فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف صبي ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم وأتى الجعرانة فأحرم منها عمرة وقسم بها غنائم حنين وأوطاس وتألف أناسًا منهم أبو سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو والأقرع بن حابس فأعطاهم.
(ق) عن أنس بن مالك أن ناسًا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالًا من قريش المائة من الإبل فقالوا يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم قال أنس فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم غيرهم فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: حديث بلغني عنكم فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا يا رسول الله لم يقولوا شيئًا وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسوله الله يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإني أعطي رجالًا حديثي عهد بكفر أتألفهم أفلا ترضون أن تذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به» قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا.
قال: فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض قالوا سنصبر زاد في رواية قال أنس فلم نصبر.
(ق) عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئًا فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال: «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالى فأغناكم الله بي كلما قال شيئًا قالوا الله ورسوله أمن قال: فما منعكم أن تجيبوا رسول الله كلما قال شيئًا قالوا الله ورسوله آمن قال لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا أترضون أن تذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبوا بالنبي إلى رحالكم لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار ولو سلك الناس واديًا أو شعبًا لسلكت وادي الأنصار وشعبهم الأنصار شعار والناس دثار».
(م) عن رافع بن خديج قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس:
أتجعل نهبي ونهب العب ** يد بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس ** يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما ** ومن يخفض اليوم لا يرفع

قال: فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم له مائة.
(خ) عن المسور ومروان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد عليهم مالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما المال وإما السبي وقد كنت استأنيت بكم».
وفي رواية: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد عليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا إنا نختار سبينا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: «أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاءوا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل» فقال الناس قد طيبنا ذلك لهم يا رسول الله.
فقال لهم في ذلك: «إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» فرجع الناس فكلمتهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا فهذا الذي بلغنا من سبي هوازن وأنزل الله في قصة حنين لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين {إذ أعجبتكم كثرتكم} يعني حين قلتم لن نغلب اليوم من قلة {فلم تغن عنكم} يعني كثرتكم {شيئًا} يعني أن الظفر بالعدو ليس بكثرة العدد ولكن إنما يكون بنصر الله ومعونته {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} يعني بسعتها وفضائها {ثم وليتم مدبرين} يعني منهزمين. اهـ.

.قال أبو حيان:

{لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا}
لما تقدم قوله: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم} واستطرد بعد ذلك بما استطرد ذكرهم تعالى نصره إياهم في مواطن كثيرة، والمواطن مقامات الحرب وموافقها.
وقيل: مشاهد الحرب توطنون أنفسكم فيها على لقاء العدو، وهي جمع موطن بكسر الطاء قال:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى ** بإجرامه من قلة النيق منهوى

وهذه المواطن: وقعات بدر، وقريظة والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة.
ووصفت بالكثرة لأن أئمة التاريخ والعلماء والمغازي نقلوا أنها كانت ثمانين موطنًا.
وحنين واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز.
وصرف مذ هو بابه مذهب المكان، ولو ذهب به مذهب البقعة لم يصرف كما قال:
نصروا نبيهم وشدّوا أزره ** بحنين يوم تواكل الأبطال

وعطف الزمان على المكان.
قال الزمخشري: وموطن يوم حنين أوفى أيام مواطن كثيرة، ويوم حنين.
وقال ابن عطية: ويوم عطف على موضع قوله: {في مواطن}، أو على لفظه بتقدير: وفي يوم، فحذف حرف الخفض انتهى.
وإذ بدل من يوم وأضاف الإعجاب إلى جميعهم، وإن كان صادرًا من واحد لما رأى الجمع الكثير أعجبه ذلك وقال: لن نغلب اليوم من قلة.
والقائل قال ابن المسيب: هو أبو بكر، أو سلمة بن سلامة بن قريش، أو ابن عباس، أو رجل من بني بكر.
ونقل أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءه كلام هذا القائل، ووكلوا إلى كلام الرجل.
والكثرة بفتح الكاف، ويجمع على كثرات.
وتميم تكسر الكاف، وتجمع على كثر كشذوة وشذر، وكسرة وكسر، وهذه الكثرة عن ابن عباس ستة عشر ألفًا، وعن النحاس أربعة عشر ألفًا، وعن قتادة وابن زيد وابن إسحاق والواقدي: اثنا عشر ألفًا، وعن مقاتل عن ابن عباس: أحد عشر ألفًا وخمسمائة.
والباء في بما رحبت للحال، وما مصدرية أي: ضاقت بكم الأرض مع كونها رحبًا واسعة لشدة الحال عليهم وصعوبتها كأنهم لا يجدون مكانًا يستصلحونه للهرب والنجاة لفرط ما لحقهم من الرعب، فكانها ضاقت عليهم.
والرحب: السعة، وبفتح الراء الواسع.
يقال: فلان رحب الصدر، وبلد رحب، وأرض رحبة، وقد رحبت رحبًا ورحابة.
وقرأ زيد بن علي: {بما رحبت} في الموضعين بسكون الحاء وهي لغة تميم، يسكنون ضمة فعل فيقولون في ظرف ظرْف.
ثم وليتم مدبرين أي: وليتم فارين على أدباركم منهزمين تاركين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأسند التولي إلى جميعهم وهو واقع من أكثرهم، إذ ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من الأبطال على ما يأتي ذكره إن شاء الله، فيقول لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كان في عشرة آلاف من أصحابه، وانضاف إليه الفان من الطلقاء فصاروا اثني عشر ألفًا إلى ما انضاف إليهم من الأعراب من سليم، وبني كلاب، وعبس، وذبيان، وسمع بذلك كفار العرب فشق عليهم، فجمعت له هوزان وألفافها وعليهم مالك بن عوف النضري، وثقيف وعليهم عبد يا ليل بن عمرو، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفًا، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استعماله عتاب بن أسيد على مكة، حتى اجتمعوا بحنين، فلما تصاف الناس حمل المشركون من مجاني الوادي وكان قد كمنوا بها، فانهزم المسلمون.
قال قتادة: ويقال إنّ الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين، وبلغ فلهم مكة، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه على بغلة شهباء تسمى دلدل لا يتخلخل، والعباس قد اكتنفه آخذًا بلجامها، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وابنه جعفر، وعلي بن أبي طالب، وربيعة بن الحرث، والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد وهو أيمن ابن أم أيمن، وقتل بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء من أهل بيته، وثبت معه أبو بكر وعمر فكانوا عشرة رجال، ولهذا قال العباس:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة ** وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا

وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه ** بما مسه في الله لا يتوجع

وثبتت أم سليم في جملة من ثبت ممسكة بعيرًا لأبي طلحة وفي يدها خنجر، ونزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته إلى الأرض واستنصر الله، وأخذ قبضة من تراب وحصا فرمى بها في وجوه الكفار وقال: «شاهت الوجوه» قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا: لم يبق منا أحد إلى دخل عينية من ذلك التراب، وقال للعباس وكان صيتًا: نادِ أصحاب السمرة، فنادى الأنصار فخذًا فخذًا، ثم نادى يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقًا واحدًا وهم يقولون: لبيك لبيك، وانهزم المشركون فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال: «هذا حين حمي الوطيس» وركض رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفهم على بغلته.
وفي صحيح مسلم من حديث البراء: أنّ هوازن كانوا رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم أنزل نصرك» قال البراء: كنا والله إذا حمي البأس نتقي به صلى الله عليه وسلم، وأنّ الشجاع منا الذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي أول هذا الحديث: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: اشهد عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ولى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ}
الخطابُ للمؤمنين خاصة {فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} من الحروب وهي مواقُعها ومقاماتها والمرادُ بها وقَعاتُ بدر وقُرَيظةَ والنَّضيرِ والحُدَيبية وخيبَر وفتحُ مكة {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} عطفٌ على محل (في مواطن) بحذف المضافِ في أحدهما أي وموطنِ يوم حنين، أو في أيامِ مواطنَ كثيرةٍ ويومَ حنين ولعل التغييرَ للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثباتِ من أول الأمر وقيل: المرادُ بالموطِن الوقتُ كمقتل الحسين، وقيل: يومَ حنين منصوبٌ بمضمر معطوفٍ على نصركم أي ونصرَكم يومَ حنين.
{إِذَ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} بدلٌ من يومَ حنينٍ ولا منعَ فيه من عطفه على محل الظرفِ بناءً على أنه لم يكن في المعطوف عليه كثرةٌ ولا إعجابٌ إذ ليس من قضية العطفِ مشاركةُ المعطوفين فيما أضيف إليه المعطوفُ، أو منصوبٌ بإضمار اذكُرْ، وحنينٌ وادٍ بين مكةَ والطائفِ كانت فيه الوقعةُ بين المسليمن وهم اثنا عشر ألفًا، عشرةُ آلافٍ منهم ممن شهد فتحَ مكةَ من المهاجرين والأنصار وألفانِ من الطلقاء، وبين هَوازِنَ وثقيفٍ وكانوا أربعةَ آلافٍ فيمن ضامهم من أمداد سائر العرب وكانوا الجمَّ الغفيرَ فلما التَقْوا قال رجلٌ من المسلمين اسمُه سلمةُ بنُ سلامةَ الأنصاري: لن نُغلَبَ اليومَ من قلة فساءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاقتتلوا قتالًا شديدًا فانهزم المشركون وخلَّوا الذراريَ فأكبَّ المسلمون على الغنائم فتنادى المشركون يا حُماة السوء اذكروا الفضائحَ فتراجعوا فأدركت المسلمين كلمةُ الإعجاب فانكشفوا وذلك قوله عز وجل: {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا} والإغناءُ إعطاءُ ما يُدفع به الحاجةُ أي لم تُعطِكم تلك الكثرةُ ما تدفعون به حاجتَكم شيئًا من الإغناء {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} أي برَحْبها وسَعتها على أن (ما) مصدريةٌ والباء بمعنى مع أي لا تجِدون فيها مفرًّا تطمئنُّ إليه نفوسُكم من شدة الرعبِ ولا تثبُتون فيها كمن لا يسعه مكان {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} رُوي أنه بلغ فَلُّهم مكةَ وبقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحده ليس معه إلا عمُّه العباسُ آخذًا بلجام بغلته وابنُ عمِّه أبو سفيانَ بنُ الحارث آخذًا بركابه وهو يركُض البغلةَ نحو المشركين وهو يقول: «أنا النبيُّ لا كذِب أنا ابنُ عبد المطلب» روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يحمِلُ على الكفار فيفِرُّون ثم يحمِلون عليه فيقف لهم فعلَ ذلك بضعَ عشْرَةَ مرة قال العباس: كنت أكُفَّ البغلة لئلا تُسرِعَ به نحوَ المشركين، وناهيك بهذه الواحدةِ شهادةَ صدقٍ على أنه عليه الصلاة والسلام كان في الشجاعة ورباطةِ الجأش سبّاقًا للغايات القاصيةِ وما كان ذلك إلا لكونه مؤيدًا من عند الله العزيز الحكيم فعند ذلك قال: «يا رب ائتني بما وعدتَني» وقال للعباس وكان صيِّتًا: «صِحْ بالناس» فنادى الأنصارَ فخِذًا فخِذًا ثم نادى يا أصحابَ الشجرةِ يا أصحابَ سورةِ البقرة فكرّوا عنقًا واحدًا وهم يقولون: لبيك لبيك وذلك. اهـ.