فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

{قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ}
{قل} أي قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة {إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشريتكم} وقرئ على الجمع وعشيراتكم العشيرة هم الأدنون من أهل الإنسان الذين يعاشرونه دون غيرهم {وأموال اقترفتموها} يعني اكتسبتموها {وتجارة تخشون كسادها} يعني بفراقكم لها {ومساكن ترضونها} يعني تستوطنوها راضين بسكناها {أحب إليكم من الله ورسوله} يعني أحب إليكم من الهجرة إلى الله ورسوله {وجهاد في سبيله} فبين الله سبحانه وتعالى أنه يجب تحمل جميع المضار في الدنيا ليبقى الدين سليمًا وأخبر أنه كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله من المجاهدة في سبيل الله: {فتربصوا} أي فانتظروا {حتى يأتي الله بأمره} يعني بقضائه وهذا أمر تهديد وتخويف وقال مجاهد ومقاتل يعني بفتح مكة {والله لا يهدي القوم الفاسقين} يعني الخارجين عن طاعته، وفي هذا دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلمين ترجيح مصالح الدين على مصالح الدنيا. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم}
هذه الآية تقتضي الحض على الهجرة وذكر الأبناء لأنه ذكر المحبة، وهم أعلق بالنفس، بخلاف الآية قبلها فلم يذكروا، لأن المقصود منها الرأي والمشورة.
وقدّم الآباء لأنهم الذي يجب برهم وإكرامهم وحبهم، وثنى بالأبناء لكونهم أعلق بالقلوب.
ولما ذكر الأصل والفرع ذكر الحاشية وهي الإخوان، ثم ذكر الأزواج وهن في المحبة والإيثار كالأبناء، ثم الأبعد بعد الأقرب في القرابة فقال: وعشيرتكم.
وقرأ الجمهور: بغير ألف.
وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن: بألف على الجمع.
وزعم الأخفش أنّ العرب تجمع عشيرة على عشائر، ولا تكاد تقول عشيرات بالجمع بالألف والتاء، ثم ذكر وأموال اقترفتموها أي اكتسبتموها، لأن الأموال يعادل حبها حب القرابة، بل حبها أشد، كانت الأموال في ذلك الوقت عزيزة، وأكثر الناس كانوا فقراء.
ثم ذكر: وتجارة تخشون كسادها، والتجارة لا تتهيأ إلا بالأموال، وجعل تعالى التجارة سببًا لزيادة الأموال ونمائها.
وتفسير ابن المبارك بأن ذلك إشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لقلة خطابهن، تفسير غريب ينبو عنه اللفظ.
وقال الشاعر:
كسدن من الفقر في قومهن ** وقد زادهن مقامي كسودا

ثم ذكر: ومساكن ترضونها، وهي القصور والدور.
ومعنى: ترضونها، تختارون الإقامة بها.
وهذه الدواعي الأربعة سبب لمخالطة الكفار حب الأقارب، والأموال، والتجارة، والمساكن.
فذكر تعالى أن مراعاة الدين خير من مراعاة هذه الأمور.
وفي الكلام حذف أي: أحب إليكم من امتثال أمر الله تعالى ورسوله في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.
والقراء على نصب أحب لأنه خبر كان.
وكان الحجاج بن يوسف يقرأ: أحب بالرفع، ولحنه يحيى بن يعمر، وتلحينه إياه ليس من جهة العربية، وإنما هو لمخالفة إجماع القراء النقلة، وإلا فهو جائز في علم العربية على أن يضمر في كان ضمير الشأن، ويلزم ما بعدها بالابتداء والخبر، وتكون الجملة في موضع نصب على أنها خبر كان.
وتضمن الأمر بالتربص التهديد والوعيد حتى يأتي الله بأمره.
قال ابن عباس ومجاهد: الإشارة إلى فتح مكة.
وقال الحسن: الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله، والفاسقين عموم يراد به الخصوص فيمن توافى على فسقه، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق، وفي التحرير الفسق هنا الكفر، ويدل عليه ما قابله من الهداية.
والكفر ضلال، والضلال ضد الهداية، وإنْ كان ذلك في المؤمنين الذين لم يهاجروا، فيكون الفسق الخروج عن الطاعة، فإنهم لم يمتثلوا أمر الله ولا أمر رسوله في الهجرة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قُلْ} تلوين للخطاب وأمرٌ له عليه الصلاة والسلام بأن يُثبِّت المؤمنين ويقوّيَ عزائمَهم على الانتهاء عما نُهوا عنه من موالاة الآباءِ والإخوانِ ويزهِّدَهم فيهم وفيمن يجري مجراهم من الأبناء والأزواج ويقطعَ علائقَهم عن زخارف الدنيا وزينتِها على وجه التوبيخ والترهيب {إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وإخوانكم وَأَزْوَاجُكُم} لم يُذكر الأبناءُ والأزواجُ فيما سلف لأن موالاةَ الأبناءِ والأزواجِ غيرُ معتادةٍ بخلاف المحبة {وَعَشِيرَتُكُمْ} أي أقرباؤُكم مأخوذ من العِشرة أي الصحبة وقيل: من العشَرة فإنهم جماعةٌ ترجِع إلى عَقد كعقد العشرة، وقرئ عشيراتكم وعشائرُكم {وأموال اقترفتموها} أي اكتسبتموها وإنما وصفت بذلك إيماءً إلى عزتها عندهم لحصولها بكد اليمين {وتجارة} أي أمتعةٌ اشتريتموها للتجارة والربح {تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} بفوات وقتِ رواجِها بغَيْبتكم عن مكةَ المعظمةِ في أيام الموسم {ومساكن تَرْضَوْنَهَا} أي منازلُ تعجبكم الإقامةُ فيها من الدور والبساتينِ، والتعرُّضُ للصفات المذكورة للإيذان بأن اللومَ على محبة ما ذكر من زينة الحياةِ الدنيا ليس لتناسي ما فيها من مبادي المحبة وموجباتِ الرغبة فيها وأنها مع ما لها من فنون المحاسنِ بمعزل عن أن يُؤثَرَ حبُّها على حبه تعالى وحبِّ رسولِه عليه الصلاة والسلام كما في قوله عز وجل: {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} بالحب الاختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وعدمُ المفارقةِ لا الحُبُّ الجِبِليُّ الذي لا يخلو عنه البشرُ فإنه غيرُ داخلٍ تحت التكليفِ الدائرِ على الطاقة.
{وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} نُظم حبُّه في سلك حبِّ الله عز وجل وحبِّ رسولِه صلى الله عليه وسلم تنويهًا لشأنه وتنبيهًا على أنه مما يجب أن يُحَبَّ فضلًا عن أن يُكرَه وإيذانًا بأن محبتَه راجعةٌ إلى محبتهما فإن الجهادَ عبارةٌ عن قتال أعدائِهما لأجل عداوتِهم فمَن يحبُّهما يجب أن يحِبَّ قتالَ من لا يحبُّهما {فَتَرَبَّصُواْ} أي انتظروا {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه فتحُ مكةَ وقيل: هي عقوبةٌ عاجلةٌ أو آجلة {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين أو القومَ الفاسقين كافةً فيدخل في زمرتهم هؤلاءِ دخولًا أوليًا، أي لا يرشدهم إلى ما هو خيرٌ لهم وفي الآية الكريمة من الوعيد ما لا يكاد يَتخلّص منه إلا من تداركه لطفٌ من ربه والله المستعان. اهـ.

.قال الألوسي:

{قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ}
{قُلْ} تلوين للخطاب وأمر له صلى الله عليه وسلم بأن يثبت المؤمنين ويقوي عزائمهم على الانتهاء عما نهوا عنه من موالاة الآباء والإخوان ويزهدهم فيهم وفيمن يجري مجراهم ويقطع علائقهم عن زخارف الدنيا الدنية على وجه التوبيخ والترهيب أي قل يا محمد للمؤمنين {إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وإخوانكم وأزواجكم} لم يذكر الأبناء والأزواج فيما سلف وذكرهم هنا لأن ما تقدم في الأولياء وهم أهل الرأي والمشورة والأبناء والأزواج تبع ليسوا كذلك وما هنا في المحبة وهم أحب إلى كل أحد {وَعَشِيرَتُكُمْ} أي ذووا قرابتكم، وقيل: عشيرة الرجل أهله الأدنون، وأيًا ما كان فذكره للتعميم والشمول وهو من العشرة أي الصحبة لأنها من شأن القربى، وقيل من العشرة العدد المعروف وسميت العشيرة بذلك على هذا لكمالهم لأن العشرة كما علمت عدد كامل أو لأن بينهم قد نسب كعد العشرة فإنه عقد من العقود وهو معنى بعيد.
وقرأ أبو بكر عن عاصم {عشيراتكم}، والحسن {عشائركم} وأنكر أبو الحسن وقوع الجمع الأول في كلامهم وإنما الواقع الجمع الثاني {وَعَشِيرَتُكُمْ وأموال اقترفتموها} أي اكتسبتموها، وأصل الاقتراف اقتطاع الشيء من مكانه إلى غيره من قرفت القرحة إذا قشرتها.
والقرف القشر، ووصفت الأموال بذلك إيماء إلى عزتها عندهم لحصولها بكد اليمين وعرق الجبين {وتجارة} أي أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح {تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} بفوات وقت رواجها بغيبتكم عن مكة المعظمة في أيام المواسم {ومساكن تَرْضَوْنَهَا} منازل تعجبكم الإقامة فيها، والتعرض للصفات المذكورة للإيذان بأن اللوم على محبة ما ذكر من زينة الحياة الدنيا لا ينافي ما فيها من مبادئ المحبة وموجبات الرغبة فيها وأنها مع مالها من فنون المحاسن بمعزل عن أن تكون كما ذكر سبحانه بقوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} بالحب الاختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وتقديم الطاعة لا ميل الطبع فإنه أمر جبلي لا يمكن تركه ولا يؤاخذ عليه ولا يكلف الإنسان بالامتناع عنه {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} أي طريق ثوابه ورضاه سبحانه، ولعل المراد به هنا أيضًا الإخلاص ونحوه لا الجهاد وإن أطلق عليه أيضًا أنه سبيل الله تعالى، ونظم حب هذا في سلك حب الله تعالى شأنه وحب رسوله عليه الصلاة والسلام تنويهًا بشأنه وتنبيهًا على أنه مما يجب أن يحب فضلًا عن أن يكره وإيذانًا بأن محبته راجعة إلى محبة الله عز وجل ومحبة حبيبه صلى الله عليه وسلم فإن الجهاد عبارة عن قتال أعدائهما لأجل عداوتهم فمن يحبهما يجب أن يحب قتال من لا يحبهما {فَتَرَبَّصُواْ} أي انتظروا {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} أي بعقوبته سبحانه لكم عاجلًا أو آجلًا على ما روي عن الحسن واختاره الجبائي، وروي عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل أنه فتح مكة.
{والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} أي الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين وتقديم محبة من ذكر على محبة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أو القوم الفاسقين كافة ويدخل المذكورون دخولًا أوليًا، أي لا يهديهم إلى ما هو خير لهم، والآية أشد آية نعت على الناس ما لا يكاد يتخلص منه إلا من تداركه الله سبحانه بلطفه، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله تعالى ويبغض في الله تعالى حتى يحب في الله سبحانه أبعد الناس ويبغض في الله عز وجل أقرب الناس» والله تعالى الموفق لأحسن الأعمال.
ومن باب الإشارة: أنه سبحانه أشار إلى تمكن رسوله عليه الصلاة والسلام ووصول أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلى مقام الوحدة الذاتية بعد أن كانوا محتجبين بالأفعال تارة وبالصفات أخرى وبذلك تحققت الضدية على أكمل وجه بينهم وبين المشركين فنزلت البراءة وأمروا بنبذ العهد ليقع التوافق بين الباطن والظاهر وأمر المشركون بالسياحة في الأرض أربعة أشهر على عدد مواقفهم في الدنيا والآخرة تنبيهًا لهم فإنهم لما وقفوا في الدنيا مع الغير بالشرك حجبوا عن الدين والأفعال والصفات والذات في برزخ الناسوت فلزمهم أن يوقفوا في الآخرة على الله عز وجل ثم على الجبروت ثم على الملكوت ثم على النار في جحيم الآثار فيعذبوا بأنواع العذاب.
ومن طبق الآيات على ما في الأنفس ذكر أن هذه المدة هي مدة كمال الأوصاف الأربعة النباتية والحيوانية والشيطانية والإنسانية ثم قال سبحانه لهم: {واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} إذ لابد من حبسكم في تلك المواقف بسبب وقوفكم مع الغير بالشرك {وَأَنَّ الله مُخْزِى الكافرين} [التوبة: 2] المحجوبين عن الحق بافتضاحهم عند ظهور رتبة ما عبدوه من دونه ووقوفهم معه على النار {وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الاكبر} أي وقت ظهور الجمع الذاتي في صورة التفصيل {أَنَّ الله بَرِىء مّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] المراد بذلك كمال المخالفة والتضاد وانقطاع المدد الروحاني، والمراد من قوله سبحانه: {إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 4] الذين بقيت فيهم مسكة من الاستعداد وأثر من سلامة الفطرة وبقايا من المروءة أمر المؤمنون أن يتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وهي مدة تراكم الدين وتحقق الحجاب إن لم يرجعوا ويتوبوا ثم قال سبحانه بعد أن ذكر ما ذكر: {الذين كَفَرُواْ} أي علمًا {وَهَاجَرُواْ} أي هجروا الرغائب الحسية والأوطان النفسية {وجاهدوا في سَبِيلِ الله بأموالهم} وهي أموال معلوماتهم ومراداتهم ومقدوراتهم، والجهاد بهذه إشارة إلى محو صفاتهم، والجهاد بالأنفس إشارة إلى فنائها في الله تعالى أولئك {أَعْظَمُ دَرَجَةً} في التوحيد.
{عَندَ الله} [التوبة: 20] تعالى: {يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ} وهو ثواب الأعمال {وَرِضْوَانٍ} وهو ثواب الصفات {وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} [التوبة: 21] وهو مشاهدة المحبوب الذي لا يزول وذلك جزاء الأنفس، ووجه الترتيب على هذا ظاهر وإنما تولى الله تعالى بشارتهم بنفسه عز وجل ليزدادوا حبًا له تبارك وتعالى لأن القلوب مجبولة على حب من يبشرها بالخير.
ثم إنه سبحانه بين أن القرابة المعنوية والتناسب المعنوي والوصلة الحقيقية أحق بالمراعاة من الاتصال الصوري مع فقد الاتصال المعنوي واختلاف الوجهة وذم سبحانه التقيد بالمألوفات الحسية وتقديمها على المحبوب الحقيقي والتعين الأول له والسبب الأقوى للوصول إلى الحضرة وتوعد عليه بما توعد تسأل الله تعالى التوفيق إلى ما يقربنا منه إنه ولي ذلك. اهـ.