هذه الإجارة أو هذا الأمان، ذلك أن الصبي استفاد من تربية إسلامية جاء بها المنهج المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستفاد من أمه التي تحملت حمله وآلام وضعه، ولولا أن الإسلام حمى النفس حين توجد في الرحم لأمكن للمرأة حين يتعبها الحمل أن تجهض نفسها أو أن تطرح الصبي بعيدًا، ولكن الإسلام حمى الطفل وهو في بطن أمه، وحماه حتى تكتمل رضاعته، وتتمثل الأم المسلمة لكل أحكام الإسلام:
{والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233].
لقد احترم الإسلام الطفل، وسانده، وطلب من الأب والأم أن يحسنا تسمية أولادهما وأن يحسنا تربيتهما.
وقبل أن يوجد هذا الطفل في رحم أمه حماه الإسلام- كما قلنا- بأن أمر الرجل أن يختار الأم الصالحة؛ لتكون وعاء صالحًا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: فيما يرويه عنه أبو حاتم المزني قال: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» قالوا يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه». ثلاث مرات.
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: في حديث له: «فاظفر بذات الدين تربت يداك».
والحديث فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه يقول: قال صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك».
فإذا كان الإسلام قد احترم هذا الصبي في كل حقوقه، ألا يحترمه المسلمون؟.
وقد يقال إن الصبي منتفع بالإسلام، أما المجنون فلا عقل له حتى إن الله عز وجل قد أعفاه من التكاليف، ونقول: انظروا إلى المجنون بالنسبة لأصحاب العقول، صاحب العقل قصارى ما يصل إليه أن تكون كلمته نافذة لا يعترض عليه أحد، وأن يقول ما يريد ولا يحاسبه أحد، أما المجنون فهو يصل إلى هذا؛ لأنه إن قال قولًا فلا أحد يعترض عليه، وإن فعل فعلًا غير لائق فلا أحد يحاسبه، بل إنه سبحانه وتعالى لا يحاسبه يوم القيامة.
إذن فالمجنون قد أخذ حظا أكثر مما يأخذه العقلاء، وصار جنونه حماية وحصانة له إن قال كلمة الحق التي قد تؤذي ذوي النفوذ فلا يعاقبه أحد، ويكفي أن يقال إنَّه مجنون حتى يعفى من العقاب، ورب كلمة حق واحدة تصدر من مجنون؛ تكون أرجح عند الله عز وجل من أصحاب عقول كثيرة ظلوا طوال حياتهم ينافقون ويكذبون ويفعلون ما يغضب الله.
إذن فهناك مهمة في الحياة قد يؤديها المجنون ولا يؤديها العاقل، لأن بعض الناس يعتقد أنه إذا سلب الله أحد البشر شيئا فإنه يميز عنه الآخرين، نقول: لا، لأن عدل الله يأبى إلا أن يعوضه، ولذلك تجد من فقد عينيه يجعل الله عز وجل عيون الناس في خدمته؛ هذا يأخذ بيده؛ وهذا يقوده في الطريق، وهذا يحضر له الطعام والشراب، وهذا يسقيه. إلخ.
وإن كان الإنسان أعرجَ مثلًا، تجد هذا يعاونه، وهذا يأخذه معه في سيارته، وقد تقف له سيارة أجرة تأخذه إلى حيث يريد.
بينما يقضي السليم الساعات يبحث عن سيارة الأجرة بلا فائدة. بل إنك إن نظرت إلى الفقير تجد أنَّ الله قد جعل له عددًا من الأغنياء في خدمته، ففلان يحرث ويعزق ويعطيه الله خير الزراعة ليبيعه ويفيض منه على الفقير، وآخر يصنع ويتعب ويشقى ليعطي بعضًا من دخله للفقير، بل إنه يشقى مرة أخرى ليعثر على الفقير حقا ليعطيه بعضًا من ماله، والفقير بالفعل يستحق أن يأخذ شريطة ألا يكون مدعيا للفقر. فما دام قد قبل حكم الله بالفقر والعجز، يوضح له ربه: لقد رضيت بأني أعجزتك، فخذ من قدرة الأغنياء ما يعينك في حياتك، فهذا مُلْكٌ كَوْني له نظام، وأقول ذلك حتى نفهم أن الغنى والفقَر، والصحة والمرض، والقوة والضعف، إنما هي أغيار، ولذلك لا أحد يضمن غَدَهُ، وعلى الواحد منا إن كان قادرًا أن يعطي الفقير، حتى إذا ضاع منا المال وجدنا من يعطينا، وأن نساعد المريض، حتى يكونوا في خدمتنا وقت شدتنا. وفي نفس الوقت حين نرى من رحمه الله من البصر يجب علينا أن نشكر نعمة الله علينا، ولو رأينا إنسانًا يعاني في مشيه تنبهنا إلى نعمة الله في أن أعطانا قدرة المشي.
وهكذا فالإنسان لا يتنبه إلى النعمة إلا إذا رأى من هو محروم منها. وكذلك أراد الحق أن يرضي كل ذي آفة قَبل آفته ولم يتمرد عليها؛ لذلك يفيض عليه بالخير.
إذن فكل إنسان أسلم يستفيد من الإسلام حتى الصبي والمجنون استفادا من الإسلام، ولذلك فلابد أن نرد التحية لمن بَلَّغنا هذا المنهج الذي أعطانا الحماية، فنقرأ المنهج ونعمل به.
وحين نستقرئ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجده يرد جميل كل من ساعده، ومثال ذلك حليمة السعدية التي نالت شرف إرضاعه صلى الله عليه وسلم وهو صغير، ثم أكرمها الرسول هي وأسرتها بعد أن صار نبيا.
ثم ألم يذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ليطلب النصير له في تبليغ الدعوة بعد وفاة خديجة رضي الله عنها ووفاة عمه أبي طالب، وعز عليه النصير وفكر في العودة إلى مكة، والتمس من يجيره حين يدخلها فأجاره واحد من الكفار هو المطعم بن عدي، فإذا كان كافرٌ قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدعو لمحاربة الكفر؛ أفلا نجير واحدًا من الكفار لنرد التحية بخير منها؟
وإذا كان واحد من الكفار قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة فلابد أن يرد المؤمنون كلهم التحية بأن يجيروا من يستجير بهم من الكفار. وبعد أن يجير المسلمون من استنجد بهم من الكفار على أن يسمعوه كلام الله. وبعد ذلك هناك أحد أمرين إما أن يعلن الكافر الإيمان، وفي هذه الحالة أصبح من المؤمنين، وإما أن يصر على كفره وعناده، وفي هذه الحالة يصبح على المسلمين مسئولية أن يبلغوه مأمنه، وذلك بأن يساعدوه على الوصول إلى المكان الذي يصبح آمنا فيه على نفسه وماله، وبعد أن يبلغ مأمنه ويسمع كلام الله فليس على المسلمين أن يطلقوا سراحه كما كان الأمر من قبل:
{فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].
لا، بل على المسلمين أن يبلغوه مأمنه، ثم ينفذون فيه حكم الله إما أسرًا، وإما حصارًا، أو قتلًا؛ حسب الحكم النازل من الله. وعلة تأمين الكافر هي أنه من قوم لا يعلمون حسبما قال الله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6].
إذن فالإيمان ليس بالفطرة فقط؛ لأن العلم له وسائل كثيرة؛ علم بالفطرة، وعلم بالاكتساب، ومرة تكون أداة العلم الأذن، ومرة بالعين، ومرة بالعقل، والمعلومات كلها تنشأ عند الإنسان إما بالإذن مما يسمع، وإما بالعين مما يرى، ثم بعد ذلك تستقر المعاني في نفس الإنسان.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78].
وهكذا حدد لنا القرآن الكريم وسائل العلم بالسمع والبصر، فإذا استقرت هذه المعلومات في الفؤاد، لأنه الذي يحفظ كل القضايا العقلية والفكرية. وإذا كان الإنسان يسمع ولا يفقه شيئا فهو لا يعلم.
إذن فالمستجير جاء ليطلب وسائل العلم وأدلة الإيمان؛ وعذره أنه لا يعلم.
وعلينا أن نحسن الظن وأن نعتبر المستجير طالب علم بالحقيقة، ويريد أن يأخذ أدلة الإيمان. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)}
الاستثناء بقوله: {إِلاَّ الذين عاهدتم}.
قال الزجاج: إنه يعود إلى قوله: {بَرَاءةٌ} والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين من المشركين إلا الذين لم ينقضوا العهد منهم.
وقال في الكشاف: إنه مستثنى من قوله: {فَسِيحُواْ} والتقدير: فقولوا لهم: فسيحوا، إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقصوكم، فأتموا إليهم عهدهم.
قال: والاستثناء بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين: ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم.
وقد اعترض عليه بأنه قد تخلل الفاصل بين المستثنى والمستثنى منه، وهو: {وَأَذَانٌ مّنَ الله} إلخ.
وأجيب بأن ذلك لا يضرّ، لأنه ليس بأجنبي.
وقيل: إن الاستثناء من المشركين المذكورين قبله، فيكون متصلًا وهو ضعيف.
قوله: {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} أي: لم يقع منهم أيّ نقص.
وإن كان يسيرًا، وقرأ عكرمة، وعطاء بن يسار {ينقضوكم} بالضاد المعجمة، أي لم ينقضوا عهدكم، وفيه دليل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده.
ومنهم من ثبت عليه، فأذن الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد من نقض، وبالوفاء لمن لم ينقض إلى مدّته {وَلَمْ يظاهروا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} المظاهرة: المعاونة: أي لم يعاونوا عليكم أبحدًا من أعدائكم {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} أي: أدّوا إليهم عهدهم تامًا غير ناقص {إلى مُدَّتِهِمْ} التي عاهدتموهم إليها، وإن كانت أكثر من أربعة أشهر، ولا تعاملوهم معاملة الماكثين على القتال بعد مضي المدّة المذكورة سابقًا، وهي أربعة أشهر أو خمسون يومًا على الخلاف السابق.
قوله: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} انسلاخ الشهر: تكامله جزءًا فجزءًا إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه، وأصله الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده، فاستعير لانقضاء الأشهر، يقال: سلخت الشهر تسلخه سلخًا وسلوخًا بمعنى: خرجت منه، ومنه قول الشاعر:
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله ** كفى قاتلًا سلخي الشهور وإهلالي

ويقال: سلخت المرأة درعها: نزعته، وفي التنزيل: {وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37].
واختلف العلماء في تعيين الأشهر الحرم المذكورة هاهنا، فقيل: هي الأشهر الحرم المعروفة التي هي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرّم، ورجب: ثلاثة سرد، وواحد فرد.
ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم.
وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة، خمسين يومًا تنقضي بانقضاء شهر المحرم، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون، وبه قال جماعة من أهل العلم منهم الضحاك والباقر.
وروي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير.
وقيل: المراد بها: شهور العهد المشار إليها بقوله: {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} وسميت حرمًا، لأن الله سبحانه حرّم على المسلمين فيها دماء المشركين والتعرّض لهم، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم منهم: مجاهد، وابن إسحاق، وابن زيد، وعمرو بن شعيب.
وقيل: هي الأشهر المذكورة في قوله: {فَسِيحُواْ في الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}.
وقد روي ذلك عن ابن عباس وجماعة، ورجحه ابن كثير، وحكاه عن مجاهد، وعمرو بن شعيب، ومحمد بن إسحاق، وقتادة، والسديّ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وسيأتي بيان حكم القتال في الأشهر الحرم الدائرة في كل سنة في هذه السورة إن شاء الله.
ومعنى: {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}: في أيّ مكان وجدتموهم من حلّ أو حرم.
ومعنى: {خذوهم}: الأسر، فإن الأخيذ هو الأسير.
ومعنى الحصر: منعهم من التصرّف في بلاد المسلمين إلا بإذن منهم، والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدوّ، يقال: رصدت فلانًا أرصده، أي اقعدوا لهم في المواضع التي ترتقبونهم فيها.
قال عامر بن الطفيل:
ولقد علمت وما أخالك عالما ** أن المنية للفتى بالمرصد

وقال النابغة:
أعاذل إن الجهل من لذة الفتى ** وإن المنايا للنفوس بمرصد