فصل: قال الشوكاني في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيتين:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ}
الخطاب للمؤمنين كافة، وهو حكم باق إلى يوم القيامة يدل على قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، وقالت طائفة من أهل العلم: إنها نزلت في الحضّ على الهجرة ورفض بلاد الكفر، فيكون الخطاب لمن كان من المؤمنين بمكة وغيرها من بلاد العرب، نهوا بأن يوالوا الآباء والإخوة، فيكونون لهم تبعًا في سكنى البلاد الكفر إن استحبوا: أي أحبوا، كما يقال استجاب بمعنى أجاب، وهو في الأصل: طلب المحبة، وقد تقدّم تحقيق المقام في سورة المائدة في قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} [المائدة: 51] ثم حكم على من يتولى من استحب الكفر على الإيمان من الآباء والإخوان بالظلم.
فدلّ ذلك على أن تولي من كان كذلك من أعظم الذنوب وأشدّها، ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: {إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ} إلى آخره، والعشيرة: الجماعة التي ترجع إلى عقد واحد، وعشيرة الرجل: قرابته الأدنون، وهم الذين يعاشرونه، وهي اسم جمع.
وقرأ أبو بكر وحماد {عشيراتكم} بالجمع.
قال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات.
وإنما يجمعونها على عشائر.
وقرأ الحسن {عشائركم}.
وقرأ الباقون {عشيرتكم} والاقتراف: الاكتساب، وأصله: اقتطاع الشيء من مكانه، والتركيب يدور على الدنو.
والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه، والتجارة الأمتعة التي يشترونها ليربحوا فيها، والكساد عدم النفاق لفوات وقت بيعها بالهجرة ومفارقة الأوطان.
ومن غرائب التفسير ما روي عن ابن المبارك أنه قال: إن المراد بالتجارة في هذه الآية البنات والأخوات، إذا كسدن في البيت لا يجدن لهنّ خاطبًا، واستشهد لذلك بقول الشاعر:
كسدن من الفقر في قومهن ** وقد زادهنّ مقامي كسادا

وهذا البيت وإن كان فيه إطلاق الكساد على عدم وجود الخاطب لهنّ فليس فيه جواز إطلاق اسم التجارة عليهنّ.
والمراد بالمساكن التي يرضونها: المنازل التي تعجبهم وتميل إليها أنفسهم، ويرون الإقامة فيها أحبّ إليهم من المهاجرة إلى الله ورسوله، و{أحبّ} خبر {كان}: أي كانت هذه الأشياء المذكورة في الآية أحبّ إليكم من الله ورسوله ومن الجهاد في سبيل الله: {فَتَرَبَّصُواْ} أي: انتظروا {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} فيكم، وما تقتضيه مشيئته من عقوبتكم، وقيل: المراد بأمر الله سبحانه: القتال.
وقيل: فتح مكة وفيه بعد، فقد روى أن هذه السورة نزلت بعد الفتح.
وفي هذا وعيد شديد، ويؤكده إبهام الأمر وعدم التصريح به، لتذهب أنفسهم كل مذهب وتتردّد بين أنواع العقوبات، {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} أي الخارجين عن طاعته، النافرين عن امتثال أوامره ونواهيه.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال: أمروا بالهجرة فقال العباس بن عبد المطلب: أنا أسقي الحاج.
وقال طلحة أخو بني عبد الدار: أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر، فأنزلت: {لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وإخوانكم} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل، في هذه الآية قال: هي الهجرة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة {اقترفتموها} قال: أصبتموها.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} قال: بالفتح في أمره بالهجرة، هذا كل قبل فتح مكة.
وأخرج البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله: {لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} [المجادلة: 22] الآية، وهي تؤكد معنى هذه الآية، وقد تقدم بيان حكم الهجرة في سورة النساء. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيتين:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ}
قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمَّا أَعْلَنَ اللهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهُ وَبَرَاءَةَ رَسُولِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَآذَنَهُمْ بِنَبْذِ عُهُودِهِمْ وَبِعَوْدِ حَالَةِ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا كَانَتْ، بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّهُمْ لَا عُهُودَ لَهُمْ يُوَفَّى بِهَا، وَلَا أَيْمَانَ يَبَرُّونَهَا، بَلْ يَعْقِدُونَهَا عِنْدَ الْخَوْفِ، وَيَنْقُضُونَهَا عِنْدَ الشُّعُورِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْفَتْكِ- كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُفَصَّلًا- عَزَّ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ، وَفُتِحَ بِهِ بَابٌ لِدَسَائِسِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَبَرُّمِ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ- وَكَانَ أَكْثَرُهُمَا مِنَ الطُّلَقَاءِ الَّذِينَ أَعْتَقَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، كَانَ هُوَ السَّبَبَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَكْرَارِ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُصِرِّينَ عَلَى الشِّرْكِ، النَّاقِضِينَ لِلْعَهْدِ، وَتَأْكِيدِهِ، وَإِقَامَةِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُوبِهِ، وَكَوْنِهِ مُقْتَضَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَوْضِعُ الضَّعْفِ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ نَعْرَةَ الْقَرَابَةِ، وَرَحْمَةَ الرَّحِمِ، وَبَقِيَّةَ عَصَبِيَّةِ النَّسَبِ؛ إِذْ كَانَ لَا يَزَالُ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ أُولُو قُرْبَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَكْرَهُونَ قِتَالَهُمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ إِيمَانَهُمْ، وَيَرْجُونَهُ إِذَا تُرِكُوا وَشَأْنَهُمْ، بَلْ كَانَ لِبَعْضِ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ بِطَانَةٌ وَوَلِيجَةٌ مِنْهُمْ، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا وَقَفَّى عَلَيْهِ بِفَضْلِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ، وَحُبُوطِ أَعْمَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى مَا كَانَ مِنْهَا خَيْرًا فِي نَفْسِهِ كَسِقَايَةِ الْحَاجِّ وَالْعِمَارَةِ الصُّورِيَّةِ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ- بَعْدَ هَذَا- بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ فَضْلِ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَمَا بَشَّرَ بِهِ أَهْلَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مِنْهُ رُضْوَانٌ وَجَنَّاتٌ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ، لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَرْكِ وِلَايَةِ الْكَافِرِينَ، وَإِيثَارِ حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ عَلَى حُبِّ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ، وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالْعَشِيرَةِ وَالْمَالِ وَالسَّكَنِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ أَيْ: لَا يَتَّخِذْ أَحَدٌ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ أَبٍ أَوْ أَخٍ وَلِيًّا لَهُ يَنْصُرُهُ فِي الْقِتَالِ، أَوْ يُظَاهِرُ لِأَجْلِهِ الْكُفَّارَ، بِأَنْ يَتَّخِذَهُ بِطَانَةً وَوَلِيجَةً يُخْبِرُهُ بِأَسْرَارِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا يَسْتَعِدُّونَ بِهِ لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، كَمَا عُلِمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ مِنْ آيَةِ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً (16)} إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ أَيْ: إِنْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَآثَرُوهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْحُبِّ وَمَا يَقْتَضِيهِ هَذَا الْحُبُّ مِنْ قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَدَاوَتِهِمْ، كَمَا عُلِمَ مِنْ شَأْنِهِمْ مُنْذُ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ إِلَى نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَلاسيما جُمُوعُهُمْ فِي حُنَيْنٍ الْآتِي ذِكْرُهَا. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ قَبْلِ فَتْحِهَا أَنَّ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ قَدِ اسْتَخَفَّتْهُ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ فَكَتَبَ إِلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ سِرًّا يُعْلِمُهُمْ فِيهِ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِتَالِهِمْ؛ لِيَتَّخِذَ لَهُ بِذَلِكَ يَدًا عِنْدَهُمْ يُكَافِئُونَهُ عَلَيْهَا بِحِمَايَةِ مَا كَانَ لَهُ عِنْدَهُمْ مِنْ قَرَابَةٍ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ فِي نَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَائِهِمْ وَعَنْ مُوَادَّتِهِمْ، فَتَرَاجَعَ، فَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ تَعْلِيلٍ وَتَقْيِيدٍ لِلنَّهْيِ عَنِ الْمَوَدَّةِ وَالْمُوَالَاةِ فَهُوَ هُنَا، وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّتِهِ، وَقِيلَ: فِيمَا تَقَدَّمَ مِنِ امْتِنَاعِ الْعَبَّاسِ مِنَ الْهِجْرَةِ لَمَّا دُعِيَ إِلَيْهَا، وَقِيلَ: فِي كُلِّ مَنْ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ عِنْدَ مَا دُعُوا إِلَيْهَا، وَلَا يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. وَقِيلَ: فِي الَّذِينَ شَكَوْا مِمَّا أَوْجَبَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَحَدَّثُوا بِاسْتِنْكَارِهِ، وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نُزُولِهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، وَأَنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُمْ شَكَوْا مِنْهُ.
{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أَيْ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ وَالْحَالُ مَا ذُكِرَ فَأُولَئِكَ الْمُتَوَلُّونَ لَهُمْ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِجَمَاعَتِهِمْ، الْعَرِيقُونَ فِي الظُّلْمِ الرَّاسِخُونَ فِيهِ بِوَضْعِ الْوِلَايَةِ فِي مَوْضِعِ الْبَرَاءَةِ، وَالْمَوَدَّةِ فِي مَحَلِّ الْعَدَاوَةِ، دُونَ مَنْ لَمْ تَسْتَخِفَّهُ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ وَحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ النَّسَبِيَّةُ إِلَى أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى وِلَايَةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِمْ وَمُظَاهَرَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [60: 8 و9] فَإِنَّمَا النَّهْيُ عَنْ وِلَايَةِ الْحَرْبِ وَالنُّصْرَةِ لِلْكَافِرِينَ الْمُحَارِبِينَ لَنَا لِأَجْلِ دِينِنَا. وَمِثْلُهُ النَّهْيُ عَنْ تَوَلِّي أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَقَوْلُهُ فِيهَا: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [5: 51] فَالظُّلْمُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ وَالْوِلَايَةُ وَاحِدَةٌ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الظُّلْمَ فِي آيَةِ: براءة بِالشِّرْكِ؛ لِأَنَّ مُتَوَلِّيَ الْقَوْمِ مِنْهُمْ. كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي آيَةِ الْمِائِدَةِ: وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي الْوِلَايَةِ التَّامَّةِ دُونَ مِثْلِ مَا فَعَلَ حَاطِبٌ مُتَأَوِّلًا.
ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الدَّرَكَةِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ إِلَى الدَّرَكَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لَهَا فَقَالَ: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَجَّهَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخِطَابَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْجَرِيمَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ وِلَايَةُ الْكَافِرِينَ الْمُعَادِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِعُنْوَانِهِمْ مُبَاشَرَةً، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُخَاطِبَهُمْ فِي أَمْرِ الْجَرِيمَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهَا عَلَى فَرْضِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَعْطِفَ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ خِطَابًا مِنْهُ بِعُنْوَانِ صِفَةِ الْإِيمَانِ الْمُنَافِي لِمَضْمُونِهِ؛ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الَّتِي مِنْ شَأْنِ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِي وُقُوعِهِ أَوْ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَقَعَ وَهِيَ (إِنْ) وَلَمْ يُرَتِّبْ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى أَصْلِ الْحُبِّ، لِمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مِنْ مَجَامِعِ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا؛ لِأَنَّهُ غَرِيزِيٌّ، بَلْ رَتَّبَهُ عَلَى تَفْضِيلِ هَذِهِ الْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي الْحُبِّ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ الْمَوْعُودِ عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنْوَاعِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا مَا دُونَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ كَلِمَةِ جِهَادٍ هُنَا.