فصل: قال الشوكاني في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واللسان أيضًا آلة الكلام، والحق تبارك وتعالى يجازي على القول الطيب أو السيئ، ولكن الأصل في العمل هو اليد، وتطلق اليد ويراد بها القدرة التي تعمل، أو يراد بها النعمة، مثل قولنا: فلان له يد على فلان، وفلان له أياد بيضاء على الناس.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ}.
فهل المقصود بـ {عَن يَدٍ} أي من يُعْطُونَ الجزية، أم أيدي الآخرين الآخذين للجزية؟
إن هذا القول: {عَن يَدٍ} مثلما يقال: فلان نفض يده من هذا الأمر، أي خرج عن الأمر ولم يعد يعاون عليه. إذن يكون معنى {عَن يَدٍ} أي غير رد للنعمة. وعن يد منهم أي من المعطين للجزية، أو {عَن يَدٍ} أي: يدًا بيده فلا يجلس الواحد من أهل الكتاب في الأمة الإسلامية المحكومة بالإسلام في مكانه ويرسل رسولًا من عنده ليسلم الجزية، لا، بل عليه أن يدفعها ويحضرها بيده. أو نقول: {عَن يَدٍ} من معنى القدرة، فمن عنده قدرة، فتأخذ الجزية من القادر ولا نأخذها من العاجز.
إذن: يشترط في اليد إن كانت منهم ثلاثة ملاحظ؛ الملحظ الأول: أن يكونوا موالين لا نافضين لأيديهم منا ومن حكمنا، والملحظ الثاني: أن يأتي بها بنفسه لا أن يرسل بها رسولًا من عنده، وإن جاء بها لابد أن يأتي بها وهو ماش وأن يعطيها وهو واقف ومن يأخذ الجزية قاعد، وهذا هو معنى {وَهُمْ صَاغِرُونَ}. ولماذا يعطونها عن صَغار؟ لأن الحق عز وجل أراد للإسلام أن يكون جهة العلو، وقد صنع فيهم الإسلام أكثر من جميل، فلم يقتلهم ولم يرغمهم على الدخول إلى الإسلام؛ لذلك فعليهم أن يتعاملوا مع المسلمين بلا كبرياء ولا غطرسة، وأن يخضعوا لأحكام الإسلام، وأن يكونوا موالين للمسلمين، لا ناقضين الأيدي، وأن يؤدوا الجزية يدًا بيد، وأما العاجز وغير القادر فيعفى من دفع الجزية.
{حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} والصَّغَار من مادة الصاد والغين والراء، وتدل على معنيين؛ إن أردتها عن السن يقال صَغُر يَصْغُرُ مثل قولنا: فلان كبر يكبر. وإن أردتها في الحجم والمقام نقول صَغِر يصغَر، أي: صغر مقامًا أو حجمًا، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5].
وهنا في قوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} تعني أن يؤدوها عن انكسار لا عن علو، حتى إنَّ من يُعطي لا يظن أنه يعطي عن علو، ونقول له: لا، إن اليد الآخذة هنا هي اليد العليا. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيتين:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}
النجس مصدر لا يثنى ولا يجمع، يقال رجل نجس، وامرأة نجس، ورجلان نجس، وامرأتان نجس، ورجال نجس، ونساء نجس.
ويقال: نجس ونجس بكسر الجيم وضمها.
ويقال: نجْس بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف من المحرك.
قيل: لا تستعمل إلا إذا قيل معه رجس؛ وقيل ذلك أكثريّ لا كليّ.
و{المشركون} مبتدأ، وخبره المصدر، مبالغة في وصفهم بذلك حتى كأنهم عين النجاسة، أو على تقدير مضاف: أي ذوو نجس؛ لأن معهم الشرك وهو بمنزلة النجس.
وقال قتادة ومعمر وغيرهما: إنهم وصفوا بذلك لأنهم لا يتطهرون، ولا يغتسلون، ولا يتجنبون النجاسات.
وقد استدل بالآية من قال بأن المشرك نجس الذات، كما ذهب إليه بعض الظاهرية والزيدية.
وروي عن الحسن البصري، وهو محكيّ عن ابن عباس.
وذهب الجمهور من السلف والخلف ومنهم أهل المذاهب الأربعة إلى أن الكافر ليس بنجس الذات؛ لأن الله سبحانه أحلّ طعامهم، وثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك من فعله، وقوله، ما يفيد عدم نجاسة ذواتهم، فأكل في آنيتهم، وشرب منها، وتوضأ فيها، وأنزلهم في مسجده.
قوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} الفاء للتفريع، فعدم قربانهم للمسجد الحرام متفرّع على نجاستهم.
والمراد بالمسجد الحرام: جميع الحرم، روي ذلك عن عطاء، فيمنعون عنده من جميع الحرم، وذهب غيره من أهل العلم إلى أن المراد المسجد الحرام نفسه، فلا يمنع المشرك من دخول سائر الحرم.
وقد اختلف أهل العلم في دخول المشرك غير المسجد الحرام من المساجد؛ فذهب أهل المدينة إلى منع كل مشرك عن كل مسجد.
وقال الشافعي: الآية عامة في سائر المشركين خاصة في المسجد الحرام، فلا يمنعون من دخول غيره من المساجد.
قال ابن العربي: وهذا جمود منه على الظاهر؛ لأن قوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة، ويجاب عنه بأن هذا القياس مردود بربطه صلى الله عليه وسلم لثمامة بن أثال في مسجده، وإنزال وفد ثقيف فيه.
وروي عن أبي حنيفة مثل قول الشافعي، وزاد أنه يجوز دخول الذمي سائر المساجد من غير حاجة، وقيده الشافعي بالحاجة.
وقال قتادة: إنه يجوز ذلك للذميّ دون المشرك.
وروى عن أبي حنيفة أيضًا أنه يجوز لهم دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد، ونهى المشركين عن أن يقربوا المسجد الحرام هو نهي المسلمين عن أن يمكنوهم من ذلك، فهو من باب قولهم: لا أرينك هاهنا.
قوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} فيه قولان: أحدهما: أنه سنة تسع، وهي التي حج فيها أبو بكر على الموسم.
الثاني: أنه سنة عشر قاله قتادة، قال ابن العربي: وهو الصحيح الذي يعطيه مقتضى اللفظ، ومن العجب أن يقال: إنه سنة تسع، وهو العام الذي وقع فيه الأذان، ولو دخل غلام رجل داره يومًا فقال له مولاه: لا تدخل هذه الدار بعد يومك، لم يكن المراد اليوم الذي دخل فيه. انتهى..
ويجاب عنه بأن الذي يعطيه مقتضى اللفظ هو خلاف ما زعمه، فإن الإشارة بقوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} إلى العام المذكور قبل اسم الإشارة وهو عام النداء، وهكذا في المثال الذي ذكره، المراد النهي عن دخولها بعد يوم الدخول الذي وقع فيه الخطاب، والأمر ظاهر لا يخفى، ولعله أراد تفسير ما بعد المضاف إلى عامهم ولا شك أنه عام عشر، وأما تفسير العام المشار إليه بهذا، فلا شك ولا ريب أنه عام تسع، وعلى هذا يحمل قول قتادة.
وقد استدلّ من قال بأنه يجوز للمشركين دخول المسجد الحرام وغيره من المساجد بهذا القيد، أعني قوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} قائلًا إن النهي مختصّ بوقت الحج والعمرة، فهم ممنوعون عن الحج والعمرة فقط، لا عن مطلق الدخول.
ويجاب عنه بأن ظاهر النهي عن القربان بعد هذا العام يفيد المنع من القربان في كل وقت من الأوقات الكائنة بعده، وتخصيص بعضها بالجواز يحتاج إلى مخصص.
قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} العيلة: الفقر، يقال: عال الرجل يعيل: إذا افتقر، قال الشاعر:
وما يدري الفقير متى غناه ** وما يدري الغني متى يعيل

وقرأ علقمة وغيره من أصحاب ابن مسعود عايلة وهو مصدر: كالقايلة والعافية والعاقبة؛ وقيل: معناه: خصلة شاقة، يقال عالني الأمر يعولني: أي شقّ عليّ واشتدّ.
وحكى ابن جرير الطبري أنه يقال: عال يعول: إذا افتقر.
وكان المسلمون لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون إليه الأطعمة والتجارات، قذف الشيطان في قلوبهم الخوف من الفقر، وقالوا: من أين نعيش؟ فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله.
قال الضحاك: ففتح الله عليهم باب الجزية من أهل الذمة بقوله: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} الآية.
وقال عكرمة: أغناهم بإدرار المطر والنبات وخصب الأرض، وأسلمت العرب فحملوا إلى مكة ما أغناهم الله به.
وقيل: أغناهم بالفيء، وفائدة التقييد بالمشيئة: التعليم للعباد بأن يقولوا ذلك في كل ما يتكلمون به، مما له تعلق بالزمن المستقبل، ولئلا يفتروا عن الدعاء والتضرّع {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بأحوالكم {حَكِيمٌ} في إعطائه ومنعه، ما شاء كان ومالم يشأ لم يكن.
قوله: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} الآية، فيه الأمر بقتال من جمع بين هذه الأوصاف.
قال أبو الوفاء بن عقيل: إن قوله: {قَاتَلُواْ} أمر بالعقوبة، ثم قال: {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} فبين الذنب الذي توجبه العقوبة، ثم قال: {وَلاَ باليوم الآخر} فأكد الذنب في جانب الاعتقاد، ثم قال: {وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} فيه زيادة للذنب في مخالفة الأعمال، ثم قال: {وَلاَ يَدِينُونَ دِيِنَ الحق} فيه إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة، والأنفة عن الاستسلام، ثم قال: {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} تأكيد للحجة عليهم؛ لأنهم كانوا يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، ثم قال: {حتى يُعْطُواْ الجزية} فبيّن الغاية التي تمتد إليها العقوبة. انتهى..
قوله: {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} بيان للموصول مع ما في حيزه وهم أهل التوراة والإنجيل.
قوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ} الجزية وزنها فعلة من جزى يجزي: إذا كافأ عما أسدي إليه، فكأنهم أعطوها جزاء عما منحوا من الأمن.
وقيل: سميت جزية؛ لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه: أي يقضوه، وهي في الشرع: ما يعطيه المعاهد على عهده، و{عَن يَدٍ} في محل نصب على الحال.
والمعنى: عن يد مواتية غير ممتنعة.
وقيل: معناه: يعطونها بأيديهم غير مستنيبين فيها أحدًا.
وقيل: معناه: نقد غير نسيئة.
وقيل: عن قهر.
وقيل: معناه: عن إنعام منكم عليهم؛ لأن أخذها منهم نوع من أنواع الإنعام عليهم.
وقيل: معناه: مذمومون.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم الشافعي، وأحمد، أبو حنيفة، وأصحابه والثوري، وأبو ثور، إلى أنها لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب.
وقال الأوزاعي ومالك: إن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الكفرة كائنًا من كان، ويدخل في أهل الكتاب على القول الأوّل: المجوس.
قال ابن المنذر: لا أعلم خلافًا في أن الجزية تؤخذ منهم.
واختلف أهل العلم في مقدار الجزية.
فقال عطاء: لا مقدار لها.
وإنما تؤخذ على ما صولحوا عليه، وبه قال يحيى بن آدم، وأبو عبيد، وابن جرير إلا أنه قال: أقلها دينار، وأكثرها لا حدّ له.
وقال الشافعي: دينار على الغنيّ والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء، وبه قال أبو ثور.
قال الشافعي: وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز، وإذا زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم.
وقال مالك: إنها أربعة دنانير على أهل الذهب.
وأربعون درهمًا على أهل الورق، الغنيّ والفقير سواء، ولو كان مجوسيًا لا يزيد ولا ينقص.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، ومحمد بن الحسن، وأحمد بن حنبل: اثنا عشر، وأربعة وعشرون، وثمانية وأربعون.
والكلام في الجزية مقرّر في مواطنه، والحق من هذه الأقوال قد قرّرناه في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا.
قوله: {وَهُمْ صاغرون} في محل نصب على الحال، والصغار: الذالّ.
والمعنى: إن الذميّ يعطى الجزية حال كونه صاغرًا، قيل: وهو أن يأتي بها بنفسه ماشيًا غير راكب، ويسلمها وهو قائم، والمتسلم قاعد.
وبالجملة ينبغي للقابض للجزية أن يجعل المسلم لها حال قبضها صاغرًا ذليلًا.
وقد أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن جابر بن عبد الله، في قوله: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} الآية قال: إلا أن يكون عبدًا أو أحدًا من أهل الذمة.
وقد روي مرفوعًا من وجه آخرج أخرجه ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد وخدمكم» قال ابن كثير: تفرّد به أحمد مرفوعًا.