فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي كتاب أشهر مشاهير الإسلام في بحث إجلاء أهل نجران ما نصه:
إن أساس الدعوة إلى الإسلام التبليغ، وأنه لا إكراه في الدين، فمن قبلها كان من المسلمين، ومن أبى فعليه أن يخضع لسلطانهم، وأن يعطيهم جزءًا من ماله يستعينون به على حماية ماله وعرضه ونفسه، وله عليهم حق الوفاء بما عاهدوه عليه، وقال: لا يُفْتَنَ عن دينه، وأن تكون له الذمة والعهد أنَّى حل، وحيثما وجد من ممالك الإسلام، ما دام وافيًا بعهده، مؤديًا لجزيته، لا يخون المسلمين، ولا يمالئ عليهم عدوّهم، وأحسن شاهد على هذا نسوقه إليك في هذا الفصل، خبر أهل نجران اليمن، وكانوا من الكتابيين، لتعلم كيف كانت معاملة أهل الذمة، ومبلغ محافظة الخلفاء على عهودهم معهم، ما لم يخونوا أو يغدروا.
وتحرير الخبر عنهم أنهم وفَدَ وفْدُهُمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام فأبوا، وسألوه الصلح، وأن يقبل منهم الجزاء، فصالحهم على شيء معلوم، يؤدونه كل سنة للمسلمين وكتب لهم بذلك كتابًا جعل لهم فيه ذمة الله وعهده، وأن لا يفتنوا عن دينهم، ومراتبهم فيه، ولا يحشروا ولا يعشروا، وأن يؤمنوا على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم، وغائبهم وشاهدهم وعيرهم، وبعثهم وأمثلتهم. لا يغير ما كانوا عليهن ولا يغير حق من حقوقهم، ولا يطأ أرضهم جيش ومن سأل منهم حقًا فبينهم النصف، غير ظالمين ولا مظلومين، ولهم على ذلك جوار الله، وذمة رسوله أبدًا، حتى يأتي أمر الله، ما نصحوا وأصلحوا.
واشترط عليهم أن لا يأكلوا الربا، ولا يتعاملوا به.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أقرهم على حالهم، وكتب لهم كتابًا على نحو كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه كان يتخوفهم، ويود إجلاءهم لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبقين في جزيرة العرب دينان».
ولما حضر أبا بكر الوفاة، أوصى عُمَر بن الخطاب بإجلاءهم لنقضهم العهد بإصابتهم الربا.
فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان، لأن العرب أمة حديثة عهد بالإسلام، قد عانى صلى الله عليه وسلم ما عانى في جمع كلمتها، وتوحيد وجهتها، فمن الخطر أن يوجد بين ظهرانيها قوم يدينون بغير دينها، فيفتنون من جاورهم عن الإسلام، على حداثة عهدهم فيه، وعدم تمكنهم بعدُ من أصوله الصحيحة.
هذا من وجه، ومن وجه آخر، فإن النجرانيين كانوا يتاجرون بالربا، ولا يخفى ما فيه من الضرر على من جاورهم من أهل اليمن، الذين ينضب التعاملُ بالربا معينَ ثروتهم، ويؤذن بفقرهم، على غير شعور منهم، لاسيما وأن الشريعة الإسلامية قد حرمته تحريمًا باتًا، ولا يؤمن من أن النجرانيين، باستمرارهم على تعاطي الربا، يحملون بعض من جاورهم من المسلمين على ارتكاب الإثم بالتعامل معهم بالربا.
ومع هذه الأسباب التي تلجيء إلى إكراه النجرانيين على الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرههم على ذلك، لأن شريعته لم تأذن بإكراه أهل الكتاب على الإسلام، لهذا تركهم على دينهم، بعد أن دعاهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن، فأبوا، وأعطاهم كتاب العهد المذكور، إلا أنه اشترط عليهم فيه أن لا يخونوا المسلمين، ولا يتعاملوا بالربا كما رأيت.
ولما استُخْلِفَ أبو بكر أكد لهم عهدهم الأول، مع أنه كان يرى في وجودهم في جزيرة العرب من الخطر ما كان يراه النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يسعه في أمرهم إلا ما وسع الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إذا علم أنهم خانوا العهد، وتعاملوا بالربا، أمر في حال مرضه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بإجلائهم عن جزيرة العرب، دون أن يُفتنوا في دينهم.
ولما استُخْلِف عمر رضي الله عنه، كان أول بعث بعثه، بعث أبي عبيد إلى العراق، وبعث يعلى بن أمية إلى اليمن، وأمره بإجلاء أهل نجران، وأن يعاملهم بالرأفة ويشتري أموالهم، ويخيرهم عن أرضهم في أي: أرض شاءوا من بلاد الإسلام، لا أن يعاملهم معاملة القوي الغالب، للضعيف المغلوب، كما هو شأن كل دولة من الدول قبل الإسلام وبعده، حتى الآن، في معاملة الأمم التي تخالف مذهبها، وتخضع لقوة سلطانها، فتفرقوا، فنزل بعضهم الشام، وبعضهم النجرانية بناحية الكوفة، وبهم سميت.
ولم تقف العناية بهم في إجلائهم، والمحافظة على ما بيدهم من العهد، وتعويضهم عما تركوه من العقار والمال عند هذا الحد، بل كانوا يجدون بعد ذلك من الخلفاء كل رعاية ورفق.
من ذلك أنهم شكوا مرة إلى عثمان رضي الله عنه- لما استخلف- ضيقَ أرضهم، ومزاحمة الدهاقين لهم، وطلبوا إليه تخفيف جزيتهم، فكتب إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط، عامله على الكوفة، كتابًا يوصيه بهم، ويأمره أن يضع عنهم مائتي حلة من جزيتهم، لوجه الله، وعقبى لهم من أرضهم.
وروى البلاذري، أنه لما ولي معاوية، أو يزيد بن معاوية، شكوا إليه تفرقهم، وموت من مات منهم، وإسلام من أسلم منهم، وأحضروه كتاب عثمان بن عفان، بما حطهم من الحلل، وقالوا: إنما ازددنا نقصانًا وضعفًا، فوضع عنهم مائتي حلة تتمة أربعمائة حلة.
فلما ولي الحجّاجُ العراق، وخرج ابن الأشعث عليه، اتهمهم والدهاقين بموالاته، فردّ جزيتهم إلى ما كانت عليه.
فلما ولَي عُمَر بن عبد العزيز الخلافة، شكوا إليه ظلم الحجاج ونقصهم، فأمر فأحصوا فبلغوا العشر من عدتهم، فألزمهم مائتي حلة جزية عن رءوسهم فقط.
فلما ولي يوسف بن عُمَر العراق، في خلافة الوليد بن يزيد الأموي ردّهم إلى ما كانوا عليه، عصبيةً للحجاج.
فلما انقضت دولة الأموي واستخلف أبو العباس السفاح، رفعوا إليه أمرهم، وما كان من عُمَر بن عبد العزيز ويوسف بن عُمَر، فردّهم إلى مائتي حلة ولما استخلف هارون الرشيد شكوا إليه تعنت العمال معهم، فأمر فكُتب لهم كتاب بالمائتي حلة، وبالغ بالرفق بهم، فأمر أن يعفوا من معاملة العمال، وأن يكون مؤداهم بيت المال بالحضرة، كي لا يتعنتهم أحد من العمال.
هذا ما رواه المؤرخون في شأن هؤلاء الكتابيين الذين أجلاهم عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه عن جزيرة العرب.
وقد رأيت مما مرّ مبلغ عناية عمر رضي الله عنه بهم، لما لم ير بُدًّا من إجلائهم للأسباب التي مر ذكرها.
وقد كان من السهل إكراههم على الإسلام، ودخولهم فيه، كما دخل أولئك الملايين من مشركي العرب، وعامة سكان الجزيرة العربية، طوعًا أو كرهًا.
وإنما هو الشرع الإسلامي، منع من إكراه غير مشركي العرب على الإسلام، كما منع من نقض العهد، وخفر الذمة إلا بسبب مشروع.
لهذا، لما خان النجرانيون عهدهم بتعاملهم بالربا، وقد عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يتعاملوا به في الجزيرة، ساغ لأمير المؤمنين إجلاؤهم إلى غيرها، بعد أن عوّضهم عن المال والعقار بمثله.
وما زال الخلفاء بعده- مبالغة بالرفق بأهل الكتاب، وقيامًا بواجب السيادة العادلة، ووفاء بعهد الله والرسول- يعاملون النجرانيين بأحسن ما تعامل به عامة الرعية من المسلمين ويدفعون عنهم أذى الظلم والإجحاف كما رأيت.
ونتج من هذه القصة ثلاثة أمور:
الأمر الأول: عدم إكراه النجرانيين على الإسلام، مع تعيّن الخطر من وجودهم في جزيرة العرب، لحداثة عهد أهلها بالإسلام، ذلك لأن عدم الإكراه من أصول الشريعة الإسلامية، والجهادُ الذي يعظم أمرَه أعداءُ المسلمين إنما شرع لحماية الدعوة لا للإكراه، إلا جهاد مشركي العرب يومئذ، فقد شرع لإرغامهم على الإسلام، لأسباب حكيمة لا تخفى على بصير، أهمها تطهير نفوس تلك الأمة العظيمة من شرور الوثنية، واستئصال شأفة الجهل والتوحش من جزيرة العرب، التي كانت وسطًا بين ممالك الشرق والغرب، من آسيا وإفريقيا وأوربا، بل هي نقطة الصلة السياسية والتجارية بين تلك الممالك، فانتشار أنوار المدنية والدين فيها، يستلزم انتشارها بطبيعة المجاورة، والإشراف على تلك الممالك أيضًا، قد كان ذلك كما هو معلوم.
والأمر الثاني: عدم حيد الخلفاء عن أمر الشارع فيما أمر به من الوفاء بالعهود، وتأكيدهم لعهد النجرانيين، الواحد تلو الآخر، على ضعف هؤلاء وقلتهم، وقوة الخلافة الإسلامية وسلطانها، وإن ذلك لم يكن عن رهبة أو رغبة، بل عن محض تمسك بالعهد، وعدل بين الشعوب الخاضعين لسلطة الخلافة، وسلطان الإسلام، من كل ملة ودين.
والأمر الثالث: حرص أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه على قاعدة حماية الذميّ في نفسه وماله، بتعويضه النجرانيين عن أرضهم ومالهم بالمثل من أرض المسلمين ومالهم، لما قضت الضرورة بإجلائهم عن أرضهم، إلى غيرها من بلاد المسلمين.
وقد ذكر في سيرة أبي بكر عن عمر رضي الله عنهما ما فعله من هذا القبيل من أهل عَرْبَسُوسَ من ثغور الروم، وكيف أنه لما أمر بإجلائهم عن أرضهم لخيانتهم جوار المسلمين، ونكثهم عهد الأمانة والصدق، أمر بأن يعوّضوا عن مالهم وعقارهم ونعمهم ضعفين.
وما زال الخلفاء في أيام الفتوح العظيمة وما بعدها يحافظون على حق القرار الثابت، والملك القديم، للأقوام المغلوبين للمسلمين، الخاضعين لسلطانهم، سواء كانوا من المسيحيين أو غيرهم، ولم يؤثر عن أحد منهم أنه طرد قومًا من أرضهم، أو انتزعها منهم بغير حق ولا عوض.
لا عبرة بما ربما يقع من هذا القبيل على بعض الأفراد من جور بعض العمال الذين غلبت شهواتهم على الفضيلة، فحادوا عن طريق الشرع، فإنه قد يصيب أفراد المسلمين من جور هؤلاء أكثر مما يصيب غيرهم، وليس في هذا ما يقدح في أصول الحكم الإسلامي الذي يأبى الظلم، ويدعو إلى الرأفة والعدل، هذا شان الإسلام في المحافظة على حقوق الأمم المغلوبة.
وقد رأيت مما تقدم أنه لم يعط للمسلمين من حقوق الغلب التي ينتحلها الغالبون في كل عصر، إلا ما تدعو إليه الضرورة القصوى، وتستلزمه سلامة الملك والدين، لا ما تدعو إليه شهوات الملك، ورغبات الأمة الغالبة.
وقد علم هذا المسلمون وخلفاؤهم، وأن لأهل الذمة ما لهم، وعليهم ما عليهم، فبالغوا في الرأفة بأهل جوارهم، والداخلين في ذمتهم من أرباب الملل الأخرى، فتركوا لهم حرية التملك والدين، لم ينازعوهم حقًا من حقوق المواطنة والجوار، بل كانوا يعتبرونهم جزءًا من الدولة، وعضوًا من أعضاء مجتمعهم لا غنى عن مشاركته في العمل، ومشاطرته أسباب السعادة المدنية، والحياة الوطنية.
يؤيد هذا اعتماد الخلفاء الأمويين والعباسيين على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في ترتيب الدواوين الخراج.
وترجمة علوم اليونان، وتقريب النابغين منهم في علوم الهندسة والطب إليهم، واعتمادهم في شفاء عللهم عليهم، بل بلغ بالمسلمين اعتبارهم لأهل الكتاب عضوًا من جسم هيأتهم الإجتماعية، لا يجوز فصله في حال من الأحوال أن جيوش التتار، لما اكتسحت بلاد الإسلام من حدود الصين إلى الشام، ووقع في أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى، ثم خضد المسلمون شالذمة، تار في الشام، ودان ملوكهم بالإسلام، خاطب شيخُ الإسلام ابن تيمية رأس العلماء في عصره أميرَ التتار قطلوشاه بإطلاق الأسرى، فسمح له بالمسلمين، وأبى أن يسمح له بأهل الذمة، فقال له شيخ الإسلام: لابد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيرًا لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة، فأطلقهم له. انتهى.
ومنه يعلم شأن الحكم الإسلاميَ في أهل الذمة، ومبلغ عناية الخلفاء والعلماء بهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ}
الظاهر أن هذه الآية استيناف ابتدائي لا تتفرّع على التي قبلها، فالكلام انتقال من غرض نبْذِ العهد مع المشركين وأحوال المعاملة بينهم وبين المسلمين إلى غرض المعاملة بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، إذ كان الفريقان مسالمين المسلمين في أول بدء الإسلام، وكانوا يحسبون أنّ في مدافعة المشركين للمسلمين ما يكفيهم أمر التصدّي للطعن في الإسلام وتلاشي أمره فلمّا أخذ الإسلام ينتشر في بلاد العرب يومًا فيومًا، واستقلّ أمره بالمدينة، ابتدأ بعض اليهود يظهر إحَنَه نحو المسلمين، فنشأ النفاق بالمدينة وظاهرت قُريظة والنضير أهل الأحزاب لما غزوا المدينة فأذهبهم الله عنها.
ثم لمّا اكتمل نصر الإسلام بفتح مكّة والطائف وعمومه بلاد العرب بمجيء وفودهم مسلمين، وامتد إلى تخوم البلاد الشامية، أوجست نصارى العرب خيفة من تطرّقه إليهم، ولم تغمض عين دولة الروم حامية نصارى العرب عن تداني بلاد الإسلام من بلادهم، فأخذوا يستعدّون لحرب المسلمين بواسطة ملوك غسّان سادة بلاد الشام في ملك الروم.