فصل: (سورة التوبة: آية 5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة التوبة: آية 5]

{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
انسلخ الشهر، كقولك انجرد الشهر، وسنة جرداء. و{الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} يعنى الذين نقضوكم وظاهروا عليكم {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} من حلّ أو حرم {وَخُذُوهُمْ} وأسروهم. والأخيذ: الأسير {وَاحْصُرُوهُمْ} وقيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه: حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام {كُلَّ مَرْصَدٍ} كلّ ممرّ ومجتاز ترصدونهم به، وانتصابه على الظرف كقوله: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}.
{فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فأطلقوا عنهم بعد الأسر والحصر. أو فكفوا عنهم ولا تتعرّضوا لهم كقوله:
خَلِّ السَّبِيلَ لِمَنْ يَبْنِى الْمَنَارَ بِهِ

وعن ابن عباس رضى اللّه عنه: دعوهم وإتيان المسجد الحرام {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.

.[سورة التوبة: آية 6]

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)}
{أَحَدٌ} مرتفع بفعل الشرط مضمرًا يفسره الظاهر، تقديره: وإن استجارك أحد استجارك ولا يرتفع بالابتداء، لأنّ إن من عوامل الفعل لا تدخل على غيره. والمعنى: وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه ولا ميثاق، فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن، وتبين ما بعثت له فأمنه: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر {ثُمَّ أَبْلِغْهُ} بعد ذلك داره التي يأمن فيها إن لم يسلم. ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة، وهذا الحكم ثابت في كل وقت. وعن الحسن رضى اللّه عنه: هي محكمة إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علىّ رضى اللّه عنه فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتى محمدًا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام اللّه، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: لا، لأنّ اللّه تعالى يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ} الآية وعن السدّى والضحاك رضى اللّه عنهما: هي منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ذلِكَ أي ذلك الأمر، يعنى الأمر بالإجارة في قوله فَأَجِرْهُ. بسبب {بِأَنَّهُمْ} قوم جهلة {لا يَعْلَمُونَ} ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلابد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق.

.[سورة التوبة: الآيات 7- 8]

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8)}
{كَيْفَ} استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد، لأن يكون للمشركين عهد عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهم أضداد وغرة صدورهم، يعنى: محال أن يثبت لهؤلاء عهد فلا تطمعوا في ذلك ولا تحدثوا به نفوسكم ولا تفكروا في قتلهم. ثم استدرك ذلك بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ} أي ولكن الذين عاهدتم منهم {عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبنى ضمرة، فتربصوا أمرهم ولا تقاتلوهم {فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ} على العهد {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} على مثله {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} يعنى أن التربص بهم من أعمال المتقين {كَيْفَ} تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، وحذف الفعل لكونه معلومًا كما قال:
وَخَبَّرْتُمَانِى أَنَّمَا الْمَوْتُ بِالْقُرَى ** فَكَيْفَ وَهَاتَا هَضْبَة وَقَليبُ

يريد: فكيف مات، أى: كيف يكون لهم عهد وَحالهم أنهم {إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولم يبقوا عليكم {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا} لا يراعوا حلفًا. وقيل: قرابة. وأنشد لحسان رضى اللّه عنه:
لَعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيْش ** كَإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النَّعَامِ

وقيل إِلًّا إلها. وقرئ: إيلا، بمعناه. وقيل: جبرئيل، وجبرئيل، من ذلك. وقيل: منه اشتق الآل بمعنى القرابة، كما اشتقت الرحم من الرحمن، والوجه أن اشتقاق الإلّ بمعنى الحلف، لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه، من الأول وهو الجؤار، وله أليل: أى أنين يرفع به صوته. ودعت ألليها: إذا ولولت، ثم قيل لكل عهد وميثاق: إلّ. وسميت به القرابة، لأن القرابة عقدت بين الرجلين مالا يعقده الميثاق {يُرْضُونَكُمْ} كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن، مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد. وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان، لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل {وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ} متمرّدون خلعاء لا مروءة تزعهم، ولا شمائل مرضية تردعهم، كما يوجد ذلك في بعض الكفرة، من التفادى عن الكذب والنكث، والتعفف عما يثلم العرض ويجرّ أحدوثة السوء.

.[سورة التوبة: الآيات 9- 10]

{اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}
{اشْتَرَوْا} استبدلوا بِآياتِ اللَّهِ بالقرآن والإسلام {ثَمَنًا قَلِيلًا} وهو اتباع الأهواء والشهوات {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} فعدلوا عنه أو صرفوا غيرهم. وقيل: هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم {هُمُ الْمُعْتَدُونَ} المجاوزون الغاية في الظلم والشرارة.

.[سورة التوبة: آية 11]

{فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)}
{فَإِنْ تابُوا} عن الكفر ونقض العهد {فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ} فهم إخوانكم على حذف المبتدإ، كقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ} {وَنُفَصِّلُ الْآياتِ} ونبينها. وهذا اعتراض، كأنه قيل: وإن من تأمّل تفصيلها فهو العالم بعثًا وتحريضًا على تأمّل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين، وعلى المحافظة عليها.

.[سورة التوبة: آية 12]

{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)}
{وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} وثلبوه وعابوه {فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم: إشعارًا بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمرّدًا وطغيانا وطرحًا لعادات الكرام الأوفياء من العرب، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود، وقعدوا يطعنون في دين اللّه ويقولون ليس دين محمد بشيء، فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدّم فيه، لا يشق كافر غبارهم. وقالوا: إذا طعن الدمى في دين الإسلام طعنا ظاهرًا، جاز قتله، لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمّة {إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ} جمع يمين. وقرئ: {لا إيمان لهم}، أي لا إسلام لهم. أو لا يعطون الأمان بعد الردّة والنكث، ولا سبيل إليه. فإن قلت: كيف أثبت لهم الأيمان في قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ} ثم نفاها عنهم؟
قلت: أراد أيمانهم التي أظهروها ثم قال: لا أيمان لهم على الحقيقة، وأيمانهم ليست بأيمان. وبه استشهد أبو حنيفة رحمه اللّه على أن يمين الكافر لا تكون يمينا. وعند الشافعي رحمه اللّه: يمينهم يمين. وقال: معناه أنهم لا يوفون بها، بدليل أنه وصفها بالنكث {لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} متعلق بقوله: {فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم ما وجد من العظائم أن تكون المقاتلة سببا في انتهائهم عما هم عليه. وهذا من غاية كرمه وفضله وعوده على المسيء بالرحمة كلما عاد. فإن قلت: كيف لفظ أئمة؟ قلت: همزة بعدها همزة بين بين، أى: بين مخرج الهمزة والياء. وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة، وإن لم تكن بمقبولة عند البصريين. وأما التصريح بالياء فليس بقراءة. ولا يجوز أن تكون قراءة. ومن صرح بها فهو لا حن محرف.

.[سورة التوبة: آية 13]

{أَلا تُقاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)}
{أَلا تُقاتِلُونَ} دخلت الهمزة على لا تُقاتِلُونَ تقريرًا بانتفاء المقاتلة. ومعناه: الحض عليها على سبيل المبالغة {نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ} التي حلفوها في المعاهدة وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ من مكة حين تشاوروا في أمره بدار الندوة، حتى أذن اللّه تعالى له في الهجرة، فخرج بنفسه {وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أى: وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاءهم أولا بالكتاب المنير وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادءون بالقتال والبادئ أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله، وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟ وبخهم بترك مقاتلتهم وحضهم عليها، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها. ويقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب، حقيق بأن لا تترك مصادمته، وأن يوبخ من فرط فيها {أَتَخْشَوْنَهُمْ} تقرير بالخشية منهم وتوبيخ عليها {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} فتقاتلوا أعداءه {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يعنى أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه، ولا يبالى بمن سواه، كقوله تعالى: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}

.[سورة التوبة: الآيات 14- 15]

{قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}
لما وبخهم اللّه على ترك القتال، جرّد لهم الأمر به فقال: {قاتِلُوهُمْ} ووعدهم- ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم- أنه يعذبهم بأيديهم قتلا، ويخزيهم أسرًا، ويوليهم النصر والغلبة عليهم {وَيَشْفِ صُدُورَ} طائفة من المؤمنين، وهم خزاعة، قال ابن عباس رضى اللّه عنه: هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديدًا، فيعثوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يشكون إليه، فقال: أبشروا فإن الفرج قريب {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قلوبكم} لما لقيتم منهم من المكروه، وقد حصل اللّه لهم هذه المواعيد كلها، فكان ذلك دليلا على صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصحة نبوّته {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ} ابتداء كلام، وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره، وكان ذلك أيضا، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم. وقرئ: {ويتوب} بالنصب بإضمار أن ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم ما سيكون، كما يعلم ما قد كان حَكِيمٌ لا يفعل إلا ما اقتضته الحكمة.

.[سورة التوبة: آية 16]

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)}
{أَمْ} منقطعة، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان. والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه، حتى يتبين الخلص منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل اللّه لوجه اللّه، ولم يتخذوا وليجة أي بطانة، من الذين يضادّون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين رضوان اللّه عليهم {وَلَمَّا} معناها التوقع، وقد دلت على أن تبين ذلك، وإيضاحه متوقع كائن، وأن الذين لم يخلصوا دينهم للّه يميز بينهم وبين المخلصين. وقوله: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا} معطوف على جاهدوا، داخل في حيز الصلة، كأنه قيل: ولما يعلم اللّه المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون اللّه.
والوليجة: فعيلة من ولج، كالدخيلة من دخل. والمراد بنفي العلم نفى المعلوم، كقول القائل. ما علم اللّه منى ما قيل فىّ، يريد: ما وجد ذلك منى.

.[سورة التوبة: آية 17]

{ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17)}
{ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ} ما صح لهم وما استقام {أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ} يعنى المسجد الحرام، لقوله: {وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} وأما القراءة بالجمع ففيها وجهان، أحدهما: أن يراد المسجد الحرام، وإنما قيل مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه مسجد. والثاني: أن يراد جنس المساجد، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها، دخل تحت ذلك أن لا يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ومقدمته وهو آكد، لأنّ طريقته طريقة الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب اللّه، كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك. وشاهِدِينَ حال من الواو في {يَعْمُرُوا} والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة متعبدات اللّه، مع الكفر باللّه وبعبادته. ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر: ظهور كفرهم وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة ويقولون: لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطًا سجدوا لها. وقيل: هو قولهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وقيل: قد أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر فعيروهم بالشرك، فطفق علىّ ابن أبى طالب رضى اللّه عنه يوبخ العباس بقتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول.
فقال العباس: تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا. فقال: أو لكم محاسن؟ قالوا: نعم ونحن أفضل منكم أجرًا: إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج ونفك العاني، فنزلت: {حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ} التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة. وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها، فما ظنك بالمقارن. وإلى ذلك أشار في قوله: {شاهِدِينَ} حيث جعله حالا عنهم ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة، وذلك محال غير مستقيم.