فصل: فصل: (في الذين تؤخذ منهم الجزية من الكفار):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: [في الذين تؤخذ منهم الجزية من الكفار]:

واختُلف في الذين تؤخذ منهم الجزية من الكفار، فالمشهور عن أحمد: أنها لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس، وبه قال الشافعي.
ونقل الحسن بن ثواب عن أحمد: أنه من سُبي من أهل الأديان من العرب والعجم، فالعرب إن أسلموا، وإلا السيف، وأولئك إن أسلموا، وإلا الجزية؛ فظاهر هذا أن الجزية تؤخذ من الكل، إلا من عابدي الأوثان من العرب فقط، وهو قول أبي حنيفة، ومالك.

.فصل: [في صفة الذين تؤخذ منهم الجزية]:

فأما صفة الذين تؤخذ منهم الجزية، فهم أهل القتال.
فأما الزَّمِنُ، والأعمى والمفلوج، والشيخ الفاني، والنساء، والصبيان، والراهب الذي لا يخالط الناس، فلا تؤخذ منهم.

.فصل: [في مقدار الجزية]:

فأما مقدارها، فقال أصحابنا: على الموسر: ثمانية وأربعون درهمًا، وعلى المتوسط: أربعة وعشرون، وعلى الفقير المعتمل: اثنا عشر، وهو قول أبي حنيفة.
وقال مالك: على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الوَرِق أربعون درهمًا، وسواء في ذلك الغني والفقير.
وقال الشافعي: على الغني والفقير دينار.
وهل تجوز الزيادة والنقصان مما يؤخذ منهم؟ نقل الأثرم عن أحمد: أنها تزاد وتنقَص على قدر طاقتهم، فظاهر هذا: أنها على اجتهاد الإمام ورأيه.
ونقل يعقوب بن بختان: أنه لا يجوز للامام أن ينقص من ذلك، وله أن يزيد.

.فصل: [في وقت وجوب الجزية]:

ووقت وجوب الجزية: آخر الحول، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: تجب في أول الحول.
فأما إذا دخلت سنة في سنة، فهل تسقط جزية السنة الماضية؟ عندنا لا تسقط.
وقال أبو حنيفة: تسقط.
فأما إذا أسلم، فانها تسقط بالإسلام.
فأما إن مات؛ فكان ابن حامد يقول: لا تسقط.
وقال القاضي أبو يعلى: يَحتمل أن تسقط. اهـ.

.قال القرطبي:

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
فيه خمس عشرة مسألة:
الأُولى قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} لما حَرّم الله تعالى على الكفار أن يقربوا المسجد الحرام، وجد المسلمون في أنفسهم بما قُطع عنهم من التجارة التي كان المشركون يوافون بها؛ قال الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} الآية. على ما تقدّم.
ثم أحلّ في هذه الآية الجِزْية وكانت لم تؤخذ قبل ذلك؛ فجعلها عِوضًا مما منعهم من موافاة المشركين بتجارتهم.
فقال الله عز وجل: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} الآية.
فأمر سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار لإصفاقهم على هذا الوصف، وخص أهل الكتاب بالذكر إكرامًا لكتابهم، ولكونهم عالمين بالتوحيد والرسل والشرائع والملل، وخصوصًا ذِكر محمد صلى الله عليه وسلم وملّته وأُمّته.
فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظُمت منهم الجريمة؛ فنبّه على محلهم ثم جعل للقتال غاية، وهي إعطاء الجزية بدلًا عن القتل.
وهو الصحيح.
قال ابن العربيّ: سمعت أبا الوفاء عليّ بن عقيل في مجلس النظر يتلوها ويحتجّ بها.
فقال: {قَاتِلُوا} وذلك أمر بالعقوبة.
ثم قال: {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} وذلك بيان للذنب الذي أوجب العقوبة.
وقوله: {وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} تأكيد للذنب في جانب الاعتقاد.
ثم قال: {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} زيادة للذنب في مخالفة الأعمال.
ثم قال: {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق} إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام.
ثم قال: {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} تأكيد للحجة؛ لأنهم كانوا يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
ثم قال: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ} فبيّن الغاية التي تمتدّ إليها العقوبة، وعيّن البدل الذي ترتفع به.
الثانية وقد اختلف العلماء فيمن تؤخذ منه الجزية؛ قال الشافعيّ رحمه الله: لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصّةً، عربًا كانوا أو عجمًا لهذه الآية؛ فإنهم هم الذين خُصّوا بالذكر فتوجّه الحكم إليهم دون من سواهم؛ لقوله عز وجل: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5].
ولم يقل: حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب.
وقال: وتقبل من المَجُوس بالسُّنّة؛ وبه قال أحمد وأبو ثَوْر.
وهو مذهب الثَّوريّ وأبي حنيفة وأصحابه.
وقال الأُوْزاعيّ: تؤخذ الجزية من كل عابد وَثَن أو نار أو جاحدٍ أو مكذّب.
وكذلك مذهب مالك؛ فإنه رأى أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد، عربيًا أو عجميًا، تَغْلَبيًّا أو قرشيًا، كائنًا من كان؛ إلا المرتدّ.
وقال ابن القاسم وأشهب وسُحنون: تؤخذ الجزية من مجوس العرب والأُمم كلها.
وأما عَبَدة الأوثان من العرب فلم يستنّ الله فيهم جزية، ولا يبقى على الأرض منهم أحد، وإنما لهم القتال أو الإسلام.
ويوجد لابن القاسم: أن الجزية تؤخذ منهم؛ كما يقول مالك.
وذلك في التفريع لابن الجَلاَّب، وهو احتمال لا نصّ.
وقال ابن وهب: لا تقبل الجزية من مجوس العرب وتقبل من غيرهم.
قال: لأنه ليس في العرب مجوسيّ إلا وجميعهم أسلم، فمن وُجد منهم بخلاف الإسلام فهو مرتد، يقتل بكل حال إن لم يسلم، ولا تقبل منهم جزية.
وقال ابن الجَهْم: تقبل الجزية من كل مَن دان بغير الإسلام؛ إلا ما أجمِع عليه من كفار قريش.
وذكر في تعليل ذلك أنه إكرام لهم عن الذلة والصغار، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال غيره: إنما ذلك لأن جميعهم أسلم يوم فتح مكة.
والله أعلم.
الثالثة وأما المجوس فقال ابن المنذر: لا أعلم خلافًا أن الجزية تؤخذ منهم.
وفي الموطّأ: مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر ابن الخطاب ذكر أمر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم.
فقال عبد الرّحمن بن عَوف: أشهدُ لسمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سُنّوا بهم سُنّة أهل الكتاب» قال أبو عمر: يعني في الجزية خاصّة.
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب» دليل على أنهم ليسوا أهل كتاب.
وعلى هذا جمهور الفقهاء.
وقد رُوي عن الشافعيّ أنهم كانوا أهل كتاب فبدّلوا.
وأظنه ذهب في ذلك إلى شيء رُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مِن وجه فيه ضعف، يدور على أبي سعيد الَبقّال؛ ذكره عبد الرزاق وغيره.
قال ابن عطية: وروي أنه قد كان بُعث في المجوس نبيّ اسمه زرادشت.
والله أعلم.
الرابعة لم يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه مقدارًا للجزية المأخوذة منهم.
وقد اختلف العلماء في مقدار الجزية المأخوذة منهم؛ فقال عطاء بن أبي رَباح: لا توقيت فيها، وإنما هو على ما صُولحوا عليه.
وكذلك قال يحيى بن آدم وأبو عبيد والطبرِيّ؛ إلاَّ أن الطبري قال: أقلّه دينار وأكثره لا حدّ له.
واحتجوا بما رواه أهل الصحيح عن عمرو بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البَحْرَيْن على الجزية.
وقال الشافعيّ: دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا يُنقص منه شيء؛ واحتج بما رواه أبو داود وغيره عن معاذ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارًا في الجزية.
قال الشافعيّ: وهو المبيِّن عن الله تعالى مراده.
وهو قول أبي ثَور.
قال الشافعيّ: وإن صُولحوا على أكثر من دينار جاز، وإن زادوا وطابت بذلك أنفسهم قُبل منهم.
وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام جاز، إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتّبن والإدام، وذَكر ما على الوسط من ذلك وما على المُوسر، وذكر موضع النزول والكِنّ من البرد والحَرّ.
وقال مالك فيما رواه عنه ابن القاسم وأشهب ومحمد بن الحارث بن زَنْجَويه: إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهمًا على أهل الورِق، الغني والفقير سواء ولو كان مجوسيًا.
لا يزاد ولا يُنقص على ما فرض عمر، لا يؤخذ منهم غيره.
وقد قيل: إنّ الضعيف يُخفَّف عنه بقدر ما يراه الإمام.
وقال ابن القاسم: لا يُنقص من فرض عمر لعسر ولا يزاد عليه لغنًى.
قال أبو عمر: ويؤخذ من فقرائهم بقدر ما يحتملون ولو درهمًا.
وإلى هذا رجع مالك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل: اثنا عشر، وأربعة وعشرون، وأربعون.
قال الثّوريّ: جاء عن عمر بن الخطاب في ذلك ضرائب مختلفة، فللوالي أن يأخذ بأيها شاء، إذا كانوا أهل ذِمّة.
وأما أهل الصلح فما صُولحوا عليه لا غير.
الخامسة قال علماؤنا رحمة الله عليهم: والذي دلّ عليه القرآن أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين؛ لأنه تعالى قال: {قَاتِلُواْ الذين} إلى قوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية} فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل.
ويدلّ على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلًا؛ لأنه لا مال له، ولأنه تعالى قال: {حتى يُعْطُواْ}.
ولا يُقال لمن لا يملك حتى يُعطي.
وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرّية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني.
واختُلف في الرهبان؛ فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تؤخذ منهم.
قال مُطَرِّف وابن الماجِشُون: هذا إذا لم يترهّب بعد فرضها، فإن فرضت ثم ترهّب لم يسقطها ترهّبه.
السادسة إذا أعطى أهلُ الجزية الجزية لم يؤخذ منهم شيء من ثمارهم ولا تجارتهم ولا زروعهم؛ إلاَّ أن يتجروا في بلاد غير بلادهم التي أقِرّوا فيها وصُولحوا عليها.
فإن خرجوا تجارًا عن بلادهم التي أقِرّوا فيها إلى غيرها أخذ منهم العشر إذا باعوا ونض ثمن ذلك بأيديهم، ولو كان ذلك في السنة مرارًا؛ إلاَّ في حملهم الطعام الحنطةَ والزيتَ إلى المدينة ومكة خاصة، فإنه يؤخذ منهم نصف العُشْر على ما فعل عمر.
ومن أهل المدينة من لا يرى أن يؤخذ من أهل الذمة العشر في تجارتهم إلاَّ مرّة في الحوْل، مثل ما يؤخذ من المسلمين.
وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وجماعةٍ من أئمة الفقهاء.
والأوّل قول مالك وأصحابه.
السابعة إذا أدّى أهل الجزية جزيتهم التي ضُربت عليهم أو صُولحوا عليها خُلِّيَ بينهم وبين أموالهم كلها، وبين كرومهم وعصرها ما ستروا خمورهم ولم يُعلنوا بيعها من مسلم، ومُنعوا من إظهار الخمر والخنزيز في أسواق المسلمين؛ فإن أظهروا شيئًا من ذلك أريقت الخمر عليهم، وأدّب من أظهر الخنزير.
وإن أراقها مسلم من غير إظهارها فقد تعدّى، ويجب عليه الضمان.
وقيل: لا يجب، ولو غصبها وجب عليه ردّها.
ولا يُعترَض لهم في أحكامهم ولا متاجرتهم فيما بينهم بالربا.