فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قالت: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريذة الضبي، قال: أخبرنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني الحافظ قالا: أعني التنوخي والطبراني أخبرنا عبيد الله بن رماحس زاد التنوخي بن محمد بن خالد بن حبيب بن قيس بن رمادة من الرملة على بريدين في ربيع الآخر من سنة ثمانين ومائتين، وقال الطبراني ابن رماحس الجشمي القيسي برمادة الرملة سنة سبع وسبعين ومائتين، قال: حدثنا أبو عمرو زياد بن طارق زاد التنوخي الجشمي.
وقال الطبراني وكان قد أتت عليه عشرون ومائة سنة قال التنوخي عن زياد أنبأنا زهير أبو جندل وكان سيد قومه وكان يكنى أبا صرد.
قال: لما كان يوم حنين أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا هو يميز بين الرجال والنساء، وثبت حتى قعدت بين يديه أذكره حيث شب ونشأ في هوازن، وحيث أرضعوه فأنشأت أقول: وقال الطبراني عن زياد قال: سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول: لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قوم هوازن، وذهب يفرق السبي والشاء، فأتيته فأنشأت أقوال هذا الشعر:
امنن علينا رسول الله في كرم ** فإنك المرء نرجوه وننتظر

امنن على بيضة قد عاقها قدر ** مفرق شملها في دهرها غير

أبقت لنا الحرب هتافًا على حرن ** على قلوبهم الغماء والغمر

إن لم تداركهم نعماء تنشرها ** يا أرجح الناس حلمًا حين يختبر

امنن على نسوة قد كنت ترضعها ** إذ فوك يملأوها من محضها الدرر

إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ** وإذ يزينك ما تأتي وما تذر

يا خير من مرحت كمت الجياد به ** عند الهياج إذا ما استوقد الشرر

لا تجعلنا كمن شالت نعامته ** واستبق منا فإنا معشر زهر

إنا نؤمل عفوًا منك نلبسه ** هذى البرية أن تعفو وتنتصر

إنا لنشكر للنعمى وقد كفرت ** وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر

فألبس العفو من قد كنت ترضعه ** من أمهاتك أن العفو مشتهر

واعف عفا الله عما أنت راهبه ** يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر

وفي رواية الطبراني تقديم وتأخير في بعض الأبيات، وتغيير لبعض ألفاظ، فترتيب الأبيات بعد قوله: إذ أنت طفل قوله: لا تجعلنا، ثم إنا لنشكر، ثم فالبس العفو، ثم تأخير من مرحت، ثم إنا نؤمل، ثم فاعف.
وتغيير الألفاظ قوله: وإذ يربيك بالراء والباء مكان الزاي والنون.
وقوله للنعماء: إذ كفرت.
وقوله: إذ تعفو.
وفي رواية الطبراني قال: فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشعر قال صلى الله عليه وسلم: «ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم» وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله.
وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله.
وفي رواية التنوخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فللَّه ولكم» وقالت الأنصار: ما كان لنا فللَّه ولرسوله، ردّت الأنصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال. اهـ.

.قال أبو السعود:

{ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاء}
أن يتوبَ عليه منهم لحكمة تقتضيه أي يوفقه للإسلام {والله غَفُورٌ} يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي {رَّحِيمٌ} يتفضل عليهم ويثيبهم.
روي أن ناسًا منهم جاءوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خيرُ الناسِ وأبرُّ الناس وقد سُبيَ أهلونا وأولادنا وأُخذت أموالُنا. قيل: سُبيَ يومئذ ستةُ آلافِ نفسٍ وأُخذ من الإبل والغنمِ ما لا يُحصى فقال عليه الصلاة والسلام: «إن عندي ما ترون إن خيرَ القولِ أصدقُه، اختاروا إما ذرارِيَكم ونساءَكم وإما أموالَكم» قالوا: ما كنا نعدِل بالأحساب شيئًا فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: «إن هؤلاء جاءونا مسلمين وإنا خيَّرناهم بين الذراري والأموالِ فلم يعدِلوا بالأحساب شيئًا فمن كان بيده سبْيٌ وطابت نفسُه أن يرُدَّه فشأنُه، ومن لا فليُعطِنا وليكُنْ قَرْضًا علينا حتى نُصيبَ شيئًا فنعُطِيَه مكانه»، قالوا: قد رضِينا وسلّمنا فقال عليه الصلاة والسلام: «إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمُروا عُرفاءَكم فليرفعوا ذلك إلينا» فرَفَعتْ إليه العرفاءُ أنهم قد رضُوا. اهـ.

.قال الألوسي:

{ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك} التعذيب {على مَن يَشَاء} أن يتوب عليه منهم لحكمة تقتضيه والمراد يوفقه للإسلام {والله غَفُورٌ} يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي {رَّحِيمٌ} يتفضل عليهم ويثيبهم بلا وجوب عليه سبحانه.
روى البخاري عن المسور بن مخرمة أن أناسًا منهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس وقد سبى أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا، وقد سبى يومئذٍ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى فقال عليه الصلاة والسلام: إن عندي ما ترون إن خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئًا فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاؤنا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئًا فمن كان بيده شيء وطابت به نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضًا علينا حتى نصيب شيئًا فنعطيه مكانه قالوا: قد رضينا وسلمنا، فقال عليه الصلاة والسلام: إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا فرفعت إليه صلى الله عليه وسلم العرفاء أنهم قد رضوا. اهـ.

.قال القاسمي:

{ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء} أي: منهم، لحكمة تقتضيه، أي: يوفقه للإسلام {وَاللّهُ غَفُورٌ} أي: يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي {رَّحِيمٌ} أي: يتفضل عليهم ويثيبهم.
تنبيهات:
الأول: فيما نقل في غزوة حنين، وتسمى غزوة أوطاس، وهما موضعان بين مكة والطائف، فسميت الغزوة باسم مكانهما، وتسمى غزوة هوازن، لأنهم الذين أتوا لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة، في شوال سنة ثمان من الهجرة، فإن الفتح كان لعشر بقين من رمضان، وبعده أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة ليلة، وهو يقصر الصلاة، فبلغه أن هوازن وثقيف جمعوا له، وهم عامدون إلى مكة، وقد نزلوا حنينًا وكانوا، حين سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، يظنون أنه إنما يريهم، فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوف من بني نصر، وقد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وبني جُشَم، معاوية وبني سعد بن بكر، وناسًا من بني هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية، والأحلاف وبني مالك بن ثقيف بن بكر.
وفي جشم دريد بن الصمة رئيسهم وكبيرهم، شيخ كبير ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب، وكان شجاعًا مجربًا، وجميع أمر الناس إلى مالك بن عوف.
فلما أتاهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة، أقبلوا عامدين إليه، فأجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، يرى أنه أثبت لموقفهم، فلما نزل بأوطاس، اجتمع إليه الناس، فقال دريد: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نِعْمَ مجال الخيل، لا حَزْنٌ ضِرسٌ، ولا سهلٌ دَهْس، مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، ويُعَار الشاء وبكاء الصغير؟ قالوا: ساق مالك مع الناس نسائهم وأموالهم وأبناءهم ليقاتلوا عنها، فقال: راعيَ ضأن والله! وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك!
ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: لم يشهدها أحدٌ منهم: قال: غاب الحدّ والجِدّ، لو كان يوم علاءٍ ورفعةٍ لم يغب عنهم كعب ولا كلاب، ولودِدْت أنكم فعلتم ما فعلا. فمن شهدها منكم؟ قالوا: عَمْرو وعوف ابنا عامر. قال: ذانك الجذعان، لا ينفعان ولا يضران؛ ثم أنكر على مالك رأيه في ذلك وقال له: لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئًا، أرفعهم إلى ممتنع بلادهم، وعليا قومهم، ثم ألق الصبيان على متون الخيل شيئًا، فإن كانت لك، لحق بك من ورائك، وإن كانت لغيرك، كنت قد أحرزت أهلك ومالك.
قال: لا، والله لا أفعل ذلك، إنك قد كبرت، وكبر عقلك، والله لتطعنني يا معشر هوازن، أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري! وكره أن يكون لدريد بن الصمة فيها ذكر أو رأي. قالوا: أطعناك.
فقال دريد: هذا يوم لم أشهده، ولم يفتني. ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم، ثم شدوا شدة رجل واحد.
وبعث عيونًا من رجاله فأتوه، وقد تفرقت أوصالهم، فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ قالوا: رأينا رجالًا بيضًا، على خيل بُلْق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى. فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.
فلما سمع بهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، بعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي يستعلم خبرهم، فجاءه وأطلعه على جلية الخبر، وأنهم قاصدون إليه، فاستعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية مائة درع- وقيل أربعمائة- وخرج في اثني عشر ألفًا من المسلمين: عشرة آلاف الذين صحبوه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح، واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، ومضى لوجهه، وفي جملة من اتبعه عباس بن مرداس، والضحاك بن سفيان الكلابي، وجموع من عبس وذبيان، ومزينة، وبني أسد.
ومرّ في طريقه بشجرة سدر خضراء، وكان لهم في الجاهلية مثلها، يطوف بها الأعراب ويعظمونها، ويسمونها ذات أنواط، فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط، فقال لهم: «قلتم كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} والذي نفسي بيده! لتركبن سنن من كان قبلكم».
ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة، وهو واد حَزْن فتوسطوه في غبش الصبح، وقد كمنت هوازن في جانبيه، فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد، وناداهم صلى الله عليه وسلم فلم يرجعوا، وثبت معه أبو بكر وعمر وعلي والعباس وأبو سفيان بن الحرث وابنه جعفر، والفضل وقثم ابنا العباس، وجماعة سواهم، والنبي صلى الله عليه وسلم على بلغته البيضاء دلدل، والعباس آخذ بشكائمها، وكان جهير الصوت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي بالأنصار وأصحاب الشجرة- قيل: والمهاجرين- فما سمعوا الصوت وذهبوا ليرجعوا، صدهم ازدحام الناس عن أن يثنوا رواحلهم، فاستقاموا وتناولوا سيوفهم وتراسهم، واقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمع منهم حوالي المائة، فاستقبلوا هوازن، والناس متلاحقون، واشتد الحرب، وحمي الوطيس.
ولما غَشَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته، ثم قبض قبضة من تراب الأرض، ثم استقبل به وجوههم وقالت: «شاهت الوجوه»! فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه، ثم صدق المسلمون الحملة عليهم، وقذف الله في قلوب هوازن الرعب.
فلم يملكوا أنفسهم، فولوا منهزمين، ولحق آخر الناس، وأسرى هوازن مغلولة بين يديه، وغنم المسلمون عيالهم وأموالهم، واستحرّ القتل في بني مالك من ثقيف، فقتل منهم يومئذ سبعون رجلًا، وانحازت طوائف هوازن إلى أوطاس، واتبعتهم طائفة من خيل المسلمين الذين توجهوا من نخلة، فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه.
وبعث صلى الله عليه وسلم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن، أبا عامر الأشعري عمّ أبي موسى، فقاتلهم، وقتل بسهم رماه به سلمة بن دريد بن الصمة، فأخذ أبو موسى الراية، وشدّ على قاتل عمه، فقتله، وانهزم المشركون، وانفضّت جموع أهل هوازن كلها، واستشهد من المسلمين يومئذ أربعة، ثم جُمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا حنين وأموالها، فأمر بها فحبست بالجعرانة بنظر مسعود بن عَمْرو الغفاري.
وسار صلى الله عليه وسلم من فوره إلى الطائف، فحاصر بها ثقيف خمس عشرة ليلة، وقاتلوا من وراء الحصون، وأسلم من كان حولهم من الناس، وجاءت وفودهم إليه، ثم انصرف صلى الله عليه وسلم عن الطائف، ونزل الجعرانة فيمن معه من الناس وأتاه هناك وفد هوازن، مسلمين راغبين، فخيرهم بين العيال والأبناء والأموال، فاختاروا العيال والأبناء، وكلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم»، وقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن لم تطب نفسه عوّضه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نصيبه، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم بأجمعهم.
وكان عدد سبي هوازن ستة آلاف بين ذكر وأنثى، والإبل أربعة وعشرون ألفًا، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، وقسم صلى الله عليه وسلم الأموال بين المسلمين، ونقل كثيرًا من الطلقاء- وهم الذين منّ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإطلاق يوم فتح مكة من الأسر ونحوه- يتألفهم على الإسلام، مائة من الإبل، ومنهم مالك بن عوف النصريّ. فقال حين أسلم:
ما إن رأيتُ ولا سمعت بمثله ** في الناس كلهم بمثل محمد

أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتُدِي ** ومتى يشأ يخبرك عما في غدِ

وإذا الكتيبة عَرَدَتْ أنيابُها ** بالسمهري وضربِ كل مهندِ

فكأنه ليث على أشباله ** وسْط الهباءَة خادر في مَرْصَدِ