فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال القاضي أبو محمد: واختصار هذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما فتح مكة وكان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء فصار في اثني عشر ألفًا سمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن وألفافها وعليهم مالك بن عوف النصري وثقيف وعليهم عبد يا ليل بن عمرو وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفًا فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعوا بحنين، فلما تصافَّ الناس حمل المشركون من مجاني الوادي، فانهزم المسلمون، قال قتادة: ويقال إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء، وقال أبو عبد الرحمن الفهري: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، يومئذ وكان على فرس قد اكتنفه العباس عمه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وبين يديه أيمن بن أم أيمن، وثم قتل رحمه الله، فلما رأى رسول الله عليه وسلم شدة الحال نزل عن بغلته إلى الأرض، قاله البراء بن عازب، واستنصر الله عز وجل فأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها وجوه الكفار، وقال: شاهت الوجوه، وقال عبد الرحمن: تطاول من فرسه فأخذ قبضة التراب ونزلت الملائكة لنصره ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يا للأنصار، وأمر رسول الله عليه وسلم العباس أن ينادي أين أصحاب الشجرة أين أصحاب سورة البقرة، فرجع الناس عنقًا واحدًا وانهزم المشركون، قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم قالوا لم بيق منا أحد إلا دخل في عينيه من ذلك التراب، واستيعاب هذه القصة في كتاب السير.
وظاهر كلام النحاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أربعة عشر ألفًا، وهذا غلط، و{مدبرين} نصب على الحال المؤكدة كقوله: {وهو الحق مصدقًا} [البقرة: 91] والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولي على الأدبار. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} أي: في أماكن.
قال الفراء: وكل جمع كانت فيه ألف قبلها حرفان وبعدها حرفان لم يُجْرَ، مثل صوامع، ومساجد.
وجُريَ {حنين} لأنه اسم لمذكَّر، وهو وادٍ بين مكة والطائف، وإذا سمَّيتَ ماءً أو واديًا أو جبلًا باسم مذكَّر لا علَّة فيه، أجريته، من ذلك: حنين، وبدر، وحِراء، وثَبِير، ودابِق.
ومعنى الآية: أن الله عز وجل أعلمهم أنهم إنما يغلبون بنصر الله لا بكثرتهم.
وفي عددهم يوم حنين أربعة أقوال:
أحدها: أنهم كانوا ستة عشر ألفًا، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: عشرة آلاف، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: كانوا اثني عشر ألفًا، قاله قتادة، وابن زيد، وابن إسحاق، والواقدي.
والرابع: أحد عشر ألفا وخمسمائة، قاله مقاتل.
قال ابن عباس: فقال ذلك اليوم سلمة بن سلامة بن وقش، وقد عجب لكثرة الناس: لن نُغلَب اليوم من قِلَّة، فساء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كلامُه، ووُكلِوا إلى كلمة الرجل، فذلك قوله: {إذ أعجبتكم كثرتكم فلن تغن عنكم شيئًا} وقال سعيد بن المسيب: القائل لذلك: أبو بكر الصديق.
وحكى ابن جرير أن القائل لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقيل: بل العباس.
وقيل: رجل من بني بكر.
قوله تعالى: {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} أي: برحبها.
قال الفراء: والباء هاهنا بمنزلة في كما تقول: ضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها.
الإشارة إلى القصة:
قال أهل العلم بالسيرة، لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، تآمر عليه أشراف هوازن وثقيف، فجاءوا حتى نزلوا أوطاس، وأجمعوا المسير إليه، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما التقَوا أعجبتهم كثرتُهم فهُزموا.
وقال البراء بن عازب: لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فأقبلوا بالسهام، فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعضهم يقول: ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ جماعة من أصحابه منهم: أبو بكر، وعمر، وعلي، والعباس، وأبو سفيان بن الحارث.
وبعضهم يقول: لم يبق معه سوى العباس وأبي سفيان، فجعل النبي يقول للعباس: «نادِ: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة» فنادى، وكان صيِّتًا، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنَّت إلى أولادها، يقولون: يا لبيك، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتالهم، فقال: «الآن حمي الوطيس، أنا النبي لا كذب، انا ابن عبد المطلب» ثم قال للعباس: «ناولني حَصَيات» فناوله، فقال: «شاهت الوجوه» ورمى بها، وقال: «انهزموا وربِّ الكعبة» فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا.
وقيل: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفًا من تراب، فرماهم به فانهزموا.
وكانوا يقولون: ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه بالتراب. اهـ.

.قال القرطبي:

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}
فيه ثمان مسائل:
الأولى قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} لما بلغ هوازِنَ فتح مكة جمعهم مالك بن عَوف النّصريّ من بني نصر بن مالك، وكانت الرياسة في جميع العسكر إليه، وساق مع الكفار أموالهم ومواشيهم ونساءهم وأولادهم، وزعم أن ذلك يحمي به نفوسهم وتشتدّ في القتال عند ذلك شوكتهم.
وكانوا ثمانية آلاف في قول الحسن ومجاهد.
وقيل: أربعة آلاف من هَوَازن وثَقيف.
وعلى هوازن مالك بن عوف، وعلى ثَقيف كِنانة بن عبد، فنزلوا بأوّطاس.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي حَدْرَد الأسلميّ عَيْنًا، فأتاه وأخبره بما شاهد منهم، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قصدهم، واستعار من صَفْوان بن أُميّة بن خلف الجُمَحيّ دروعًا.
قيل: مائة درع.
وقيل: أربعمائة درع.
واستسلف من ربيعة المخزوميّ ثلاثين ألفًا أو أربعين ألفًا؛ فلما قَدِم قضاه إياها.
ثم قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لك في أهلك ومالك إنما جزاء السّلف الوفاء والحمد». خرّجه ابن ماجه في السّنن.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفًا من المسلمين؛ منهم عشرة آلاف صحبوه من المدينة، وألفان من مُسْلِمة الفتح وهم الطلقاء إلى من انضاف إليه من الأعراب؛ من سُليم وبني كِلاب وعَبْس وذُبيان.
واستعمل على مكة عتّاب بن أسِيد.
وفي مخرجه هذا رأى جهال الأعراب شجرة خضراء، وكان لهم في الجاهلية شجرة معروفة تُسَمّى ذاتَ أنْواط، يخرج إليها الكفار يومًا معلومًا في السنة يعظمونها؛ فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذات أنواط.
فقال عليه السَّلام: «الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلِهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبنّ سَنن مَن قبلكم حَذْوَ القُذّة بالقُذّة حتى أنهم لو دخلوا جُحر ضَبّ لدخلتموه» فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى وادي حُنين، وهو من أودية تُهامة، وكانت هوازن قد كَمَنت في جَنَبتِي الوادي وذلك في غَبش الصبح فحملت على المسلمين حملة رجل واحد، فانهزم جمهور المسلمين ولم يَلْوِ أحد على أحد، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت معه أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته عليّ والعباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر، وأُسامة بن زيد؛ وأَيْمَن بن عبيد وهو أيمن بن أُمّ أَيمن قُتل يومئذ بحنُين وربيعة بن الحارث، والفضل بن عباس، وقيل في موضع جعفر بن أبي سفيان: قُثَم بن العباس.
فهؤلاء عشرة رجال؛ ولهذا قال العباس:
نصرْنا رسولَ اللَّه في الحرب تسعةً ** وقد فرّ مَن قد فرّ عنه وأقشعوا

وعاشرُنا لاقَى الحمام بنفسه ** بما مَسّه في اللَّه لا يتوَجّع

وثبتت أُمّ سُليم في جملة من ثبت، مُحْتزمةً ممسكة بعيرًا لأبي طلحة وفي يدها خَنْجر.
ولم ينهزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من هؤلاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشّهباء واسمها دُلْدُل.
وفي صحيح مسلم عن أنس قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أَكُفُّها إرادةَ ألاّ تسرِع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيّ عباسُ نادِ أصحابَ السَّمُرة».
فقال عباس وكان رجلًا صَيّتًا.
ويروى من شدّة صوته أنه أغير يومًا على مكة فنادى واصباحاه! فأسقطت كلُّ حامل سمعت صوته جَنِينها: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السَّمُرة؟ قال: فوالله لكأنّ عَطْفتهم حين سمِعوا صوتي عَطْفَةُ البقر على أولادها.
فقالوا: يا لَبَّيْكَ يا لبيك.
قال: فاقتتلوا والكفار... الحديث.
وفيه: قال ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَصَياتٍ فرمَى بهنّ وجوه الكفار.
ثم قال: «انهزموا ورَبِّ محمد» قال فذهبت أنظر فإذا القِتال على هيئته فيما أرى.
قال: فوالله ما هو إلاَّ أن رماهم بحَصَياته؛ فما زلت أرى حَدَّهم كَلِيلًا وأمْرَهم مُدْبِرًا.
قال أبو عمر: روينا من وجوه عن بعض من أسلم من المشركين ممن شهد حُنينًا أنه قال وقد سئل عن يوم حُنين: لقينا المسلمين فما لبثنا أن هزمناهم وأتبعناهم حتى انتهينا إلى رجل راكب على بغلة بيضاء، فلما رآنا زجرنا زجرة وانتهرنا، وأخذ بكفه حَصًى وترابًا فرَمى به وقال: «شَاهَتِ الوجوهُ» فلم تبق عين إلاَّ دخلها من ذلك، وما ملكنا أنفسنا أن رجعنا على أعقابنا.
وقال سعيد بن جُبير: حدّثنا رجل من المشركين؛ يوم حُنين قال: لما التقينا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقفوا لنا حَلْب شاة، حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشّهباء يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم تَلَقّانا رجال بيض الوجوه حِسان؛ فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا؛ فرجعنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها.
يعني الملائكة.
قلت: ولا تعارض؛ فإنه يحتمل أن يكون شاهت الوجوه من قوله صلى الله عليه وسلم ومن قول الملائكة معًا، ويدلّ على أن الملائكة قاتلت يوم حُنين.
فالله أعلم.
وقَتل عليّ رضي الله عنه يوم حُنين أربعين رجلًا بيده.
وسَبَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف رأس.
وقيل: ستة آلاف، واثنتي عشرة ألف ناقة سوى ما لا يعلم من الغنائم.
الثانية قال العلماء في هذه الغَزاة: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلًا له عليه بيّنة فله سَلَبه» وقد مضى في الأنفال بيانه.
قال ابن العربيّ: ولهذه النكتة وغيرِها أدخل الأحكاميُّون هذه الآية في الأحكام.
قلت: وفيه أيضًا جواز استعارة السلاح وجواز الاستمتاع بما استعير إذا كان على المعهود مما يستعار له مثله، وجواز استلاف الإمام المالَ عند الحاجة إلى ذلك وردّه إلى صاحبه.
وحديث صَفْوان أصلٌ في هذا الباب.
وفي هذه الغَزاة: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تُوطأ حامل حتى تَضَع ولا حائل حتى تحيض حيضة» وهو يدلّ على أن السَّبي يقطع العِصمة.
وقد مضى بيانه في سورة النساء مستوفًى.
وفي حديث مالك أن صفوان خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كافر، فشهد حُنينًا والطائف وامرأته مسلمة... الحديث.
قال مالك: ولم يكن ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرى أن يُستعان بالمشركين على المشركين إلاَّ أن يكونوا خَدَمًا أو نَواتيّة.
وقال أبو حنيفة والشافعيّ والثّوريّ والأوزاعيّ: لا بأس بذلك إذا كان حكم الإسلام هو الغالب، وإنما تكره الإستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر.