فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: {مسجد الله} على التوحيد، {إنما يعمر مساجدَ الله} على الجمع.
وقرأ عاصم ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي: على الجمع فيهما.
وسبب نزولها: أن جماعة من رؤساء قريش أُسروا يوم بدر فيهم العباس بن عبد المطلب، فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّروهم بالشِّرك، وجعل علي بن أبي طالب يوبِّخُ العباس بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم، فقال العباس: مالكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقالوا: وهل لكم من محاسن؟ قالوا: نعم، لنحن أفضل منكم أجرًا؛ إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل في جماعة.
وفي المراد بالعِمارة قولان:
أحدهما: دخوله والجلوس فيه.
والثاني: البناء له وإصلاحه؛ فكلاهما محظور على الكافر.
والمراد من قوله: {ما كان للمشركين} أي: يجب على المسلمين منعُهم من ذلك.
قال الزجاج: وقوله: {شاهدين} حال.
المعنى: ما كانت لهم عمارته في حال إقرارهم بالكفر، {أولئك حبطت أعمالهم} لأن كفرهم أذهب ثوابها.
فإن قيل: كيف يشهدون على أنفسهم بالكفر، وهم يعتقدون أنهم على الصواب؟ فعنه ثلاثة أجوبة.
أحدها: أنه قول اليهودي: أنا يهودي، وقول النصراني: أنا نصراني، قاله السدي.
والثاني: أنهم ثبَّتوا على أنفسهم الكفر بعدولهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حق لا يخفى على مميِّز، فكانوا بمنزلة من شهد على نفسه.
والثالث: أنهم آمنوا بأنبياء شهدوا لمحمد صلى الله عليه وسلم بالتصديق، وحرَّضوا على اتِّباعه، فلما آمنوا بهم وكذِّبوه، دلُّوا على كفرهم، وجرى ذلك مجرى الشهادة على أنفسهم بالكفر، لأن الشهادة هي تبيين وإظهار، ذكرهما ابن الأنباري. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله}
الجملة من {أَنْ يَعْمُرُوا} في موضع رفع اسم كان.
{شَاهِدِينَ} على الحال.
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقيل؛ أراد ليس لهم الحج بعد ما نُودي فيهم بالمنع عن المسجد الحرام، وكانت أُمور البيت كالسِّدانة والسِّقاية والرِّفادة إلى المشركين؛ فبيّن أنهم ليسوا أهلًا لذلك، بل أهله المؤمنون.
وقيل: إن العباس لما أُسِر وعُيِّر بالكفر وقطيعة الرحم قال: تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا.
فقال عليّ: ألكم محاسن؟ قال: نعم، إنا لنَعْمُر المسجد الحرام، ونَحْجُب الكعبة، ونَسْقِي الحاج، ونَفُكّ العَانِيَ.
فنزلت هذه الآية ردًّا عليه.
فيجب إذًا على المسلمين تولّي أحكام المساجد ومنع المشركين من دخولها.
وقراءة العامة {يَعْمُر} بفتح الياء وضم الميم؛ من عَمَرَ يَعْمُر.
وقرأ ابن السَّمَيْقَعَ بضم الياء وكسر الميم؛ أي يجعلوه عامرًا أو يعينوا على عمارته.
وقرئ {مسجد الله} على التوحيد؛ أي المسجد الحرام.
وهي قراءة ابن عباس وسعيد بن جُبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وابن كثير وأبي عمرو وابن مُحَيْصِن ويعقوب.
والباقون {مساجد} على التعميم.
وهو اختيار أبي عبيد؛ لأنه أعم والخاص يدخل تحت العام.
وقد يحتمل أن يُراد بقراءة الجمع المسجد الحرام خاصّة.
وهذا جائز فيما كان من أسماء الجنس؛ كما يُقال: فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلاَّ فرسًا.
والقراءة {مساجد} أصوب؛ لأنه يحتمل المعنيين.
وقد أجمعوا على قراءة قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله} على الجمع؛ قاله النحاس: وقال الحسن: إنما قال مساجد وهو المسجد الحرام؛ لأنه قِبلة المساجد كلّها وإمامُها.
قوله تعالى: {شَاهِدِينَ}.
قيل: أراد وهم شاهدون فلما طُرِح {وهم} نصب.
قال ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودُهم لأصنامهم، وإقرارهم أنها مخلوقة.
وقال السدِّي: شهادتهم بالكفر هو أن النّصرانيّ تقول له ما دينك؟ فيقول نصرانيّ، واليهوديّ فيقول يهودي والصّابئ فيقول صابئي.
ويُقال للمشرك ما دينك فيقول مشرك.
{أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ} تقدّم معناه. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} يعني به المسجد الحرام وقرئ مساجد الله على الجمع والمراد به المسجد الحرام أيضًا وإنما ذكر بلفظ الجمع لأنه قبلة المساجد كلها وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من رؤساء كفار قريش أسروا يوم بدر ومنهم العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيرونهم بالشرك وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بسبب قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم.
فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا وتكتمون محساننا؟ فقيل له: وهل لكم من محاسن؟ قال: نعم.
نحن أفضل منكم نحن نعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني يعني الأسير فنزلت هذه الآية: {ما كان للمشركين} أي ما ينبغي للمشركين {أن يعمروا مساجد الله} أوجب الله على المسلمين منعهم من ذلك المساجد إنما تعمر لعبادة الله تعالى وحده فمن كان كافرًا بالله فليس له أن يعمر مساجد الله واختلفوا في المراد بالعمارة على قولين أحدهما أن المراد بالعمارة العمارة المعروفة من بناء المساجد وتشييدها ومرمتها عند خرابها فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى ببناء مسجد لم تقبل وصيته والقول الثاني إن المراد بالعمارة دخول المسجد والقعود فيه فيمتنع الكافر من دخول المسجد بغير إذن مسلم حتى لو دخل بغير إذن مسلم عزر وإن دخل بإذن لم يعزر ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أن النبي صلى الله عليه وسلم شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد وهو كافر والأولى تعظيم المساجد ومنعهم من دخولها.
وقوله تعالى: {شاهدين على أنفسهم بالكفر} يعني: لا يدخلون المساجد في حال كونهم شاهدين.
وقيل: تقديره وهم شاهدون فلما حذفت وهم نصب.
وقال ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام وذلك أن كفار قريش قد نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد وكانوا يطوفون بالبيت عراة كلما طافوا طوفة سجدوا للأصنام فلم يزدادوا بذلك من الله إلا بعدًا.
وقال الحسن: إنهم لم يقولوا نحن كفار ولكن كلامهم بالكفر شهادة عليهم بالكفر.
وقال السدي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يسأل من أنت فيقول نصراني واليهودي يقول يهودي والمشرك يقول مشرك.
وقال ابن عباس: في رواية عنه شاهدين على رسولهم بالكفر لأنه من أنفسهم {أولئك حبطت أعمالهم} يعني الأعمال التي عملوها في حال الكفر من أعمال البر مثل قرى الضيف وسقي الحاج وفك العاني لأنها لم تكن لله فلم يكن لها تأثير مع الكفر {وفي النار هم خالدون} يعني من مات منهم على كفره. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر}
قرأ ابن السميفع: {أنْ يُعمِروا} بضم الياء وكسر الميم، أن يعينوا على عمارته.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والجحدري: مسجد بالإفراد، وباقي السبعة ومجاهد وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشبية بالجمع.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين وأنواعًا من قبائحهم توجب البراءة منهم، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب انتفاء البراءة منها كونهم عامري المسجد الحرام.
روي أنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك، وطفق عليّ يوبخ العباس، فقال الرسول: واقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول.
فقال العباس: تظهرون مساوينا، وتكتمون محاسننا؟ فقال: أو لكم محاسن؟ قالوا: نعم، ونحن أفضل منكم أجرًا، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فأنزل الله هذه الآية ردًا عليهم.
ومعنى {ما كان للمشركين}: أي بالحق الواجب، وإلا فقد عمروه قديمًا وحديثًا على سبيل التغلب.
وقال الزمخشري: أي ما صح وما استقام انتهى.
وعمارته وحوله والقعود فيه والمكث من قولهم: فلان يعمر المسجد أي يكثر غشيانه، أو رفع بنائه، وإصلاح ما تهدّم منه، أو التعبد فيه، والطواف به.
والصلاة ثلاثة أقوال.
ومن قرأ بالإفراد فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام لقوله: {وعمارة المسجد الحرام} أو الجنس فيدخل تحته المسجد الحرام، إذ هو صدر ذلك الجنس مقدّمته.
ومن قرأ بالجمع فيحتمل أنْ يراد به المسجد الحرام، وأطلق عليه الجمع إما باعتبار أنّ كل مكان منه مسجد، وإما لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فكان عامره عامر المساجد.
ويحتمل أن يراد الجمع، فيدخل تحته المسجد الحرام وهو آكد، لأن طريقته طريقة الكناية كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، كنت أنفي لقراءة القرآن من تصريحك بذلك.
وانتصب شاهدين على الحال، والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر به وبعبادته.
وقرأ زيد بن علي: شاهدون على إضمارهم شاهدون، وشهادتهم على أنفسهم بالكفر قولهم في الطواف: لبيك لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك.
أو قولهم إذا سئلوا عن دينهم: نعبد اللات والعزى، أو تكذيبهم الرسول، أو قول المشرك: أنا مشرك كما يقول اليهودي: هو يهودي، والنصراني هو نصراني، والمجوسي هو مجوسي، والصابئ هو صابئ، أو ظهور أفعال الكفرة من نصب أصنامهم وطوافهم بالبيت عراة، وغير ذلك أقوال خمسة، هذا إذا حمل على أنفسهم على ظاهره، وقيل: معناه شاهدين على رسولهم، وأطلق عليه أنفسهم لأنه ما من بطن من بطون العرب إلا وله فيهم ولادة، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ على أنفسهم بفتح الفاء، أي أشرفهم وأجلهم قدرًا.
{أولئك حبطت أعمالهم} التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة وغيرها مما ذُكر أنه من الأعمال الحميدة.
قال الزمخشري: وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها، فما ظنك بالمقارن؟ وإلى ذلك أشار تعالى بقوله: {شاهدين} حيث جعله حالًا عنهم، ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة، وذلك محال غير مستقيم انتهى.
وقوله: أو الكبيرة، دسيسة اعتزال لأن الكبيرة عندهم من المعاصي تحبط الأعمال.
{وفي النار هم خالدون} ذكر مآل المشركين وهو النار خالدين فيها.
وقرأ زيد بن علي: بالياء نصبًا على الحال، وفي النار هو الخبر.
كما تقول: في الدار زيد قاعدًا.
وقال الواحدي: دلت الآية على أنّ الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين، ولو أوصى لم تقبل وصيته، ويمنع من دخول المساجد، فإنْ دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظم المساجد ومنعها منهم.
وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف وهم كفار المسجد، وربط ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد وهو كافر. اهـ.