فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {أم حسبتم أن تُترَكوا}
في المخاطب بهذا قولان:
أحدهما: أنهم المؤمنون، خوطبوا بهذا حين شق على بعضهم القتال، قاله الأكثرون.
والثاني: أنهم قوم من المنافقين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج معه إلى الجهاد تعذيرًا، قاله ابن عباس.
وإنما دخلت الميم في الاستفهام، لأنه استفهام معترض في وسط الكلام، فدخلت لتفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ.
قال الفراء: ولو أُريد به الابتداء، لكان إما بالألف، أو بهل، ومعنى الكلام: أن تُتركوا بغير امتحان يبَين به الصادق من الكاذب.
{ولمّا يعلم الله} أي: ولم تجاهدوا فيعلم الله وجود ذلك منكم؛ وقد كان يعلم ذلك غيبًا، فأراد إظهار ما علم ليجازي على العمل.
فأما الوليجة، فقال ابن قتيبة: هي البطانة من غير المسلمين، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلًا من المشركين وخليطًا ووادًّا، وأصله من الولوج.
قال أبو عبيدة: وكل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم فهو وليجة فيهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ}
خروجٌ من شيء إلى شيء.
{أَن تُتْرَكُواْ} في موضع المفعولين على قول سيبويه.
وعند المبرّد أنه قد حذف الثاني.
ومعنى الكلام: أم حسبتم أن تتركوا من غير أن تُبْتلوا بما يظهر به المؤمن والمنافق الظهور الذي يستحق به الثواب والعقاب.
وقد تقدّم هذا المعنى في غير موضع.
{وَلَمَّا يَعْلَمِ} جزم بلمّا وإن كانت ما زائدة؛ فإنها تكون عند سيبويه جوابًا لقولك: قد فعل؛ كما تقدّم.
وكسرت الميم لالتقاء الساكنين.
{وَلِيجَةً} بِطانة ومداخلة؛ من الولوج وهو الدخول، ومنه سُمِّيَ الكِنَاسُ الذي تلج فيه الوحوش تَوْلَجًا.
وَلَجَ يَلِج وُلُوجًا إذا دخل.
والمعنى: دخيلَة مودّةٍ من دون الله ورسوله.
وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وَلِيجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم وَلِيجة.
وقال ابن زيد: الولِيجة الدخيلة، والوُلَجاء الدُّخلاء؛ فَولِيجة الرجل من يختص بِدُخْلَة أمره دون الناس.
تقول: هو وليجتي وهم وليجتي؛ الواحد والجمع فيه سواء.
قال أبَان بن تَغْلِب رحمه الله:
فبئس الوليجة للهاربين ** والمعتدين وأهل الرِّيَب

وقيل: وليجة بطانة؛ والمعنى واحد؛ نظيره {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118].
وقال الفرّاء: وليجة بطانة من المشركين يتخذونهم ويُفشون إليهم أسرارهم ويعلمونهم أمورهم. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {أم حسبتم أن تتركوا}
هذا من الاستفهام المعترض في وسط الكلام ولذلك أدخلت فيه أم لتفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ والمعنى أظننتم أيها المؤمنون أن تتركوا فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم} أراد بالعلم: المعلوم، لأن وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده.
قاله الإمام فخر الدين الرازي: ونقل الواحدي عن الزجاج أي العلم الذي يجازي عليه لأنه إنما يجازي على ما عملوا {ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة} قال الفراء: الوليجة: البطانة من المشركين يتخذونهم يفشون إليهم أسرارهم.
وقال قتادة: وليجة، يعني خيانة.
وقال الضحاك: خديعة.
وقال عطاء: أولياء.
يعني لا تتخذوا المشركين أولياء من دون الله ورسوله والمؤمنين.
وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة من الولوج فوليجة الرجل من يختصه بدخيلة أمره دون الناس.
وقال الراغب: الوليجة كل ما يتخذه الإنسان معتمدًا عليه وليس من قولهم فلان وليجة في القوم إذا دخل فيهم وليس منهم والمقصود من هذا نهي المؤمنين عن موالاة المشركين وإن يفشوا إليهم أسرارهم {والله خبير بما تعملون} يعني من موالات المشركين وإخلاص العمل لله وحده. اهـ.

.قال أبو حيان:

{أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم}
تقدّم تفسير نظير هذه الجملة، والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلَّص منكم وهم المجاهدون في سبيل الله الذين لم يتخذوا بطانة من دون الله من غيرهم.
{ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة} ولم يتخذوا معطوف على جاهدوا.
غير متخذين وليجة، والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل، وهي البطانة.
والمدخل يدخل فيه على سبيل الاستسرار، شبه النفاق به.
وقال قتادة: الوليجة الخيانة.
وقال الضحاك: الخديعة.
وقال عطاء: الأودّاء.
وقال الحسن: الكفر والنفاق.
وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم، وليجة يكون للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد.
وليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره من الناس، وجمعها ولائج وولج، كصحيفة وصحائف وصحف.
وقال عبادة بن صفوان الغنوي:
ولائجهم في كل مبدي ومحضر ** إلى كل من يرجى ومن يتخوف

وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لاسيما عند فرض القتال، والمعنى: لابد من اختباركم أيها المؤمنون كقوله: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} ولما كان الرجل قد يجاهد وهو منافق نفى هذا الوصف عنه، فبين أنه لابد للجهاد من الإخلاص خاليًا عن النفاق والرياء والتودّد إلى الكفار.
{والله خبير بما تعلمون} قرأ الجمهور بالتاء على الخطاب مناسبة لقوله: {أم حسبتم}.
وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الغيبة التفاتًا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{أَمْ حَسِبْتُمْ}
أم منقطةٌ جيء بها للدِلالة على الانتقال من التوبيخ السابقِ إلى آخَرَ وما فيها من همزة الاستفهامِ الإنكاريِّ توبيخٌ لهم على الحُسبان المذكورِ أي بل أحسِبتم {أَن تُتْرَكُواْ} على ما أنتم عليه ولا تُؤمروا بالجهاد ولا تُبْتلوا بما يُمحِّصكم والخطابُ إما لمن شق عليهم القتالُ من المؤمنين أو للمنافقين {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ} الواو حالية ولمّا للنفي مع التوقع، والمرادُ من نفي العلم نفيُ المعلومِ بالطريق البرهاني إذ لو شُمَّ رائحةُ الوجود لعُلم قطعًا فلما لم يُعلم لزِم عدمُه قطعًا أي أم حسبتم أن تتركوا والحالُ أنه لم يتبين الخُلّصُ من المجاهدين منكم من غيرهم، وما في لما من التوقع منبِّهٌ على أن ذلك سيكون، وفائدةُ التعبير عما ذكر من عدم التبينِ بعدم علم الله تعالى أن المقصودَ هو التبينُ من حيث كونُه متعلقًا للعلم ومدارًا للثواب، وعدمُ التعرّضِ لحال المقصّرين لما أن ذلك بمعزل من الاندراج تحت إرادةِ أكرم الأكرمين.
{وَلَمْ يَتَّخِذُواْ} عطف على جاهدوا داخلٌ في حيز الصلةِ أو حال من فاعله أي جاهدوا حالَ كونِهم غيرَ متّخذين {مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً} أي بِطانةً وصاحب سِرّ، وهو الذي تُطلعه على ما في ضميرك من الأسرار الخفيةِ، من الولوج وهو الدخولُ ومن دون الله متعلقٌ بالاتخاذ إن أُبقيَ على حاله أو مفعولٌ ثانٍ إن جُعل بمعنى التصيير {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي بجميع أعمالِكم وقرئ على الغَيبة وهو تذييلٌ يُزيح ما يُتوَهّم من ظاهر قوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ} الخ، أو حال متداخلةٌ من فاعله أو من مفعوله، والمعنى ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم والحالُ أنه يعلم جميعَ أعمالِكم لا يخفى عليه شيءٌ منها. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَمْ حَسبْتُمْ}
خطاب لمن شق عليه القتال من المؤمنين أو المنافقين {وأم} منقطعة جيء بها للانتقال عن أمرهم بالقتال إلى توبيخهم أو من التوبيخ السابق إلى توبيخ آخر، والهمزة المقدرة مع بل للتوبيخ على الحسبان المذكور أي بل أحسبتم وظننتم {حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ} على ما أنتم عليه ولا تؤمروا بالجهاد ولا تبتلوا بما يمحصكم {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ} الواو حالية و{لَّمًّا} للنفي مع التوقع ونفي العلم، والمراد نفي المعلوم وهو اجلهاد على أبلغ وجه إذ هو بطريق البرهان إذ لو وقع جهادهم علمه الله تعالى لا محالة فإن وقوع ما لا يعلمه عز وجل محال كما أن عدم وقوع ما يعلمه كذلك وإلا لم يطابق علمه سبحانه الواقع فيكون جهلًا وهو من أعظم المحالات، فالكلام من باب الكناية، وقيل: إن العلم مجاز عن التبيين مجازًا مرسلًا باستعماله في لازم معناه.
وفي الكشاف ما يشعر أولا بأن العلم مجاز عما ذكر وثانيا ما يشعر بأنه من باب الكناية.
وأجيب عنه بأنه أشار بذلك إلى أنه استعمل لنفي الوجود مبالغة في نفي التبيين، وما ذكره أولا من قوله: إنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلص منكم وهو الذين جاهدوا في سبيل الله تعالى لوجهه جل شأنه حاصل المعنى، وذلك لأنه خطاب للمؤمنين إلهابا لهم وحثًا على ما حضهم عليه بقوله سبحانه: {قاتلوهم يُعَذّبْهُمُ الله} [التوبة: 14] فإذا وبخوا على حسبان أن يتركوا ولم يوجد فيما بينهم مجاهد مخلص دل على أنهم إن لم يقاتلوا لم يكونوا مخلصين وأن الاخلاص إذا لم يظهر أثره بالجهاد في سبيل الله تعالى ومضادة الكفار كلا إخلاص، ولو فسر العلم بالتبين لم يفد هذه المبالغة فتدبر، وقوله تعالى: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ} عطف على جاهدوا وداخل في حيز الصلة أو حال من فاعله، أي جاهدوا حال كونهم غير متخذين {مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً} أي بطانة وصاحب سر كما قال ابن عباس، وهي من الولوج وهو الدخول وكل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة، ويكون للمفرد وغيره بلفظ واحد وقد يجمع على ولائج، و{مِن دُونِ} متعلق بالاتخاذ إن أبقى على حاله أو مفعول ثان له إن جعل بمعنى التصيير {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي بجميع أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وقرئ على الغيبة وفي هذا إزاحة لما يتوهم من ظاهر قوله سبحانه: {وَلَمَّا يَعْلَمِ} إلخ من أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها كما ذهب إليه هشام مستدلا بذلك.
ووجه الازاحة أن {تَعْمَلُونَ} مستقبل فيدل على خلاف ما ذكره. اهـ.