فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمَنْ قَالَ: إِنَّ عَسَى هُنَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى: قَالُوا: إِنَّهَا مِنْهُ تَعَالَى لِلْإِيجَابِ وَالْقَطْعِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّوَقُّعِ وَالظَّنِّ وَعَنِ الْإِطْمَاعِ فِي الشَّيْءِ، وَإِخْلَافِهِ بَعْدَ تَقْرِيبِهِ، وَرَوَوْا هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ فِي وَعْدِ اللهِ تَعَالَى وَخَبَرِهِ كَقوله تعالى: {فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [5: 52] وَقَوْلُهُ: {عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [60: 7] فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ وَعْدٌ قَطْعِيٌّ عِنْدَهُ تَعَالَى فَعَلَى هَذَا تَكُونُ نُكْتَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُ بِعَسَى: إِبْهَامُهُ وَعَدَمُ إِعْلَامِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ، وَمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ رَأَى أَنَّ هَذَا قَدْ يَرْجِعُ إِلَى مَا فَسَّرَ بِهِ عَسَى هُنَا، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِتْيَانِ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ آخَرَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ نَدَمُ الْمُشْرِكِينَ، وَمِنْ وُقُوعِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ عَادَوْهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- قَرِيبُ الْوُقُوعِ، فَهُوَ مَرْجُوٌّ وَمُتَوَقَّعٌ فِي نَفْسِهِ بِوُقُوعِ أَسْبَابِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، وَيَحْسِبُوا لَهُ حِسَابًا فِي مُعَامَلَتِهِمْ، وَفِي مَعْنَى هَذَا مَا اخْتَارَهُ شَيْخُنَا مِنْ أَنَّ مَعْنَى لَعَلَّ فِي كَلَامِ اللهِ تَعَالَى: الْإِعْدَادُ لِمُتَعَلَّقِهَا.
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ وَصْفَ عَمَارِ الْمَسَاجِدِ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُشْرَعُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ اعْتِبَارَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فِي عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحُضُورُ فِيهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُقِيمًا لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ فِي الْمَسْجِدِ فَتَحْصُلُ بِهِ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ، وَإِذَا كَانَ مُؤْتِيًا لِلزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَحْضُرُ فِي الْمَسْجِدِ طَوَائِفُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، لِطَلَبِ أَخْذِ الزَّكَاةِ فَتَحْصُلُ عِمَارَةُ الْمَسْجِدِ بِهِ، وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْعِمَارَةَ عَلَى مَصَالِحِ الْبِنَاءِ، فَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مُعْتَبَرٌ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَاجِبٌ، وَبِنَاءَ الْمَسْجِدِ نَافِلَةٌ، وَالْإِنْسَانُ مَا لَمْ يَفْرُغْ عَنِ الْوَاجِبِ لَا يُشْغَلُ بِالنَّافِلَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا لِلزَّكَاةِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، انْتَهَى بِنَصِّهِ.
وَالَّذِي نَرَاهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ بَيَانُ الْإِسْلَامِ الْكَامِلِ الَّذِي يَقُومُ أَهْلُهُ بِعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ بِالْفِعْلِ، كَمَا أَنَّهُمْ هُمْ أَصْحَابُ الْحَقِّ فِيهَا، وَهَذِهِ أُسُسُهُ الَّتِي دَعَا إِلَيْهَا جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَيْهَا مَدَارُ النَّجَاةِ، كَمَا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [2: 62] وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَعْظَمَ أَرْكَانِهِ الَّتِي كَانَ الْمُشْرِكُونَ مُجَرَّدِينَ مِنْهَا، وَاشْتَرَطَ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِمْ قَبُولَهَا كُلَّهَا، أَوْ مَا عَدَا الْبَاطِنَ مِنْهَا، وَهُوَ الْخَشْيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ الصَّلَاةُ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالزَّكَاةُ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ- وَخَشْيَةُ اللهِ وَحْدَهُ أَعْظَمُ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَالْعِبَادَاتِ النَّفْسِيَّةِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ؛ لِأَنَّ رِسَالَتَهُمْ وَسِيلَةٌ إِلَى هَذِهِ الْمَقَاصِدِ، وَلَا تَحْصُلُ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ بِدُونِهَا فَهِيَ تَسْتَلْزِمُهَا، وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ فَرَائِضِهَا، وَمِنْ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ لَهَا، وَقَوْلُ الرَّازِيِّ: إِنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ لَا يَبْنِي الْمَسَاجِدَ حَقٌّ كَقَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ: إِنَّ الَّذِي يُزَكِّي لَا يَسْرِقُ. وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا وَذَاكَ فِيمَنْ يَعْمَلُ عَمَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللهِ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْنِي مَسْجِدًا بِالْمَالِ الْحَرَامِ، وَهُوَ لَا يُصَلِّي، وَإِنَّمَا يَبْنِيهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، أَوْ لِيَجْعَلَ فِيهِ أَوْ فِي قُبَّةٍ بِجَانِبِهِ قَبْرًا لَهُ يُذْكَرُ بِهِ اسْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَيُسَاعِدُ الْجَمْعِيَّاتِ الْخَيْرِيَّةَ وَالْعِلْمِيَّةِ بِالْمَالِ الْحَرَامِ وَيَأْكُلُ الْحَرَامَ، وَلَا يُؤَدِّي جَمِيعَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ مُرَاءٍ يَبْتَغِي بِإِنْفَاقِهِ السُّمْعَةَ وَالصِّيتَ الْحَسَنَ لَا مَثُوبَةَ اللهِ وَمَرْضَاتَهُ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا بَنَى مَسْجِدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَامَهُ النَّاسُ قَالَ: إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْسِيعَ الْمَسْجِدِ كَابْتِدَائِهِ.
وَرَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ لِبَيْضِهَا بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ بِدُونِ وَصْفٍ لِلْمَسْجِدِ، وَرُوِيَ بِلَفْظِ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا أَوْسَعَ مِنْهُ وَبِأَلْفَاظٍ أُخْرَى. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَتَّخِذَ الْمَسَاجِدَ فِي دِيَارِنَا، وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفَهَا، وَفِي مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ- وَأَنْ تُطَيَّبَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ أَيْ تَكْنِسُهُ فَمَاتَتْ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ مَاتَتْ فَقَالَ: «أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهَا؟» أَيْ أَعْلَمْتُمُونِي بِمَوْتِهَا لِأُصَلِّيَ عَلَيْهَا دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَبَعْضِ السُّنَنِ أَيْضًا أَنَّ الْبُزَاقَ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَأَى نُخَامَةً فِي الْمَسْجِدِ فَحَكَّهَا، وَرُئِيَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، فَإِزَالَةُ الْقَذَرِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَتَطْهِيرُهُ وَاجِبٌ، وَاتِّبَاعُ أَثَرِ الْقَذَرِ بِالطِّيبِ مُسْتَحَبٌّ.
وَمِنْهَا فِي الْمَعْنَى الثَّانِي مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا صَلَاةُ الْجَمِيعِ- وَفِي رِوَايَةٍ- الْجَمَاعَةُ تَزِيدُ عَلَى صِلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ، وَصِلَاتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ وَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ وَأَتَى الْمَسْجِدَ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُؤْذِ بِحَدَثٍ أَيْ بِحَدَثٍ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ، وَمِنْهُ رَائِحَةُ الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَنَحْوُهُمَا كَالدُّخَانِ الْمَعْرُوفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِهِ عَلَى مَنْعِ مَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَنَحْوَهُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ، إِلَّا أَنْ يُزِيلَ الرَّائِحَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرِيَّةُ يُحَرِّمُونَ أَكْلَ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ فَرْضُ عَيْنٍ كَالْحَنَابِلَةِ. وَالصَّوَابُ أَنَّ فَرْضِيَّتَهَا لَا تَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَا ذُكِرَ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَكْلُهَا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي لَا جَمَاعَةَ فِيهَا كَأَوَّلِ النَّهَارِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ، إِذْ تَزُولُ الرَّائِحَةُ فِي الْغَالِبِ قَبْلَ الظُّهْرِ فِي الْحَالَةِ الْأُولَى وَقَبْلَ الْفَجْرِ فِي الثَّانِيَةِ، وَيُمْكِنُ إِزَالَتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِتَنْظِيفِ الْفَمِ بِالسِّوَاكِ وَنَحْوِهِ، وَأَكْلِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمُعَطِّرَةِ كَأَقْرَاصِ النَّعْنَعِ الْمَعْرُوفَةِ فِي هَذَا الزَّمَنِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْحُبُوبِ الْعِطْرِيَّةِ الَّتِي تُمْتَصُّ لِتَطْيِيبِ الْفَمِ.
وَجَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِ الثُّومِ وَالْبَصَلِ، وَمِنْ أَدِلَّتِهمْ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِقِدْرٍ فِيهَا خَضْرَوَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا فَسَأَلَ فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ فَقَالَ: «قَرِّبُوهَا» (وَأَشَارَ) إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ: «كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ صُنِعَ لَهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّاحِبِ الَّذِي أَمَرَهُ بِأَكْلِهِ هُوَ ضَائِفُهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه وَفِيهِ أَنَّ الطَّعَامَ كَانَ فِيهِ ثُومٌ (لَمْ تَذْهَبْ رَائِحَتُهُ) وَأَنَّهُ قَالَ: أَحْرَامٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ أَكْرَهُهُ» وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا قَالَ: لَمْ نَعْدُ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ فَوَقَعْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ الْبَقْلَةِ الثُّومِ وَالنَّاسُ جِيَاعٌ فَأَكَلْنَا مِنْهَا أَكْلًا شَدِيدًا ثُمَّ رُحْنَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرِّيحَ فَقَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ شَيْئًا فَلَا يَقْرَبْنَا فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ النَّاسُ: حُرِّمَتْ، حُرِّمَتْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لِي، وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا.
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسَاجِدُ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ وَتَلَا: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ} الْآيَةَ». وَهُوَ نَصٌّ فِي الْعِمَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَلَكِنَّ الْحَافِظَ الذَّهَبِيَّ أَنْكَرَ عَلَى الْحَاكِمِ تَصْحِيحَهُ. وَهُنَالِكَ أَحَادِيثُ أُخْرَى ضَعِيفَةٌ وَمُنْكَرَةٌ فِي الرِّوَايَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا. وَسَيَأْتِي حُكْمُ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمَسَاجِدَ فِي تَفْسِيرِ: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [9: 28]. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله} وقال: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله} فنفي المشركين من المسجد يقول: من وحَّد الله وآمن بما أنزل الله: {وأقام الصلاة} يعني الصلوات الخمس {ولم يخش إلا الله} يقول: لم يعبد إلا الله: {فعسى أولئك} يقول: أولئك هم المهتدون كقوله لنبيه {عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا} [الاسراء: 79] يقول: إن ربك سيبعثك مقامًا محمودًا وهي الشفاعة، وكل عسى في القرآن فهي واجبة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة رضي الله عنه أنه قرأ {ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله} قال: إنما هو مسجد واحد.
وأخرج ابن المنذر عن حماد قال: سمعت عبد الله بن كثيِّر يقرأ هذا الحروف ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد الله...، إنما يعمر مسجد الله.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإِيمان، قال الله: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله وباليوم الآخر}».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ويأتي المسجد ويصلي فلا صلاة له وقد عصى الله ورسوله. قال الله: {إنما يعمر مساجد الله} الآية.
وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله سبحانه يقول: إني لأهمُّ بأهل الأرض عذابًا، فإذا نظرت إلى عُمّار بيوتي، والمتحابين فيّ، والمستغفرين بالأسحار، صرفت عنهم».
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن معمر عن رجل من قريش يرفع الحديث قال: يقول الله تبارك وتعالى: «إن أحب عبادي إليّ الذين يتحابون فيّ، والذين يعمرون مساجدي، والذين يستغفرون بالأسحار، أولئك الذين إذا أردت بخلقي عذابًا ذكرتهم فصرفت عذابي عن خلقي».
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبزار وحسنه والطبراني والبيهقي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كتب إلى سلمان: يا أخي، ليكن المسجد بيتك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المسجد بيت كل تقي»، وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والراحة، والجواز إلى الصراط إلى رضوان الرب.
وأخرج عبد الرزاق والبيهقي عن قتادة رضي الله عنه قال: كان يقال: ما زي المسلم إلا في ثلاث: في مسجد يعمره، أو بيت يكنه، أو ابتغاء رزق من فضل ربه.
وأخرج أبو بكر عبد الرحمن بن القاسم بن الفرج الهاشمي في جزئه المشهور بنسخة أبي مسهر عن أبي ادريس الخولاني رضي الله عنه قال: المساجد مجالس الكرام.
وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن للمساجد أوتاد، الملائكة جلساؤهم، إن غابوا يفتقدونهم، وإن مرضوا عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم، ثم قال: جليس المسجد على ثلاث خصال: أخ مستفاد، أو كلمة محكمة، أو رحمة منتظرة».
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بيوت الله في الأرض المساجد، وإن حقًا على الله أن يكرم الزائر».
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير والبيهقي في شعب الايمان عن عمرو بن ميمون الأودي رضي الله عنه قال: أخبرنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن المساجد بيوت الله في الأرض، وأنه لحق على الله أن يكرم من زاره فيها.
وأخرج البزار وأبو يعلى والطبراني في الأوسط والبيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا عاهة من السماء أنزلت صرفت عن عُمار المساجد».
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: إن للمساجد أوتادًا هم عُمارها، وإن لهم جلساء من الملائكة تفتقدهم الملائكة إذا غابوا، فإن كانوا مرضى عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم.