فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله في مَوَاطِنَ}
خطاب للمؤمنين خاصة وامتنان عليهم بالنصرة على الأعداء التي يترك لها الغيور أحب الأشياء إليه، والمواطن جمع موطن وهو الموضع الذي يقيم فيه صاحبه، وأريد بها مواطن الحرب أي مقاماتها ومواقفها ومن ذلك قوله:
كم موطن لولاي طحت كما هوى ** بأجرامه من قلة النيق منهوي

والمنع من الصرف لصيغة منتهى الجمهوع، واللام موطئة للقسم أي قسم والله لقد نصركم الله في مواقف ووقائع {كَثِيرَةٍ} منها وقعة بدر التي ظهرت بها شمس الإسلام، ووقعة قريظة والنضير والحديبية وأنهاها بعضهم إلى ثمانين.
وروي أن المتوكل اشتكى شكاية شديدة فنذر أن يتصدق إن شفاه الله تعالى بمال كثير فلما شفي سأل العلماء عن حد الكثير فاختلفت أقوالهم فأشير إليه أن يسأل أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم وقد كان حبسه في داره فأمر أن يكتب إليه فكتب رضي الله تعالى عنه يتصدق بثمانين درهمًا ثم سألوه عن العلة فقرأ هذه الآية وقال: عددنا تلك المواطن فبلغت ثمانين {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} عطف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على المكان وعكسه جائز على ما يقتضيه كلام أبي علي ومن تبعه.
نعم ظاهر كلام البعض المنع لأن كلًا من الظرفين يتعلق بالفعل بلا توسط العاطف، ومتعلقات الفعل إنما يعطف بعضها على بعض إذا كانت من جنس واحد، وقال آخرون: لا منع من نسق زمان على مكان وبالعكس إلا أن الأحسن ترك العاطف في مثله.
ومن منع العطف أو استحسن تركه قال: إنه معطوف بحذف المضاف أي وموطن يوم حنين، ولعل التغيير للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثبات من أول الأمر.
وقد يعتبر الحذف في جانب المعطوف عليه، أي في أيام مواطن، والعطف حينئذٍ من عطف الخاص على العام، ومزية هذا الخاص التي أشار إليها العطف هي كون شأنه عجيبًا وما وقع فيه غريبًا للظفر بعد اليأس والفرج بعد الشدة إلى غير ذلك، وليس المراد بها كثرة الثواب وعظم النفع ليرد أن يوم حنين ليس بأفضل من يوم بدر الذي نالوا به القدح المعلى وفازوا فيه بالدرجات العلا فلا تتأتى فيه نكتة العطف؛ وقيل: إن موطن اسم زمان كمقتل الحسين فالمعطوفان متجانسان وهو بعيد عن الفهم.
وأوجب الزمخشري كون {يَوْمٍ} منصوبًا بمضمر والعطف من عطف جملة على جملة أي ونصركم يوم حنين، ولا يصح أن يكون ناصبه {نَصَرَكُمُ} المذكور لأن قوله سبحانه: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} بدل من يوم حنين فيلزم كون زمان الإعجاب بالكثرة ظرف النصرة الواقعة في المواطن الكثيرة لاتحاد الفعل ولتقييد المعطوف بما يقيد به المعطوف عليه وبالعكس.
واليوم مقيد بالإعجاب بالكثرة والعامل منسحب على البدل والمبدل منه جميعًا، ويلزم من ذلك أن يكون زمان الإعجاب ظرفًا وقيدًا للنصرة الواقعة في المواطن الكثيرة وهو باطل إذ لا إعجاب في تلك المواطن.
وأجيب بأن الفعل في المتعاطفين لا يلزم أن يكون واحدًا بحيث لا يكون له تعدد أفراد كضربت زيدًا اليوم وعمرًا قبله وأضربه حين يقوم وحين يقعد إلى غير ذلك بل لابد في نحو قولك: زيد وعمرو من اعتبار الأفراد وإلا لزم قيام العرض الواحد بالشخص بمحلين مختلفين وهو لا يجوز ضرورة فلا يلزم من تقييده في حق المعطوف بقيد تقييده في حق المعطوف عليه بذلك، ولا نسلم أن هذا هو الأصل حتى يفتقر غيره إلى دليل، وقال بعضهم: إن ذلك إنما يلزم لو كان المبدل منه في حكم التنحية مع حرف العطف ليؤول إلى نصركم الله في مواطن كثيرة إذ أعجبتكم وليس كذلك بل يؤول إلى نصركم الله في مواطن كثيرة وإذ أعجبتكم ولا محذور فيه، وفي كون البدل قيدًا للمبدل منه نظر، وحنين واد بين مكة والطائف على ثلاثة أميال من مكة حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون هوزان وثقيفًا وحشما وفيهم دريد بن الصمة يتيمنون برأيه وأناسًا من بني هلال وغيرهم وكانوا أربعة آلاف وكان المسلمون على ما روى الكلبي عشرة آلاف وعلى ما روي عن عطاء ستة عشر ألفًا، وقيل: ثمانية آلاف، وصحح أنهم كانوا اثني عشر ألفًا العشر الذين حضروا مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء فلما التقوا قال سلمة بن سلامة أو أبو بكر رضي الله تعالى عنهما: لن نغلب اليوم من قلة إعجابًا بكثرتهم، وقيل: إن قائل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستبعد ذلك الإمام لانقطاعه صلى الله عليه وسلم عن كل شيء سوى الله عز وجل.
ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي في الدلائل عن الربيع أن رجلًا قال يوم حنين: لن نغلب من قلة فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن هذه الكلمة إذا لم ينضم إليها أمر آخر لا تنافي التوكل على الله تعالى ولا تستلزم الاعتماد على الأسباب، وإنما شقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انضم إليها من قرائن الأحوال مما يدل على الإعجاب، ولعل القائل أخذها من قوله عليه الصلاة والسلام: «خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولا يغلب اثنا عشر ألفًا من قلة كلمتهم واحدة» لكن صحبها ما صحبها من الإعجاب، ثم إن القوم اقتتلوا قتالًا شديدًا فأدرك المسلمون إعجابهم، والجمع قد يؤخذ بفعل بعضهم فولوا مدبرين وكان أول من انهزم الطلقاء مكرًا منهم وكان ذلك سببًا لوقوع الخلل وهزيمة غيرهم، وقيل: إنهم حملوا أولًا على المشركين فهزموهم فأقبلوا على الغنائم فتراجعوا عليهم فكان ما كان والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء تزول الجبال ولا يزول ومعه العباس وابن عمه أبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر وعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه وربيعة بن الحرث والفضل بن العباس وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد.
وقتل رضي الله تعالى عنه بين يديه عليه الصلاة والسلام وهؤلاء من أهل بيته.
وثبت معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فكانوا عشرة رجال، ولذا قال العباس رضي الله تعالى عنه:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة ** وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا

وعاشرنا لاقي الحمام بنفسه ** بما مسه في الله لا يتوجع

وقد ظهر منه صلى الله عليه وسلم من الشجاعة في تلك الوقعة ما أبهر العقول وقطع لأجله أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأنه عليه الصلاة والسلام أشجع الناس، وكان يقول إذ ذاك غير مكترث بأعداء الله تعالى:
أنا النبي لا كذب ** أنا ابن عبد المطلب

واختار ركوب البغلة إظهارًا لثباته الذي لا ينكره إلا الحمار وأنه عليه الصلاة والسلام لم يخطر بباله مفارقة القتال فقال للعباس وكان صيتًا: «صح بالناس» فناد يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقًا واحدًا لهم حنين يقولون: لبيك لبيك، ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا حين حمى الوطيس» ثم أخذ كفًا من تراب فرماهم ثم قال صلى الله عليه وسلم: «انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا، وتفصيل القصة على أتم وجه في كتب السير {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ} أي لم تنفعكم تلك الكثرة {شَيْئًا} من النفع في أمر العدو أو لم تعطكم شيئًا يدفع حاجتكم {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} أي برحبها وسعتها على أن {مَا} مصدرية والباء للملابسة والمصاحبة أي ضاقت مع سعتها عليكم.
وفيه استعارة تبعية إما لعدم وجدان مكان يقرون به مطمئنين أو أنهم لا يجلسون في مكان كما لا يجلس في المكان الضيق {ثُمَّ وَلَّيْتُم} أي الكفار ظهوركم على أن ولي متعدية إلى مفعولين كما في قوله سبحانه: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادبار} [الأنفال: 15] ويدل عليه كلام الراغب، وزعم بعضهم أنه لا حاجة إلى تقدير مفعولين لما في القاموس ولى تولية أدبر بل لا وجه له عند بعض وليس بشيء، والاعتماد على كلام الراغب في مثل ذلك أرغب عند المحققين بل قيام: إن كلام القاموس ليس بعمدة في مثله، وقوله تعالى: {مُّدْبرين} حال مؤكدة وهو من الإدبار بمعنى الذهاب إلى خلف والمراد منهزمين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}
لما تضمّنت الآيات السابقة الحث على قتال المشركين ابتداء من قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5]، وكان التمهيد للإقدام على ذلك مدرَّجا بإبطال حرمة عهدهم، لشركهم، وبإظهار أنّهم مضمرون العزم على الابتداء بنقض العهود التي بينهم وبين المسلمين لو قُدّر لهم النصر على المسلمين وآية ذلك: اعتداؤهم على خزاعة أحلاف المسلمين، وهمُّهم بإخراج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة بعد الفتح، حتى إذا انتهى ذلك التمهيد المدرج إلى الحثّ على قتالهم وضمان نصر الله المسلمين عليهم، وما اتّصل بذلك ممّا يثير حماسة المسلمين جاء في هذه الآية بشواهد ما سبق من نصر الله المسلمين في مواطن كثيرة، وتذكير بمقارنة التأييد الإلهي لحالة الامتثال لأوامره، وإنّ في غزوة حنين شواهد تشهد للحالين.
فالكلام استيناف ابتدائي لمناسبة الغرض السابق.
وأسند النصر إلى الله بالصراحة لإظهار أنّ إيثار محبّة الله وإن كان يُفيت بعض حظوظ الدنيا، ففيه حظ الآخرة وفيه حظوظ أخرى من الدنيا وهي حظوظ النصر بما فيه: من تأييد الجامعة، ومن المغانم، وحماية الأمة من اعتداء أعدائها، وذلك من فضل الله إذ آثروا محبّته على محبّة علائقهم الدنيوية.
وأكّد الكلام بـ {قد} لتحقيق هذا النصر لأنّ القوم كأنّهم نسوه أو شكّوا فيه فنزلوا منزلة من يحتاج إلى تأكيد الخبر.
و{مواطن}: جمع مَوْطِن، والموطن أصله مكان التوطّن، أي الإقامة.
ويطلق على مقام الحرب وموقفها، أي نصركم في مواقع حروب كثيرة.
و{يومَ} معطوف على الجار والمجرور من قوله: {في مواطن} فهو متعلّق بما تعلّق به المعطوف عليه وهو {نصركم} والتقدير: ونَصَركم يومَ حنين وهو من جملة المواطن، لأنّ مواطن الحرب تقتضي أيامًا تقع فيها الحرب، فتدلّ المواطن على الأيام كما تدلّ الأيام على المواطن، فلمّا أضيف اليوم إلى اسم مكانٍ علم أنّه موطِن من مواطن النصر ولذلك عطف بالواو لأنّه لو لم يعطف لتوهّم أنّ المواطن كلّها في يوم حنين، وليس هذا المراد.
ولهذا فالتقدير: في مواطن كثيرة وأياممٍ كثيرة منها موطن حنين ويومُ حنين.
وتخصيص يوم حنين بالذكر من بين أيام الحروب: لأنّ المسلمين انهزموا في أثناء النصر ثم عادَ إليهم النصر، فتخصيصه بالذكر لما فيه من العبرة بحصول النصر عند امتثال أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وحصول الهزيمة عند إيثار الحظوظ العاجلة على الامتثال، ففيه مثَل وشاهد لحالتي الإيثارين المذكورين آنفًا في قوله تعالى: {أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله} [التوبة: 24] ليتنبّهوا إلى أنّ هذا الإيثار قد يعرض في أثناء إيثار آخر، فهم لَمَّا خرجوا إلى غزوة حنين كانوا قد آثروا محبّة الجهاد على محبّة أسبابهم وعلاقاتهم، ثم هم في أثناء الجهاد قد عاودهم إيثار الحظوظ العاجلة على امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو من آثار إيثار محبّتها، وهي عبرة دقيقة حصل فيها الضّدان ولذلك كان موقع قوله: {إذ أعجبتكم كثرتكم} بديعًا لأنّه تنبيه على خطئِهم في الأدب مع الله المناسب لِمقامهم أي: ما كان ينبغي لكم أن تعتمدوا على كثرتكم.
و{حُنين} اسم واد بين مكة والطائف قُرب ذي المجاز، كانت فيه وقعَة عظيمة عقب فتح مكة بين المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا اثني عشر ألفًا، وبين هوازن وثقيف وألفًا فهما، إذ نهضوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم حمية وغضبًا لهزيمة قريش ولفتح مكة، وكان على هوازن مالك بن عوف، أخو بني نصر، وعلى ثقيف عبد يَا لِيل بن عمرو الثقفي، وكانوا في عدد كثير وساروا إلى مكة فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتّى اجتمعوا بحُنين فقال المسلمون: لن نغلب اليومَ من قلّة، ووثقوا بالنصر لقوّتهم، فحصلت لهم هزيمة عند أوّل اللقاء كانت عتابًا إلهيًا على نسيانهم التوكّل على الله في النصر، واعتمادهم على كثرتهم، ولذلك روي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا سمع قول بعض المسلمين: لن نغلب من قلّة ساءهُ ذلك، فإنّهم لمّا هبطوا وادي حنين كان الأعداء قد كمنوا لهم في شعابه وأحنائه، فما راع المسلمين وهم منحدرون في الوادي إلاّ كتائبُ العدوّ وقد شَدَّت عليهم وقيل: إنّ المسلمين حملوا على العدوّ فانهزم العدوّ فلحقوهم يغنمون منهم، وكانت هوازن قومًا رُماة فاكثبوا المسلمينَ بالسهام فأدبر المسلمون راجعين لا يلوي أحد على أحد، وتفرّقوا في الوادي، وتطاول عليهم المشركون ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت في الجهة اليمنى من الوادي ومعه عشرة من المهاجرين والأنصار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباسَ عمَّه أن يصرخ في الناس: يا أصحاب الشجرة أو السمرة يعني أهل بيعة الرضوان يا معشر المهاجرين يا أصحاب سورة البقرة يعني الأنصار هلمّوا إلي، فاجتمع إليه مائة، وقاتلوا هوازن مع من بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم واجتلد الناس، وتراجع بقية المنهزمين واشتدّ القتال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الآن حَمِي الوطيس» فكانت الدائرةُ على المشركين وهُزموا شرّ هزيمة وغنمت أموالهم وسُبيت نساؤهم.