فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي الهداية أنها جزاء الكفر فهي من المجازاة، وقيل: أصلها الهمز من الجزء والتجزئة لأنها طائفة من المال يعطى، وقال الخوارزمي: إنها معرب كزيت وهو الخراج بالفارسية وجمعها جزى كلحية ولحى {عَن يَدٍ} يحتمل أن يكون حالًا من الضمير في {يُعْطُواْ} وأن يكون حالًا من الجزية؛ واليد تحتمل أن تكون اليد المعطية وأن تكون اليد الآخذة و{عَنْ} تحتمل السببية وغيرها أي يعطوا الجزية عن يد مؤاتية أي منقادين أو مقرونة بالانقياد أو عن يدهم أي مسلمين أو مسلمة بأيديهم لا بأيدي غيرهم من وكيل أو رسول لأن القصد فيها التحقير وهذا ينافيه ولذا منع من التوكيل شرعًا أو عن غنى أي أغنياء أو صادرة عنه ولذلك لا تؤخذ من الفقير العاجز أو عن قهر وقوة أي أذلاء عاجزين.
أو مقرونة بالذل أو عن إنعام عليهم فإن إبقاء مهجهم بما بذلوا من الجزية نعمة عظيمة أي منعمًا عليهم أو كائنة عن إنعام عليهم أو نقدًا أي مسلمة عن يد إلى يد أو مسلمين نقدًا، واستعمال اليد بمعنى الانقياد إما حقيقة أو كناية، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه، هذي يدي لعمار أي أنا منقاد مطيع له، واستعمالها بمعنى الغنى لأنها تكون مجازًا عن القدرة المستلزمة له، واستعمالها بمعنى الإنعام وكذا النعمة شائع ذائع، وما أمعنى النقدية فلشهرة يدًا بيد في ذلك، ومنه حديث أبي سعيد الخدري في الربا، وما في الآية يؤول إليه كما لا يخفى على من له اليد الطولى في المعاني والبيان.
وتفسير اليد هنا بالقهر والقوة أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة، وأخرج عن سفيان بن عيينة ما يدل على أنه حملها على ما يتبادر منها طرز ما ذكرناه في الوجه الثاني، وسائر الأوجه ذكرها غير واحد من المفسرين، وغاية القتال ليس نفس هذا الإعطاء بل قبوله كما أشير إليه، وبذلك صرح جمع من الفقهاء حيث قالوا: إنهم يقاتلون إلى أن يقبلوا الجزية، وإنما عبروا بالإعطاء لأنه المقصود من القبول {وَهُمْ صاغرون} أي أذلاء وذلك بأن يعطوها قائمين والقابض منهم قاعد قاله عكرمة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تؤخذ الجزية من الذمي ويوجأ عنقه، وفي رواية أنه يؤخذ بتلبيبه ويهز هزًا ويقال: أعط الجزية يا ذمي، وقيل: هو أن يؤخذ بلحيته وتضرب لهزمته، ويقال: أد حق الله تعالى يا عدو الله.
ونقل عن الشافعي أن الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم، وكل الأقوال لم نر اليوم لها أثرًا لأن أهل الذمة فيه قد امتازوا على المسلمين والأمر لله عز وجل بكثير حتى أنه قبل منهم إرسال الجزية على يد نائب منهم، وأصح الروايات أنه لا يقبل ذلك منهم بل يكلفون أن يأتوا بها بأنفسهم مشاة غير راكبين وكل ذلك من ضعف الإسلام عامل الله تعالى من كان سببًا له بعدله، وهي تؤخذ عند أبي حنيفة من أهل الكتاب مطلقًا ومن مشركي العجم والمجوس لا من مشركي العرب؛ لأن كفرهم قد تغلظ لما أن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم وأرسل إليهم وهو عليه الصلاة والسلام من أنفسهم ونزل القرآن بلغتهم وذلك من أقوى البواعث على إيمانهم فلا يقبل منهم إلا السيف أو الإسلام زيادة في العقوبة عليهم مع اتباع الوارد في ذلك، فلا يرد أن أهل الكتاب قد تغلظ كفرهم أيضًا لأنهم عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم معرفة تامة ومع ذلك أنكروه وغيروا اسمه ونعته من الكتاب، وعند أبي يوسف لا تؤخذ من العربي كتابيًا كان أو مشركًا وتؤخذ من العجمي كتابيًا كان أو مشركًا.
وأخذها من المجوس إنما ثبت بالسنة، فقد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يأخذها منهم حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، وقال الشافعي: رضي الله تعالى عنه إنها تؤخذ من أهل الكتاب عربيًا كان أو عجميًا ولا تؤخذ من أهل الأوثان مطلقًا لثبوتها في أهل الكتاب بالكتاب وفي المجوس بالخبر فبقي من وراءهم على الأصل.
ولنا أنه يجوز استرقاقهم وكل من يجوز استرقاقه يجوز ضرب الجزية عليه إذا كان من أهل النصرة لأن كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس أما الاسترقاق فظاهر لأن نفع الرقيق يعود إلينا جملة.
وأما الجزية فلأن الكافر يؤديها من كسبه والحال أن نفقته في كسبه فكان أداء كسبه الذي هو سبب حياته إلى المسلمين راتبة في معنى أخذ النفس منه حكمًا، وذهب مالك.
والأوزاعي إلى أنها تؤخذ من جميع الكفار ولا تؤخذ عندنا من امرأة ولا صبي ولا زمن ولا أعمى، وكذلك المفلوج والشيخ، وعن أبي يوسف أنها تؤخذ منه إذا كان له مال ولا من فقير غير معتمل خلافًا للشافعي ولا من مملوك ومكاتب ومدبر، ولا تؤخذ من الراهبين الذين لا يخالطون الناس كما ذكره بعض أصحابنا، وذكر محمد عن أبي حنيفة أنها تؤخذ منهم إذا كانوا يقدرون على العمل وهو قول أبي يوسف.
ثم إنها على ضربين جزية توضع بالتراضي والصلح فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق كما صالح صلى الله عليه وسلم بني نجران على ألف ومائتي حلة ولأن الموجب التراضي فلا يجوز التعدي إلى غير ما وقع عليه.
وجزية يبتدئ الإمام بوضعها إذا غلب على الكفار وأقرهم على أملاكهم فيضع على الغنى الظاهر الغنى في كل سنة ثمانية وأربعين درهمًا يؤخذ في كل شهر منه أربعة دراهم، وعلى الوسط الحال أربعة وعشرين في كل شهر درهمين وعلى الفقير المعتمل وهو الذي يقدر على العمل وإن لم يحسن حرفة اثني عشر درهمًا في كل شهر درهمًا، والظاهر أن مرجع الغنى وغيره إلى عرف البلد.
وبذلك صرح به الفقيه أبو جعفر، وإلى ما ذهبنا إليه من اختلافها غنى وفقرًا وتوسطًا ذهب عمر وعلي وعثمان رضي الله تعالى عنهم.
ونقل عن الشافعي أن الإمام يضع على كل حالم دينارًا أو ما يعدله والغني والفقير في ذلك سواء، لما أخرجه ابن أبي شيبة عن مسروق أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: خذ من كل حالم دينارًا أو عدله مغافر ولم يفصل عليه الصلاة والسلام، وأجيب عنه بأنه محمول على أنه كان صلحًا.
ويؤيده ما في بعض الروايات من كل حالم وحالمة لأن الجزية لا تجب على النساء، والأصح عندنا أن الوجوب أول الحول لأن ما وجب بدلًا عنه لا يتحقق إلا في المستقبل فتعذر إيجابه بعد مضي الحول فأوجبناها في أوله، وعن الشافعي أنها تجب في آخره اعتبارًا بالزكاة.
وتعقبه الزيلعي بأنه لا يلزمنا الزكاة لأنها وجبت في آخر الحول ليتحقق النماء فهي لا تجب إلا في المال النامي ولا كذلك الجزية فالقياس غير صحيح، واقتضى كما قال الجصاص في أحكام القرآن وجوب قتل من ذكر في الآية إلى أن تؤخذ منهم الجزية على وجه الصغار والذلة أنه لا يكون لهم ذمة إذا تسلطوا على المسلمين بالولاية ونفاذ الأمر والنهي لأن الله سبحانه إنما جعل لهم الذمة بإعطاء الجزية وكونهم صاغرين فواجب على هذا قتل من تسلط على المسلمين بالغضب وأخذ الضرائب بالظلم وإن كان السلطان ولاه ذلك وإن فعله بغير إذنه وأمره فهو أولى وهذا يدل على أن هؤلاء اليهود والنصارى الذين يتولون أعمال السلطان وأمرائه ويظهر منهم الظلم والاستعلاء وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة ولو قصد المسلم مسلمًا لأخذ ماله أبيح قتله في بعض الوجوه فما بالك بهؤلاء الكفرة أعداء الدين.
وقد أفتى فقهاؤنا بحرمة توليتهم الأعمال لثبوت ذلك بالنص، وقد ابتلى الحكام بذلك حتى احتاج الناس إلى مراجعتهم بل تقبيل أيديهم كما شاهدناه مرارًا، وما كل ما يعلم يقال فإنا لله وإنا إليه راجعون.
هذا وقد استشكل أخذ الجزية من هؤلاء الكفرة بأن كفرهم هن أعظم الكفر فكيف يقرون عليه بأخذ دراهم معدودات.
وأجاب القطب بأن المقصود من أخذ الجزية ليس تقريرهم على الكفر بل إمهال الكافر مدة ربما يقف فيها على محاسن الإسلام وقوة دلائله فيسلم، وقال الاتقاني: إن الجزية ليست بدلًا عن تقرير الكفر وإنما هي عوض عن القتل والاسترقاق الواجبين فجازت كإسقاط القصاص بعوض، أو هي عقوبة على الكفر كالاسترقاق، والشق الأول أظهر حيث يوهم الثاني جواز وضع الجزية على النساء ونحوهن.
وقد يجاب بأنها بدل عن النصرة للمقاتلة منا، ولهذا تفاوتت لأن كل من كان من أهل دار الإسلام يجب عليه النصرة للدار بالنفس والمال، وحيث إن الكافر لا يصلح لها لميله إلى دار الحرب اعتقادًا أقيمت الجزية المأخوذة المصروفة إلى الغزاة مقامها، ولا يرد إن النصرة طاعة وهذه عقوبة فكيف تكون العقوبة خلفًا عن الطاعة لما في النهاية من أن الخليفة عن النصرة في حق المسلمين لما في ذلك من زيادة القوة لهم وهم يثابون على تلك الزيادة الحاصلة بسبب أموالهم، وهذا بمنزلة ما لو أعاروا دوابهم للغزاة.
ومن هنا تعلم أن من قال: إنها بدل عن الإقرار على الكفر فقد توهم وهمًا عظيمًا. اهـ.

.قال القاسمي:

{قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
اعلم أنه لما ذكر تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة من عهدهم، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام وعدم الخوف من الفاقة المتوهمة من انقطاعهم، ذكر بعده حكم أهل الكتاب، وهو أن يقاتلوا إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية، منبهًا في تضاعيف ذلك على بعض طرق الإغناء الموعود على الوجه الكلي، مرشدًا إلى سلوكه ابتغاء لفضله، واستنجازًا لوعده.
قال مجاهد: نزلت الآية حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الروم، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك.
وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود، فصالحهم، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. انتهى.
ولا يخفى شمول الآية لكل ذلك بلا تخصيص.
قال ابن كثير: هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب- اليهود والنصارى- وكان ذلك في سنة تسع، ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم، فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفًا، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة، ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جدب، ووقت قيظ وحرّ.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك، ونزل بها، وأقام بها قريبًا من عشرين يومًا، ثم استخار الله في الرجوع، فرجع عامة ذلك لضيق الحال، وضعف الناس، كما سيأتي بيانه بعدُ إن شاء الله تعالى. انتهى.
والتعبير عن أهل الكتاب بالموصول المذكور، للإيذان بعليّة ما في حيز الصلة للأمر بالقتال، فإنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، كما أمر تعالى، إذ لديهم من فساد العقيدة، فيما يجب له تعالى وفي البعث، أعظم ضلال وزيغ {ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} يعني ما ثبت تحريمه في الكتاب والسنة.
وقيل: المراد برسوله الرسول الذي يزعمون اتباعه، فالمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادًا وعملًا، إذ غيّروا وبدّلوا أتباعًا لأهوائهم.
وقوله: هاب: فيكون المراد: لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم، وقوله تعالى: {دين الحق} من إضافة الموصوف للصفة، أو المراد بالحق: الله تعالى.
وقوله: {حَتى يُعْطُوا الجزيَةَ} أي: ما تقرر عليه أن يعطوه.
قال ابن الأثير: الجزية المال الذي يعقد عليه الكتابيّ الذمة، وهي فِعْلَة من الجزاء كأنها جَزَتْ عن قتله.
وقال الراغب: سميت بذلك للإجتزاء بها عن حقن دمهم.
وقال الشهاب: قيل مأخذها من الجزاء بمعنى القضاء. يقال: جزيته بما فعل، أو جازيته، أو أصلها الهمز من الجزء والتجزئة، لأنها طائفة من المال يعطى، وقيل: إنها معرف كزيت، وهو الجزية بالفارسية. انتهى.
وقوله تعالى: {عَن يَدٍ} حال من فاعل: {يَعْفُوا} واليد هنا إمّا بمعنى الإستسلام والإنقياد، يقال: هذه يدي لك، أي: استسلمت إليك، وانقدت لك، وأعطى يده أي: انقاد.
كما يقال في خلافه: نزع يده من الطاعة. لأن من أبى وامتنع، لم يعط يده، بخلاف المطيع المنقاد، وإما بمعنى النقد، أي: حتى يعطوها نقدًا غير نسيئة، فيكون كاليد في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب والفضة» إلى قوله: «يدًا بيد».
وإما بمعنى الجارحة الحقيقية، وعن بمعنى الباء، أي: لا يبعثون بها عن يد أحد، ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ.
وإما بمعنى: من طيبة نفس، قال أبو عبيدة: كل من انطاع لقاهر بشيء أعطاه، من غير طيب نفس به وقهر له، من يد في يد، فقد أعطاه عن يد.